بعدَ شهرينِ من اندلاعِ حربِ أوكرانيا؛ تلوحُ في الأفقِ نذرُ كارثةٍ كونيّة؛ فإمّا حربٌ عالميّةٌ ثالثةٌ حذّر منها التلفزيونُ الروسيّ، وإمّا أزمةٌ إنسانيّةٌ غيرُ مسبوقةٍ منذ نهايةِ الحرب العالميّة الثانية، تشتملُ على أبعادٍ مركبةٍ ومتداخلة، في مجالات الغذاء والطاقة والتضخّم والبطالة وغير ذلك. فإذا علمنا أنّ البشريّة لم تتعافَ بعدُ من أثار فيروس كورونا، ولا من تداعيات الأزمة الاقتصاديّة المرتبطة بما أطلق عليه "نهاية العولمة" أو أزمة الليبراليّة الجديدة في أبرز مقولاتها وشعاراتها السوق الحرّ والديموقراطيّة؛ أدركنا كم أنَّ كوكبُنا، ومن ثَمَّ مصيرُنا، قريبٌ من حافة الهاوية. كلّنا يعرفُ تاريخ اندلاع الحرب؛ لكن، يبدو ألّا أحدًا من العالمين يعلمُ يقينًا متى يمكن أن تضع أوزارها، بما في ذلك بوتين نفسه. ترى هل الحربُ تعدّ ضرورةً وجوديّةً حتّى لا يستطيع بنو البشر شطبها من قواميس سلوكهم وخطاباتهم ومجالات فعلهم ونشاطهم؟ أليست الحروبُ لعنة؟!
في هذهِ المقالةِ سوف أعالجُ بعضَ جوانبِ الحربِ الدائرةِ رحاها هناك بين روسيا وحلف الناتو على الأراضي الأوكرانيّة؛ وقبل ذلك، دعونا نتوقّع نهايةً ما لهذه الحرب من بين 3 احتمالات: استمرارها بوتائر أقلّ حدّة مع بقاء المعاناة والنزيف فيما يمكن أن نطلق عليه "وحل أوكرانيا". ثاني الاحتمالات أن يفضي الأمرُ إلى حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ "تصعيدٍ ساحق" ودخول دولٍ أخرى على خطّ المواجهة مباشرة، وأخيرًا احتمال توقّفها فجأةً. يتراجعُ الجميع عن حافة الهاوية، فلا نعرف لها مهزومًا ولا منتصرًا، وإنّما خرابٌ سوف تستمرُّ أثارُهُ طويلًا، ويستغرقُ التعافي منه زمنًا وجهدًا ومالًا كثيرًا.
في السيناريو الأوّل والثاني تتفاقمُ الأزمةُ والمعاناةُ الإنسانيّةُ لتطالَ شعوبًا وقارات، وفي الثالث يتوقّف العقلاءُ أمامَ ما حدث، ويستخلصون العبرَ والدروسَ؛ ليشرعوا في إعادة هيكلة العالم وهندسته للردم على الفجوات، أو للتغلّب على الأزمات، أو لسنّ التشريعات الناظمة لعالمٍ أكثرَ إنسانيّةً وأقلَّ عنفًا وغباء.
روسيا:
لكن لماذا هذه الحرب؟ ما الدوافعُ الحقيقيّةُ وراءها؟ في الواقع، لا يمكنُ فهمُ ما يجري إلا بمعاينة ثلاث قضايا؛ شخصيّة بوتين، تداعيات انهيار الاتّحاد السوفييتي، السياسة الأمريكيّة وحلف الناتو، وبين هذا وذاك صعود الصين واحتقان أزمة الليبراليّة. خلال 20 عامًا تقريبًا تبدّلت الأحوالُ على روسيا المجروح كبرياؤها، والمنتهكة كرامتها وسيادتها والآفل نجمها بعد أن سطع طويلًا في ظلّ إمبراطوريّتين؛ قيصريّة وسوفيتيّة. خاضت أنواعًا كثيرةً من الحروب (الضمّ، الأرض المحروقة، الحرب المختلطة، ...)، وطوّرت استراتيجيّةً خارجيّةً على مراحل: من البناء الداخلي واستعادة العافية، مرورًا بترتيب الجوار القريب، وأخيرًا بقرع جدران النظام العالميّ أحاديّ القطبيّة (التوسّع)، متّكئةً على فكرٍ هجينٍ "الأوراسيّة الجديدة"، وقوّةٍ مزدوجة: ماليّةٍ من عوائد بيع النفط والغاز أساسًا، عسكريّةٍ محسّنةٍ ومطوّرةٍ لثاني أكبر قوّةٍ في الكون (ووريثة الجيش الأحمر). واجتمع ذلك كلّه تحت قيادةٍ حاسمة، لشخصيّةٍ لا تخلو من اضطرابٍ وغرابةٍ وقسوة؛ بوتين المحنّك المركّب من هوياتٍ متعدّدة، نبعت من تجاربه الشخصيّة وتجربة روسيا (رجل دولة، رجل التاريخ، الناجي، الدخيل/الغريب، الإمبريالي، المخبر). فماذا أراد قيصر روسيا و"أمينها العام": أراد إعادة بناء روسيا واستعادة مجدها وقوّتها وتحديثها، ومن ثَمَّ إرغام العالم على احترامها، وأخذ مصالحها وأمنها القوميّ بعين الاعتبار. أراد بناء اتّحادٍ أوراسي يوازي الاتّحاد الأوروبيّ، أراد بناء "عالمٍ روسي"، وضمان جوار روسيا القريب، أراد وقف توسّع الناتو شرقًا، وأيضًا أراد أن يكون شريكًا في نظامٍ دوليٍّ متعدّدِ الأقطاب، وثمّة أهدافٌ خفيّةٌ أخرى.
يبدو أنّ تقديرات بوتين لم تكن صائبةً، وكذلك التكتيكات التي اتّبعها (ردود فعل العالم، المقاومة الأوكرانيّة، الضربة الخاطفة، التهديد بالقوّة، ...)، كما يبدو أنّ اختلاط مقاربة "الحقّ المشروع" (التصعيد لأهدافٍ استراتيجيّة)، مع منطق "الصفقة" (التصعيدُ توطئةٌ لحلٍّ متّفقٍ عليه)، أفضى إلى ما يمكن أن نسمّيه "ورطة" (التصعيدُ بلا تفاهماتٍ وبلا أفقٍ سياسيٍّ واضح)، ما يجعلني أجزمُ بأنّ بوتين قد استُدرج فوقعَ في الفخّ!
كان العالمُ يتطلّع إلى عودة روسيا إلى مسرح السياسة الدوليّة بعد انكفاءٍ مؤقّتٍ لتوازن جبروت القطب الوحيد وهيمنته، أو لتقلّل من غلوائه، فإذا بها تعود بتطلعاتٍ وطموحاتٍ إمبراطوريّةِ الطابع، تستندُ إلى عقيدةٍ تجمع بين النسخة المُحافظة من القوميّة الروسيّة والمسيحيّة الأرثوذكسيّة، يدفعها إيمانُ قيادتها بأنّ من يحكم حافة الأرض يحكم أوراسيا، ومن يحكم أوراسيا يتحكّم في مصير العالم (حافة الأرض: الشاطئ الأوروبي والشرق الأوسط وآسيا المداريّة) وروسيا دينامو هذا المحور إذا امتلكت التنظيم الفعّال والتكنولوجيا المتطوّرة. لقد أراد بوتين تحقيقَ مكانةٍ دوليّةٍ اتّكاءً على أداةٍ عسكريّةٍ قويّةٍ وتأميم قطاع الطاقة. استنفر الغرب قوّته ودهاءه ليقوّض هذا الخطر الوجودي قبل أن يستفحل ويتمدّد ويتحالف مع خطرٍ آخرَ قادمٍ من الشرق الأدنى، خطرٍ مدجّجٍ بالسلاح ومعزّزٍ باقتصادٍ واعدٍ ومنافسٍ شرس.
أمريكا:
تبنّت الولايات المتّحدة، المستفيد الأوّل وربما الأوحد، من انهيار المنظومة الاشتراكيّة، سياسة "حثّ الدبّ" تجاهَ روسيا، بعد أن أهانتها زمن يلتسين، وضيّقت الخناق عليها في أكثرَ من مكانٍ ومجال، تريد تعزيز الناتو وتوسيعه وتحويله إلى خدمة مجالها الخاص بمصالحها وسياستها الخارجيّة التي تعبّر عن ثلاث مجمّعاتٍ نافذةٍ "مراكز قوّة" تتحكم في معطيات القرار الأمريكي وحيثياته؛ المجمع الصناعي الحربي، قطاع النفط والغاز والتعدين والقطاع المصرفي والعقاري. في غضون ذلك، وبهدف إضعافها، عملت على عزل روسيا، وأسهمت في تأليب الشعوب والدول المجاورة، ودعمت انقلاب كييف 2014. لقد هدفت السياسة الأمريكيّة إلى إعادة إنتاج هيمنتها على العالم، وإعادة أوروبا إلى بيت الطاعة، واستغلال الثروات الروسيّة الهائلة، فكانت أوكرانيا أداةً أمريكيّةً بامتياز، وها هي تدفعُ الثمنَ غاليًا! ولكن روسيا أيضًا سوف تدفع الثمن، وكذلك العالم، فبوقوعها في الفخّ، تخاطرُ روسيا لأن تصبح شريكًا صغيرًا وتابعًا للصين (مع اشتداد حاجتها لدعمها والوقوف معها)، أو أن تعود القهقرى عقودًا طويلةً إلى الوراء؛ عزلة وتخلف وانهيار مشروعها التحديثي.
في هذه الحرب لا يوجد سلاحٌ بمقدوره أن يؤذي الخصمَ فقط، وإنّما بارتدادِهِ على مستخدمِهِ كذلك (وقف تصدير الغاز، استخدام النوويّ التكتيكيّ، العقوبات الاقتصاديّة وهكذا)، فهذهِ حربٌ تدور بين خصومٍ حولَ كلِّ شيء؛ الطاقة والنفوذ والكرامة الوطنيّة والسيادة والتحكّم في النظام الدولي.
تظهرُ معطياتُ الحرب الحاليّة بوضوحٍ أنّ التكتيكَ الروسيّ الخاص بالمراوحة بين حربٍ محدودةٍ تربك الغرب، وتحقّق ميزةً عمليّةً للروس، وبين استراتيجيّةٍ كبرى تقوم على رؤيةٍ للعالم مبنيّةٍ على الهُويّة (ميسيانية وإمبرياليّة) قد وصل طريقًا مسدودًا: روسيا تفشلُ في تطويع أوكرانيا، وتستنزفُ داخليًّا جرّاء العقوبات الاقتصاديّة، وتعزل دوليًّا فلا تجد "لأوراسيتها الجديدة" ولا لممارساتها الحربيّة مؤيدًا ولا نصيرًا؛ لمَ لا وهي تعبر عن رؤيةٍ مظلمةٍ ومتشائمةٍ لمصير الإنسان، وتعيد الاتصال بأشكالٍ من العدميّة. إنّها تقوم على خيبة أملٍ عميقةٍ من الحداثة، بسبب فشل الشيوعيّة وإصلاحات التسعينات. حلّت الحرب المحدودة محلّ الاستراتيجية الكبرى فباء كلاهما بالفشل في تغيير النظام الدولي وتحقيق مكاسبَ فعليّةٍ لروسيا اقتصادية واستراتيجية.
يقول الدبلوماسي الأمريكي الشهير جورج كينان إنّ سياسة توسّع الناتو شرقًا استفزّت الروس، مذكّرًا أنّ أمريكا لديها حاجةٌ خاصةٌ وغيرُ واعيةٍ من قبل العديدين إلى عدوٍّ خارجي. مع نهاية الحرب الباردة كان يجب حلّ حلف الناتو فلم يعد له ما يبرّر وجوده باستثناء هذه "الحاجة" الأمريكيّة. اعتقد كينان، صاحب نظرية احتواء الاتّحاد السوفييتي، أنّ الاحتواءَ يجب أن يكون سياسيًّا واقتصاديًّا وأيديولوجيًّا ولا داعي للصدام العسكريّ. من خلال هذه الخلفيّة، فزع كينان وجنرالات عديدون من توسّع الناتو شرقًا في التسعينات.
قدّم عالمُ الواقعيّة الجديدة ميرشايمر تفسيرًا للسلوك الروسي باعتباره إجراءً لضمان "البقاء القومي"؛ حيث تخدم أوكرانيا روسيا باعتبارها "دولةً عازلة"، ذات أهميّةٍ استراتيجيّةٍ هائلة، غيرَ أنّ علماء آخرين يرون أن حجّة الأمن القومي واهيةٌ لتبرير الهجوم الروسي في ظلّ التوازن النوويّ، والأحرى أنّ روسيا إنّما أرادات أن تدفع نحو انهيار الهياكل الأمنيّة المشتركة بينها وبين أوروبا، فيما يشبه الانقلاب على استراتيجية الغرب وتبنّي مفهوم مختلف للأمن الأوروبي.
الصين:
عكست مواقفُ الدول من الصراع في أوكرانيا اختلافاتٍ واضحةً وجليّة؛ تفسّرها عواملُ جيو-سياسة، وضغوط اقتصاديّة، ومخاوف أمنيّة، وأيضًا توتّرات وخلافات سياسيّة محليّة أو إقليميّة. اللافت أنّ بعض الدول غلّبت التزامها بمبادئ السيادة والنظام على مصالحها المحدّدة، وبعض الدول تتّخذ مواقف "حياديّة" درءًا لحرجٍ أو منعًا لعقابٍ أو طمعًا في كسبٍ مزدوج.
الموقفُ الصينيّ ملتبسٌ بالرغم من وضوحه؛ فالصينُ تريد المحافظة على صداقتها مع روسيا وما يترتّب عليها من منافع، ولكنّها أيضًا لا تريد معاداة الغرب بما لا ينعكس سلبًا على تطوّرها الاقتصاديّ المستمرّ. مع الحرج والتناقض بين المصالح والأهداف يمكن وصف الموقف الصيني بالحياد المدروس مع ميلٍ واضحٍ لموسكو (تبنّي وجهة النظر الروسيّة).
لا تؤثّر الأزمة مباشرةً على المصالح الجوهريّة للصين، لذا فموقفها يظلُّ ملتبسًا، ويتجنّب المخاطرة، فالحربُ بالنسبةِ لها تعبيرٌ عن ديناميتين: صراعٌ بين روسيا والغرب على الأمن الإقليمي، وصراع بينها وبين أوكرانيا.
في كلتا الحالتين، تفضل بكين حثّ الأطراف على حلّ نزاعاتها عبر المفاوضات، فهي لا تريد أن تفقد مكانتها الأخلاقيّة بين الدول النامية، ولا تريد التعرّض للنقد والمشاكسة من جهة الغرب ولا فقدان صداقة الروس، إنّه خيطٌ رفيعٌ وشديدُ الحساسيّة، لكنّ الصين قد تكون الرابح الأكبر من هذه الحرب!