Menu

احترامًا لشهدائنا وذاكرة شعبنا..

الدكتورة ليلى غانم للهدف: التاريخ يكتبُه المنتصرون الجناة وآن الأوان لنكتب التاريخ من الأسفل

الدكتورة ليلى غانم

نشر هذا الحوار في العدد 39 من مجلة الهدف الإلكترونية وأجراه د. وسام الفقعاوي

(الدكتورة ليلى غانم أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية في جامعة رينيه ديكارت – باريس، ورئيسة تحرير مجلة بدائل. منسقة المنتدى العالمي للبدائل، ومنسقة المحكمة الدولية لمحاكمة جرائم الحرب الاسرائيلية، شاركت بمحاكم بروكسل لصبرا وشاتيلا، ومحكمة فلسطين الدولية ومحكمة كولومبيا لمحاكمة جرائم اختطاف وقتل المناضلين، ومنسقة المنتدى العالمي في بيروت، وعضوة في اللجنة التأسيسية ليسار أمريكا اللاتينية الذي ينعقد سنويا في المكسيك، بالإضافة للعديد من المساهمات السياسية.

صدر لها كتاب: الماركسية، الإسلام ولاهوت التحرير، باللغة الإسبانية، وكتاب دراسات جامعية انثروبولوجية (باللغة الفرنسية) حول اللغويات والتشكلات الاثنية، نظم الممانعة في التشكيلات العرقية... بالإضافة إلى مقالات عدة صدرت في بدائل: حول النيوليبرالية ومستقبل الدول القومية؛ النيوليبرالية والمسألة الديمقراطية؛ قضايا البيئة من منظور النيوليبرالية).

* مرّت علينا الذكرى الـ 55 لهزيمةِ يونيو/حزيران، التي شكّلت نقطةَ تحوّلٍ استراتيجيٍّ في الصّراعِ العربيّ – الصّهيونيّ، فبعد مرورِ هذهِ الفترةِ الزمنيّةِ وما ترتّب عليها سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا: كيف تقرأين هذه الهزيمة ونتائجها اليوم؟

** لم تكن هزيمةُ حزيران مجرّدَ نكسةٍ عسكريّةٍ؛ بل إنّها قضت على مشروع حركة التحرّر العربيّ التي اندرجت في سياق حركات التحرّر الوطنيّ التي شهدناها في الخمسينات في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، التي عبّرت عن نفسها في مؤتمر باندونغ، وفي نشوء حركة عدم الانحياز ومنظّمة الوحدة الإفريقيّة.

لم تكن هذه الهزيمةُ العسكريّةُ حتميّةً وَفْقَ موازين القوى والمعادلات الاستراتيجيّة والسياسيّة في تلك المرحلة، كما أثبتت الوثائقُ ومذكّراتُ قياداتِ الجيش المصريّ ومذكّرات غولدا مائير وموشي دايان... إلخ لكنّها دلّت بما لا يقبلُ الجدلَ أنّ النظامين الوطنيين؛ المصريّ والسوريّ لم يكونا جدّيين في الاستعداد للحرب، ولعلَّ الاستهانة استندت إلى تجربةِ عدوان السويس الثلاثي الذي أفضى رغمَ الهزيمةِ العسكريّةِ إلى انتصارٍ سياسيٍّ على فرنسا وبريطانيا وإسرائيل في ظروفٍ مختلفة.

الخلاصةُ التاريخيّةُ لهذه الهزيمة أنّ حرب الـ67 كانت بالنسبة للاستعمار، هي أوّلًا: ضرب حلقةٍ من حلقات حركة التحرّر في العالم، وثانيًا ضرب صيغة التجربة التقدميّة لعمليّة التنمية المتفلّتة من التبعيّة للغرب، التي تجلّت بإصلاحاتٍ اجتماعيّةٍ كبرى في مدّةٍ قصيرةٍ زمنيًّا (الإصلاح الزراعي، التعليم الإلزاميّ للجنسين، تأميم قناة السويس، بناء السدّ العالي، بناء الصناعة المصريّة: الصلب، النسيج، الدواء ...)، كلّ ذلك في غضون 17 سنة وهذا مذهل. لقد فهم ناصر أنّ عمليّة التراكم التنمويّ يحتاج أمنيًّا واقتصاديًّا لمجالٍ جغرافيٍّ أوسع، ومن هنا مساعيه القوميّة الوحدويّة التي لم تذهب بعيدًا، لأسبابٍ لا مجالَ لشرحها هنا، لكنّه من المفيد أن نشيرَ إلى أنّ هذه التجربة عجزت عن تثوير المجتمع: فبخلاف تجربة الفيتكونغ لم تثق الأنظمة التقدميّة العربيّة بخطّ الجماهير وقدرتها على حماية الثورة... هذا يعني أنّ الانتصارَ السياسيَّ والاستراتيجيّ، والصمود العسكريّ يحتاجُ إلى رؤيةٍ ومشروعٍ نضاليٍّ متكامل. وقد تكون حرب التحريك عام 73 درسًا مفصليًّا اليوم بشأن تلازم أهداف التحرّر السياسي والعمل العسكريّ، حيث لم يحلّ الانتصار العسكريّ النسبيّ من السقوط في هزيمةٍ سياسيّةٍ ماحقةٍ ما تزال أساس تفسير معظم أسباب الانهيار العربي الوطني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي... وأنّ حرب الـ67 ثالثًا: كانت استكمالًا لمشروع احتلال فلسطين الذي بدأ في 48. فقد كرّست هذهِ الحربُ إسرائيل رأسَ حربةٍ للاستعمار. ويمكننا القول إنّ إسرائيل ولدت على مراحل ثلاث: نكبة الـ48، توسع وإثبات الكيان في "نكسة" حزيران 67، ومن ثم تكرّيس مشروعيّة احتلالها لفلسطين في هزيمة أوسلو السياسيّة، حيث كسبت اعتراف نصف دول العالم بها بما فيها الفاتيكان والدول الإفريقيّة واللاتينيّة...

* بعدَ كلّ هذهِ السنوات على نكسة/هزيمة يونيو/حزيران: هل يمكن القول: إنّ المشروع القومي فشل وانتهى إلى غير رجعةٍ أم أن هناك حاجة موضوعيّة لتجديد أو إطلاق المشروع القوميّ العربيّ، تحتّمها طبيعة وجوهر الصراع القائم مع المشروع الصهيوني، خاصّة في ظلّ وجود مشاريع أخرى عديدة في المنطقة، مقابل غياب المشروع القوميّ العربي؟

** ما استطعنا نحن العرب أن نحقق في زمن تشكل القوميات حلمنا القومي.  فلم يحنو علينا التاريخ لأسباب لا مجال لخوضها هنا بقائد، بسطوة بسمارك يوحدنا من فوق أي بالقوة، ولا إلى زعيم بعظمة ماوتسي تونغ يوحدنا من الأسفل من الخطّ الجماهيريّ.

المشروعُ القوميُّ العربيُّ الذي أودت به "نكسة" يونيو كان وليد مرحلةٍ تاريخيّةٍ أنتجتها الحربُ العالميّةُ الثانيةُ والمعادلاتُ الاستراتيجيّةُ بين المعسكرين السوفييتي والأطلسي في الحرب الباردة التي أسفرت عن مؤتمر يالطا لتقسيم العالم. ولكنّنا نشارف اليوم مع العولمة النيوليبراليّة على مرحلة أفول الدول القوميّة بل إنّنا دخلنا في مسار تفتيت الدول بما فيه في الغرب الأوروبيّ.  فمراكز القرار انتقلت من الدولة القوميّة إلى التجمّعات الاقتصاديّة والمؤسّسات الماليّة التي تتولّى الإدارةُ الاقتصاديّةُ للدول مثل منظّمة التجارة العالميّة (التي ورثت اتفاقيات الغات) والبنك الدولي وصندوق النقد والمفوضية الأوروبيّة... أصبح السوق يتحكّم باقتصاد العالم؛ ما أضعف الممارسة الديمقراطيّة نفسها التي باتت تقتصر على أقلام الاقتراع وتنحت عن القيام بإصلاحات الشعبيّة تفرضها قوى المعارضة النقابيّة والحزبيّة.

في التجربة القوميّة العربيّة عظّم المشروع التحرّري من عوامل التوحيد التاريخيّة الجامعة كالعرق واللغة والدين والثقافة... في استنهاض المسار التحرّري والتوحيديّ للشعوب في مواجهة احتلال فلسطين والتبعيّة للإمبرياليّة. لكن التجارب أثبتت بأنّ العوامل المؤثّرة في معارك النضال من أجل الاستقلال والتحرّر ليست جامدةً وثابتةً في شتى الظروف والأحوال إنّما يمكن أن تنضوي ضمنَ محرّكات المعارك السياسيّة والعسكريّة والاستراتيجيّة من أجل التوحيد والاستقلال والتحرّر على مستوى مناطقي أو عالمي.. وعلى العكس فإنّ عناصر هذهِ المكوّنات القوميّة أدّت أحيانًا إلى الإسهام بالتفتيت والاحتراب البيني والانقسامات العمودية في ظل غياب رؤيةٍ استراتيجيّةٍ ومشروعٍ سياسيٍّ يعيد تصنيع مكوّناتها الأوليّة الخام في مجرى المعركة النضاليّة.

في عالم الجنوب على سبيل المثال انبثقت حركات التحرّر بين المعادلات الاستراتيجيّة في الحرب الباردة، ضدّ الاستراتيجيّة الأميركيّة لإحكام التبعيّة والاستعمار الجديد، واستند مشروعها التحرّري إلى مقوماتٍ ثقافيّةٍ تاريخيّةٍ للمقاومة والسعي إلى توحيد المنطقة واستقلالها. ففي إفريقيا رغم النسيج الاجتماعي بالغ التعقيد سعت حركات التحرّر الوطني إلى توحيد القارة الإفريقية بكاملها بقطع النظر عن اللغة والعرق والدين والجغرافيا؛ لأنّ تاريخَ العبوديّة والاستعمار وحّدها في السعي إلى الاستقلال والتحرّر. وفي الهند الصينية سعت حركات التحرّر إلى استقلال شبه القارة بكاملها واستقرّت على توحيد فيتنام الشمالية والجنوبية.

وفي كلّ الأحوال تنعدم اليوم أسس قيام مشروعٍ قوميٍّ؛ لأنّ الدول الرافعة لهذا المشروع بحكم ثقلها الجيوبوليتيكي؛ أي مصر والعراق وسوريا هي اليوم في حالة تداعي كامل، وكأنّ الاستعمار الجديد أراد أن يحول دون إمكانيّة تحرير فلسطين بتعميم المحنة الفلسطينيّة على الساحات العربيّة. وتبقى فلسطين هي المفصل وكلّ الساحات فلسطين.

* في ضوء اختلال ميزان القوى لصالح العدوّ الصهيوني، وتسابق العديد من الأنظمة العربيّة لإقامة تحالفاتٍ استراتيجيّةٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ معه، تحت ما يسمى "التطبيع"، بالإضافة إلى الحضانة والدعم والحماية له من قبل الدول الإمبرياليّة – الاستعماريّة، ألا يصعب ما سبق من المواجهة مع العدوّ الصهيونيّ ومشروعه القائم على الاستعمار والاحتلال والتوسّع والهيمنة، وعليه فإنّ حدود المعركة معه أكبر من أن تبقى في حدود إمكانيّة وقدرة مقاومة الشعب الفلسطيني وحده؟

** لم يكن يومًا حدود المعركة ضدّ الاحتلال عند حدود فلسطين الجغرافيّة، فاحتلالُ فلسطين منذ لحظته الأولى هو مشروع الاستعمار الجديد الذي انتقل إلى قيادة أميركا بعد أن ورثت بريطانيا والإمبراطوريات الاستعمارية في المنطقة ودول الأطراف عمومًا. وعلى أساس استراتيجيّة الاستعمار الجديد رسّخت أميركا والدول الغربيّة إسرائيل رأسَ حربة ليس عسكريّة فحسب، تقوم على استيطان فلسطين، بل كأداة فاعلة في تفكيك عمليّة التنمية الاقتصاديّة التي اضطلعت بها دول العالم الثالث في مسار حركة التحرّر عن الاستعمار. هل من المصادفة أن تكون كلّ اتّفاقاتِ السلام مع إسرائيل من كمب ديفيد إلى كمب ديفيد-2 إلى أوسلو، هي بالدرجة الأولى اتفاقيّاتٌ اقتصاديّةٌ لترسيخ التبعيّة. لقد أدّى الاتّفاق مع مصر إلى ما عرف بالانفتاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة التي قضت على استقلال مصر ودمّرت أمنها الغذائي وأقفلت مصانعها... ألم تمنح اتفاقات التريبس لإسرائيل السيطرة على الصناعة الثقيلة التي بناها ناصر بأسبقية 11% من حجم الاستثمار لإسرائيل قبل حصة مصر نفسها. كما أنّ كلّ اتفاقات الشراكة بين العرب وأوروبا كانت وما تزال تتضمن ثلاث شروط تحكم قابلية إبرامها: التوقيع مع منظمة التجارة العالمية، مراقبة الهجرة، والتطبيع مع إسرائيل.

إنّ إسرائيل اليوم ليست مجرّد وطنٍ قوميٍّ لليهود بل هي أداةٌ فاعلةٌ وطائلةٌ في المنظومة النيوليبرالية التي تعيث خرابًا في اقتصاد العالم، وهذه المعادلة لا بد أن تجعلنا نعيد النظر في تقييم حلفائنا في معركة المواجهة الحالية. وعندما حوّلت منظمة التحرير قضية الاحتلال إلى "نزاع فلسطيني ــ إسرائيلي" أو ما سمته "دولة فلسطين"، ساهمت وما تزال تسهم بتضييع البوصلة وحرمان الشعب الفلسطيني من الحاضنة الشعبيّة له والمتمثّلة في حركة التضامن العالمي.

إنّ معركة تحرير فلسطين تقع أكثر من أي وقت مضى، في قلب المواجهة مع النظام الإمبريالي العالمي، ليس في المنطقة العربيّة والإسلاميّة فحسب، بل أيضًا في عالم الجنوب ولا سيّما في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة. إنّ حركة المناهضة للعولمة التي انطلقت من المنتديات الاجتماعيّة في بورتو اليغر وغيرها من الساحات جعلت من مسألة التضامن مع القضيّة الفلسطينيّة في سلم أولوياتها.

في عام 2009 عقد في بيروت منتدى اجتماعي بالغ الأهمية تحت شعار ضرورة تلازم مسارات كل من القوى التي تحارب في الغرب ديكتاتورية الأسواق وتتصدى للنيوليبرالية في سعيها لتدمير دول المؤسسات والانجازات الاجتماعية الديمقراطية للطبقة العاملة، مع مسار تجربة الديمقراطية التشاركية في أمريكا اللاتينية، التي أرستها الثورة البوليفارية بزعامة شافيز إلى جانب مسار حركات المقاومة المسلحة ضد الاستعمار والصهيونية. وقد حضرت وفود برلمانية من أمريكا اللاتينية ووفود عن أحزاب ونقابات اليسار العالمي الغربي ووفود عن حركات المقاومة المسلحة في لبنان وفلسطين والعراق. وقد وقف الفيلسوف الماركسي ميغال اربانو ليحيي انتصار 2006 ويقول "إن من يحمل البندقية في مواجهة القوى الصهيونية المدعومة من أعتى الإمبرياليات في معركة تحتشد من ورائها تروستات التجارة والسلاح والمال.. إن من يقاتل هؤلاء، فإنما يقاتلهم باسم الإنسانية جمعاء". هذا المناخ أعاد للذاكرة، أجواء مؤتمر باكو لشعوب الشرق، كما وصفها لينين وسلطان غالييف في محاضر المؤتمر وفي سجال لينين بهذا الشأن مع روزا لوكسمبورغ التي لم تستسغ أن يعتبر لينين القوميات المناهضة للاستعمار كحلفاء للبلاشفة، حيث رأى لينين أن دينامية القوى الاجتماعية في الصراع الطبقي وليست الأيديولوجيا هي من يحدد دورها في التاريخ، وهذا لا يتناقض مع المنهج الماركسي لصراع الطبقات.

ولدينا في لبنان اليوم المقاومة الإسلامية التي تعبّر عن مواجهتها للعدو الصهيوني بمعتقدات دينية إلاّ أنها في واقع الأمر تضع دورها المقاوم في أولوياتها وهي دون شك بمثابة حركة تحرّر وطني في مواجهة الصهيونية والاستعمار الغربي. ونرى أن الإمبريالية تواجهها بصفتها هذه كحركة تحرر تقاوم التبعية ولا تواجهها بصفتها معتقدات دينية، بل تتعامل مع المعتقدات الدينية المتشدّدة بكثير من "البرغماتية" في خدمة مصالحها الاستراتيجية، خاصة إذا كانت هذه المعتقدات الدينية تغلّب الصراع "مع العدو القريب" أمثال "داعش" وأخواته الوهابية. وتبقى قضية مواجهة الاحتلال في فلسطين اليوم، هي أيضا قضية مواجهة الاستعمار والإمبريالية في فلسطين وخارجها.

* بعد ما يزيد عن قرن من الصراع العربي – الصهيوني والفلسطيني – الصهيوني، وما كرس على صعيد المشهد الفلسطيني من ثورات وهبات وانتفاضات وما رافقها من تضحيات عظيمة، وأيضًا ما لحق به من هزائم وانكسارات ليست بالقليلة: كيف تقرأين المشهد اليوم على الصعيد الفلسطيني؟ وعليه ما هي صورة المستقبل لنضاله الوطني؟

** النضال الوطني الفلسطيني كان وما يزال من حيث الجيواستراتيجيا ومن حيث العقيدة جزء لا يتجزأ من النضال العربي ونضال عالم الجنوب ضد الاستعمار. ويتحتم عليه اليوم في معركة تحرره، مواجهة العبودية الجديدة ومنظومة التوحّش إلى جانب كل قوى التقدم في العالم، خاصة في الجبهات الطليعية (في أمريكا اللاتينية تحديدا). إن صمود الشعب الفلسطيني في نضاله اليومي المرير وتصميمه أن يقف بجسده العاري في وجه الظلم الصهيوني والعالمي هو اللبنة التي انبنت وتنبني عليها حركة التضامن العالمي. أما سؤال كيف تتحول حركة التضامن من تعاطف ضد الظلم إلى تضامن طبقي على قاعدة المصالح المشتركة، هذا يتطلب على الأقل توفر عناصر عدة:

  1. رؤية واضحة لطبيعة الصراع الحالي والمتغيرات الدولية لطبيعة رأس المال ودور إسرائيل به.
  2. شبكة تنظيمية للتواصل مع القوى الثورية في كل ساحات العالم، وكذلك القوى التي لها مصلحة في مواجهة إسرائيل المعولمة.
  3. تغيير أساليب النضال لدحر الصهيونية في كل المجالات وهذا يتطلب:
  • في المجال الحقوقي: خلق محاكم شعبية في عقر دار الغرب، على غرار محكمة الضمير لمحاكمة جرائم الحرب الإسرائيلية أو محكمة صبرا وشاتيلا ومحكمة العدالة في فلسطين. وهنا من المهم أن نقوم بإدانة إسرائيل دوليا بجرائم حرب تقترفها حاليا في جنين وغزة.
  • توسيع أطر العمل إلى المهتمين بمجال البيئة المناوئين للسلاح النووي، واستخدام التحوير الجيني، أو تسليع المياه أو براءات الاختراع، وهؤلاء من أشد المعادين للممارسات الإسرائيلية، والمسائل التي يتناولونها تقع في صلب نقد التوحش النيوليبرالي.
  • التشديد على طابع النظام الاستعماري وليس فقط العنصري (الأبارتهايد). من المهم أن نرفع عن إسرائيل صفة مشروعيتها في عيون الرأي العام الغربي. ونحن نتعمد في كل مداخلاتنا التشديد على أن إسرائيل ليست بلدا عاديا إنما بلدا استعماريا. 
  1. التواصل وتوسيع أطر عمل فلسطينيي الشتات وهم يشكلون قوى ضاربة في الغرب، ومؤتمر فلسطيني أوروبا على سبيل المثال يجتذب في كل عام ما يقارب العشرين ألف شخص، يقتصر دورهم حتى الآن على التعارف والتبرع للداخل، بينما لا بد أن يكون الهدف الرئيسي هو التأثير على صناع القرار في بلدان تواجدهم والاندماج بالحركة السياسية والنقابية والاجتماعية. وفي بريطانيا وأمريكا نلاحظ بأن الجيل الفلسطيني الثاني أشد حماسا للعمل وأكثر ابتكارا من الجيل الذي سبقه...
  2. التركيز على إعادة كتابة التاريخ وهذا أمر مفصلي. التاريخ يكتبه المنتصرون الجناة وقد آن الأوان أن نقوم بكتابة التاريخ من الأسفل كما يقول هوارد زن، احتراما لشهدائنا وذاكرة شعبنا. هناك جهد فلسطيني هائل مبذول في هذا المجال، ولكن أيضا في لبنان، حيث عقد قبل أسابيع مؤتمر حقوقي ليستعيد الرواية الأولى للنكبة مع تبيان أن مذابح التطهير العرقي قد مورست منذ البداية، وهو موضوع قيد التداول في إسرائيل نفسها (إلان بابيه في كتاباته الأخيرة، وكذلك بعض المؤرخين الجدد..) هذا الأمر يبنى عليه في عمل حقوقي دولي يُجرم إسرائيل منذ ولادتها.

لعل أحد جوانب المأساة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، تكمن في استعصاء وضوح الرؤية والأفق، أي غياب البحث في مشروع للتحرير والتحرّر وهي كارثة الحركات السياسية والنخب العربية ودعاة التغيير والإصلاح الديموقراطي المشبعَة بالثقافة السياسية السائدة التي تربى عليها منذ عقود تلاميذ المؤسسات الدولية وخبراء "الانتقال الديموقراطي"... نحن لا نفتقد لا للكادرات ولا للخبرات... ولكن يبقى السؤال البديهي لماذا لا يوجد أي منصّة فلسطينية - عربية موحّدة للحوار حول المستقبل واستنباط الحلول والبدائل؟ أما من حق شعبنا علينا أن نفتح له نافذة على الأمل.

* في تناول ما يسمى بالمسألة اليهودية قدم عديدون قراءات مختلفة لها ما بين الاندماج قديما في مجتمعات الأوربية وغيرها، وما بين حلولًا استندت للوضع القائم لما بعد احتلال أرض فلسطين من قبل الحركة الصهيونية وإقامة "دولة إسرائيل"، بحيث تعددت الأطروحات السياسية التي تنطلق من تجاوز الحق الفلسطيني في أرض وطنه: فهل بات الأمر مستعصيًا على تحقيق ما يسميه البعض بعدالة المخيم الفلسطيني؟

** لقد طرحت المسألة اليهودية في روسيا والمجتمعات الغربية بالصلة مع مسألة العنصرية في هذه البلدان ومسألة الصراع الديني بين اليهودية وبين الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية في القرن الثامن عشر، نظرًا لثقل الكنيسة في النظام الإمبراطوري وعلى قاعدة نبذ الدور المرابي لليهود في الاقتصاد. ولكن المسألة اليهودية لم تعد ظاهرة مطروحة، لا في روسيا ولا في المجتمعات الغربية، بل على العكس، فإن الكنيسة قامت بحلّها على حساب الشعب الفلسطيني. كما حلّتها روسيا والدول الغربية بأن حوّلت كل اليهود إلى مستعمرين صهاينة ودمجت بين اليهودية والصهيونية، كبديل لإعادة رد الاعتبار للمواطنين اليهود بعد المحرقة ومكافحة العنصرية والعداء للسامية داخل مجتمعاتها.

ما يزيد المغالطات التاريخية تشويهًا ليس الصراع الديني السابق واللاحق ضد اليهودية القديمة ولا الصراع الديني الاسلامي ضد اليهودية الحالية، فالأديان لها منطقها الخاص في قراءة التاريخ وهو منطق ديني غيبي ومعتقدات مطلقة ليست قابلة للنقاش، لكن منطق التاريخ يقرأ المعطيات والأحداث بأسبابها الواقعية أي السياسية والاجتماعية واستراتيجيات الدول ومصالحها.

فهل يعقل أن يكون الفكر الغربي الذي أنجب جهابذة المنطق مثل كانت وديكارت وغيرهم، أن يقبل بتمرير الأساطير والسرديات التي لا يتفق عليها حتى كل أحبار اليهود، ويقفز 3 آلاف سنة في الهواء ليبرر احتلال فلسطين.  وكأن التاريخ حبل متصل.. ولو كان عليه الحال، لا مبرر تاريخي لوجود أميركا ولا مبرّر لوجود أي دولة أوروبية منذ انقسام أوروبا إلى امبراطوريات وصراع الهابسبورغ.

استخدمت الدول الاستعمارية الغربية أساطير دينية واثنية في كتابة التاريخ وفي إحكام سيطرتها على بلدان الجنوب لتبرير الاستعمار ونهب الثروات وما تزال تستخدم الانقسامات الدينية والعرقية والقبلية لإحكام السيطرة والتبعية وتصبغ عليها صفة التعددية والديمقراطية، وهي إذ تشير في احتلال فلسطين إلى المسألة اليهودية وإلى "معاداة السامية"، فلإصباغ وجه "إنساني" على صهيونيتها الاستعمارية وتعويض المستوطنين اليهود عن الجرائم التي ارتكبتها النازية والفاشية بحق مواطنيها اليهود وكان القسم الأعظم منهم في ذلك الحين غير صهاينة. ولكن صناعة الهولوكست في الغرب وصلت إلى خواتيمها ولم تعد تجدي نفعا.

تشير منصات يسارية في أوروبا أن إسرائيل مكروهة في المجتمع الغربي أكثر من أي وقت مضى، دون أن يكون السبب العداء للسامية بل تحديدا بسبب جرائمها بحق الشعب الفلسطيني. يقول الفيلسوف البلجيكي بريكموند لو كف الإعلام المتصهين عن الضخ ثلاث أشهر لصالح إسرائيل لانقلب الرأي العام الأوروبي برمته ضد إسرائيل. لقد كشفت وثائق "ويكيلكس" عن قوائم الصحفيين الذين يتقاضون أموالا من سفارات إسرائيل في أوروبا تحديدا، وفي العام الماضي عقد اجتماع في مدريد من قبل ما يسمى الصحافة الحرة البديلة لبناء شبكات تواصل إعلامية تواجه التضليل. لقد تمكنت حركة التضامن مع فلسطين، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي من التغلب على تعتيم الواقع هنا في الغرب.

* جرت الانتخابات اللبنانية منذ أسابيع معدودة واتضحت حقيقة الأوزان السياسية للكتل المشاركة، بحيث تقدمت قوى وتراجعت أخرى، لكن الثابت هو تراجع لبنان وتفاقم أزمته الاقتصادية والاجتماعية ونتائجها السياسية، مع استمرار سيف الضغوطات والعقوبات الخارجية: فهل سيبقى لبنان وشعبه رهنًا لهذا الواقع؟ وإذا كان الأمر كذلك: ما هو المطلوب للخروج من مأزقه؟

** لقد أتت نتائج الانتخابات اللبنانية مخيبة لتوقعات المعسكر المعادي للمقاومة الذي راهن بأن التحريض على حزب الله كمسبب أساسي في تعطيل الاقتصاد لكونه يثير غضب دول الخليج وغضب أمريكا في تشبثه بالسلاح وخروجه عن الشرعية الدولية، سوف يضعف الحزب، ولكن النتائج المبهرة للحزب أظهرت على العكس ازدياد شعبيته داخل حاضنته الاجتماعية، بينما تراجعت شعبية حلفائه أمل والتيار الوطني الحر بسبب ضلوعهم في الفساد. وبالمقابل ثبتت القوات اللبنانية بقيادة جعجع أقدامها بدعم سعودي أمريكي إسرائيلي مباشر.

دعم الحاضنة الشيعية أتى لاستشعارها خطر داهم كون خصوم المقاومة قادوا حملتهم بشعار وحيد هو نزع سلاح الحزب. فالتفاف الحاضنة الجنوبية خلف قيادتها والإقبال العظيم على صناديق الاقتراع فاق كل التوقعات، وهذا يعلن للخصوم: "لن تمروا" و"لن نتخلى عن السلاح." وكان السيد نصر الله قد خاطب شعبه أكثر من مرة ليحفزهم على خوض المعركة. كان يمكن للحزب وهو يقع خارج نظام المحاصصة أن يبقى خارج الحكومة حتى لا يتهم بتعميم الخراب الاقتصادي ولكن الانسحاب أخطر لأنه يفقده مشروعية السلطة في عيون الغرب. والحقيقة أن الحزب يملك إمكانية استعادة المبادرة إذا استطاع أن يقدم مشروعا متكاملا في حل الملفات الاجتماعية الكبرى رغم المعيقات والعقوبات الأمريكية، عبر وضع خطة لاقتصاد زمن الحرب. يمكن مثلًا حل أزمة الكهرباء عن طريق الطاقة البديلة، وحل مشكلة الغذاء عبر تعميم تجربة الإنتاج الصغير المشترك والتسويق المباشر عبر جمعيات "من المنتج للمستهلك" وهي تجارب أثبتت جدواها في قلب شرائح المجتمع الغربي الرافضة لهيمنة السوق. وكذلك يمكن أن يبادر لإطلاق حملة استعادة صناعة الدواء المحلي لتأمينه للفقراء وهذا ممكن رغم الحصار لأنه يندرج في القوانين الدولية لحماية سلامة شرائح الطبقات المعدومة... الأفكار كثيرة في شتى المجالات للسير نحو إنشاء جمعية تأسيسية تخرجنا من نظام المحاصصة الطائفية والتبعية. إن حزب الله وحفاظا على السلاح، بات محكوما، بأن يكون رافعة اجتماعية لحماية الفقراء والمقهورين والمهمشين من كل الطوائف. المشكلة في الفكر الديني أنه يرى الحلول في الأعمال الخيرية ولكن شريعة الحقوق المواطنية هي الوحيدة التي تتيح إمكانية بناء دولة الحقوق المواطنية، وهذا جل ما نحتاج إليه في لبنان.

* تقوم الاستراتيجية الأمريكية على تطويع المقاومة وتوفير الأجواء المناسبة دائمًا لفكفة عرى العلاقة بين المقاومة الفلسطينية والمقاومة القائمة في محيطها ومنها المقاومة اللبنانية: فهل لبنان يدفع ثمن وقوفه إلى جانب الحق الفلسطيني أم أن المشروع الأمريكي – الصهيوني يضع لبنان ضمن أجندة خاصة به؟

** فيما مضى سئل كيسنجر إذا ما كان ينظر بعين الرضى لياسر عرفات بعد رضوخه في أوسلو، فأجاب دون تردد بأن أمريكا لا تصفح عمن يشهر يوما ما السلاح في وجهها، مهما مر من وقت، وقد انتهى أبو عمار محاصرا في المقاطعة وقضى في عملية قتل بطيء. أذكر واقعة أخرى هي تفرغ حكومة ترامب طيلة الثلاثة شهور التي سبقت رحيله لإدارة شؤون إسرائيل حصريا. ولم يكن ينقضي يوم دون أن يتخذ طاقمه قرارات بشأن القدس أو التطبيع أو ترتيب مصالح إسرائيل في إفريقيا والعالم، لدرجة دفعت بوزير فرنسي سابق للقول: هل ترامب رئيسًا للولايات المتحدة؟ أم رئيسًا لإسرائيل؟!

إن هاجس الولايات المتحدة الأول وحلفائها في الغرب هو الدفاع عن مصالح إسرائيل التي لديها الحق دون غيرها في احتكار امتلاك السلاح، وامتلاك السلاح النووي. إن مصر مثلا، لا يحق لها بموجب اتفاقات كمب ديفيد أن يتجاوز عدد أفراد جيشها ال 350 ألف جندي. العراق دمر جيشه. تتلقى إسرائيل سنويا دعما عسكريا بقيمة 7 مليارات دولار و3 مليارات هبات معفية من الضرائب، وتتلقى من أوروبا مساعدات مختلفة بقيمة 6 مليارات... ومع ذلك استطاع حزب الله إذلال الجيش الإسرائيلي في عمل بطولي مجيد ذكرنا بانتصار الفيتكونج على الاستعمار الأمريكي.

إن أمريكا وإسرائيل تعملان منذ ما يقارب الثلاث عقود على نزع سلاح حزب الله، ولم يدخرا جهدا مع حلفائهما في الغرب لتحقيق هذا الهدف: حروب تدميرية على لبنان، وحروب تجسسية، وتشريعات دولية مثل 1559، و 1701، وأقيمت محاكم دولية سدد فاتورتها لبنان لإلصاق تهمة اغتيال الحريري بحزب الله، وقامت بحملة "تجفيف منابع الإرهاب" ومارست الضغوطات على رجال أعمال شيعة في كل مكان، وفرضت عقوبات قاسية على قادة حزب الله، وقامت بقتل قادة عسكريين للحزب، وشنت الحرب على سوريا وهي خط مرور السلاح، ودعمت ونظمت جيوش النصرة وداعش، ودفعت بخلق محور خليجي وهابي ضد إيران، وشنت حربا على اليمن، وقامت بتسليح العميل الفاشي جزار صبرا وشاتيلا سمير جعجع، وبتعطيل الحكومات، واتهام حزب الله بانفجار المرفأ، وما الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان حاليا إلا إحدى تجليات هذا الحصار بما فيه استهداف أموال المودعين، خاصة أن أموال الشيعة في إفريقيا كان قد جرى تحويلها إلى البنوك اللبنانية في عملية جذب مالية اضطلع بها رياض سلامة رئيس البتك المركزي. لذا فإن الحفاظ على سلاح المقاومة في وجه هذه الحرب الماحقة هو انتصار عظيم لقوى المقاومة في لبنان وفي فلسطين ولقوى التحرر في العالم، لأنه يكاد يكون المتاح الوحيد في وجه الطاغوت الإمبريالي.          

لقد ساهم هذا السلاح طيلة 17 عاما منذ دحر الجيش الصهيوني في 2006 من وقف الحروب الإسرائيلية التدميرية على لبنان (6 حروب في غضون 25 سنة) وهذا إنجاز عظيم سمح للشعب الجنوبي من استعادة أرضه وقراه والعيش بسلام. لا مجال هنا في تقديم هذه التجربة الفريدة، ولكن بعض محاور اليسار الثوري في العالم مهتمة بدراسة هذه التجربة كتجربة كفاح تحرر وطني أشبه بتجارب لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية.

* لقد قدم "كارل ماركس" قراءة لطبيعة وبنية الرأسمالية وكان قد رأى فيها وجهًا ايجابيًا على صعيد دورها في التطور والتحديث وبناء الدولة القومية، مع نقض دورها الاقتصادي بالمقابل: فهل من نقد لقراءة ماركس لدور الرأسمالية في ظل الواقع المحقق؟

** تقوم المادية التاريخية على أساس تعاقب أنماط الإنتاج وكل عملية انتقال بين نمط واخر كان يتم بمسار ثوري يخلع النمط القديم ويستبدله بنمط متقدم عليه. فالبرجوازية العصرية نفسها، كما يؤكدا عليه ماركس وانجلز في البيان الشيوعي هي نتاج مسار تطور طويل، وسلسلة تحولات في نمط الإنتاج والمواصلات. وكل مرحلة، من مراحل تطور البرجوازية، كانت بمثابة تقدم سياسي. فقيام الصناعة الكبرى والسوق العالمية، وانتقال السلطة السياسية إلى الدولة التمثيلية العصرية، بحيث تحولت الدولة إلى هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها، هو أيضا مسار تقدمي. الصناعة الكبيرة أوجدت السوق العالمية التي مهد لها اكتشاف أمريكا. والسوق العالمية أنمت، بما لا يُـقاس، التجارة والملاحة والمواصلات البرية. كل هذا تم في خضم مسار تاريخي تقدمي كانت البرجوازية تتطور، وتُـنمّي رساميلها، وتدفع إلى المؤخرة بكل الطبقات الموروثة عن القرون الوسطى.

لقد رأى ماركس بأن البرجوازية تخلق عالما على صورتها، لأنها بحاجة أن تثور قوى الإنتاج وتتحرك بأدوات عصرية، ولكن هذا لم يكن صحيح إلا جزئيا. عندما وُلدت "النظرية الاقتصادية الجديدة" في القرن التاسع عشر، في عز الحقبة الاستعمارية، حاولت، رغبة منها في تحسين موقعها في سلم الأولويات إقناع الدول الأوروبية بأن يقصر دور الدولة على "توفير الأمن" بإرسال الجندي الأبيض مع التاجر إلى أفريقيا، فلم تفلح. قام الاستعمار وقتها على ثالوث: المبشّر، ثم الجندي، ثم التاجر. وكانت الشركات عابرة القارات قد وصلت إلى القارة السوداء مع الميليشيات (البيت الهولندي، شركة الهند – السويس..). بداية التغيير في سلم الأولويات أتت في مرحلة لاحقة، بعد أن تمكن رأس المال المالي من إحكام قبضته على الرأسمالية الصناعية التي كانت بحاجة ماسة إلى الاقتراض، وترتب على ذلك ظهور الشركات المساهمة حتى أصبحت ظاهرة الاحتكار وما صاحبها، سمة الرأسمالية العالمية.

لقد أدى الاستعمار إلى تدمير بنى ومجتمعات بأسرها وتعامل ببربرية فظة مع السكان المحليين. إن عملية نهب ثروات الشعوب واستعبادها في الأطراف، كانت بمثابة الوجه الآخر للحضارة والبحبوحة والديمقراطية في دول المركز الغربية. لقد غابت المسألة الثقافية في الفكر الماركسي ونظر ماركس للاستعمار نظرة اقتصادية فحسب. لذا أتت كتابات ماركس عن الهند والجزائر مخيبة لكثير من المفكرين الذين تبنوا عقيدته في العالم الثالث.. ولكن استبعاد ماركس الأيديولوجيا الدينية من تحليلاته، لا يمكن أن تكون موضع نقد حيث رفض ماركس صفة الأيديولوجيا عن الماركسية نفسها.

وكان لا بد من انتظار لينين ومدرسة فرانكفورت وإيطاليون مثل غرامشي وايميديا بورديغا وآخرون مثل فرانز فانون ومكسيم رودنسون، لا أقل لرأب الصدع، ولكن لاستكمال النظرية الماركسية التي كان لها فضل على البشرية في وضع لبنة المادية التاريخية وصراع الطبقات. وقد أسهم سمير امين، متأثرا بالماوية، في كتابه "التراكم على الصعيد العالمي" بتقديم نظرية تقول بإمكانية تحقيق التراكم في دول الجنوب بقطيعة مع الثالوث الرأسمالي، ولكنه للأسف لم يستكمل العمل.

إن أفكار ماركس عمت الكون وهذا لم يحدث إلا للعقائد الدينية، وما زلت للحق إلى الآن، أتهيب كلما قرأت البيان الشيوعي، من قوة وقعه وآنيته.

* قيل الكثير في الحرب الروسية – الأوكرانية، سواء لجهة الأسباب والدوافع ومجريات الأحداث... والنتائج، بما في ذلك إعادة إنتاج نظام دولي جديد، أساسه نهاية السيطرة الأحادية الأمريكية، لصالح عالم متعدد الأقطاب: هل توافقين على ذلك أم أن لك رؤية مختلفة؟

** ليست الحرب روسية ــ أوكرانية بل هي حرب افتعلتها أميركا والأطلسي في أوكرانيا ضد روسيا؛ بهدف استكمال تفكيك الاتحاد السوفييتي وإسقاط الكرملين بيد يلتسن جديد. الاستراتيجية الأميركية ــ الأطلسية للسيطرة على العالم في قرن أميركي جديد، بدأت عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. وكما كانت هزيمة حزيران غير مبرّرة عسكرياً بحسب موازين القوى الحربية، فإن هزيمة الاتحاد السوفييتي السياسية الساحقة لم تكن مبرّرة تاريخياً وفق المعادلات الاستراتيجية والاقتصادية الدولية. (راجع مذكرات غورباتشوف ومدير مكتب يلتسن التي تكشف عن سذاجة صبيانية في تصديق تعهدات أميركا للتعاون المشترك والازدهار ووعود جيمس بيكر بأن الناتو لا يتقدّم بوصة واحدة نحو الشرق، بمصادقة فرنسوا ميتران وهلموت كول). لقد أظهر بوتين غضبه ضد الأطلسي في ميونيخ لأول مرّة عام 2007، لأنه والحق يقال كان يراهن على مهادنة الناتو في برنامج الشراكة الاستراتيجية للناتو مع كازخستان وجورجيا ودول البلطيق ودول الاتحاد السوفييتي السابق ولأنه أدرك أن أميركا تخطط لخنق الكرملين ابتداء من جورجيا ومولودفيا ولاتفيا وأوكرانيا... كما ظل بوتين بتأثير من الأوليغارشية النيوليبرالية في الكرملين يراهن على التعاون مع أميركا عبر منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي ضمّت روسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي على الرغم من تيقنه أن الإدارة الأميركية ماضية في خنق روسيا وتوسيع حلف الناتو ( ظل يطالب بضمانات مكتوبة من أميركا ظناً منه أن غورباتشوف ويلتسن "لم يحرجا" أميركا بوثيقة قانونية!). كما فعلت في أوروبا الشرقية، حرّكت واشنطن الثورة البرتقالية في كييف عام 2008، للقضاء على تسوية ممكنة تديرها المعارضة الغربية، بل أخذت تجنّد في "ميدان الثورة" المنظمات النازية والمنظمات القومية الأوكرانية التي حارب أسلافها الجيش الأحمر واستعادت نشاطها في غرب أوكرانيا بالصلة مع بولندا ورومانيا إحياء لتاريخ النازية والحرب التاريخية بين الإمبراطورية الهنغاريةــ النمساوية وإمبراطورية بولندا الرومانية.

الانقلاب الذي صنعته واشنطن في أوكرانيا عام 2014، خاضته ضد روسيا والأقليات الروسية في دونباس وعندما حاولت فرنسا وألمانيا في كييف إرساء تسوية جديدة لمنع الحرب، نهرتهما فيكتوريا نولاند بإطلاق عبارتها الشهيرة "فلتذهب أوروبا إلى الجحيم". رد بوتين على الانقلاب في القرم، تاركاً مجالاً لتسوية جديدة محتملة بين شرق أوكرانيا وغربها اعتماداً على اتفاقيات مينسك ومساعي رباعية النورماندي. وقطعت أميركا الشك باليقين في تسليح المنظمات القومية والنازية وتسليمها وزارة الدفاع ورئاسة الأركان وإنشاء "قوات رديفة" قامت بتصفية الجيش والقوات المسلّحة وكل صلة بالإرث الروسي والكنيسة الروسية لدرجة التحاق الكنيسة الارثذوكسية الأوكرانية بإسطنبول بعد 310 سنوات من التحاقها بروسيا وقامت بتصفية كل رهبان الكنيسة الروسية في كييف.

الحرب الوحشية خاضتها أميركا في دونباس منذ 2014 التي بدأتها كتيبة آزوف في أوديسا بحرق نقابة العمال والنقابيين واغتيال المناضلين استكمالاً للحرب بين الجيش الأحمر والنازية في أوكرانيا. وقد تأخر بوتين في الرد والدفاع عن دونباس (إلاّ في الحد الأدنى) والدفاع عن قيادات الجيش والأركان أثناء التصفية. ولا يستطيع أن يبقى مكتوف الأيدي لتسليم دونباس والأقليات الروسية إلى فرق الإعدام في ظل صعود موجة قومية روسية باتت تشكل عصب بقاء روسيا على قيد الحياة.

قد لا تكون أحلام بوتين وأحلام الصين أيضًا بإمكانيّة التعايش مع أميركا قابلة للتحقق وهي في الواقع تصطدم بمطامح المتحمسين للحرب في المنظومة الغربية وهم كثر، لأن الحرب هي أفضل السبل لتفادي عجزهم عن مجابهة أزمة النيوليبرالية التي وصلت إلى خواتيمها، والأمر الأهم أن عالم الجنوب يتنفس الصعداء كلما اتسعت الهوّة بين الأقطاب وزاد الشرخ في نظام أميركا العالمي.