انشغلَ العربُ منذُ أكثرِ من عقدينِ بالحديثِ عن التوازنِ الديموغرافيّ بين الفلسطينيّين واليهودِ داخلَ حدودِ فلسطينَ المحتلّة، هذا الانشغالُ مردُّهُ تعثّرُ مشاريعِ التحريرِ أو عدمِ إنجازِها إلى الآن. فالحركةُ الوطنيّةُ الفلسطينيّةُ طوالَ عقودِ مواجهتِها للمشروعِ الصهيونيّ؛ كانت تبحثُ عن عواملِ القوّةِ لدى الشعبِ الفلسطينيّ لاستثمارِها في مواجهةِ الحركةِ الصهيونيّة؛ ولأنَّ هذا الاحتلالَ استيطانيٌّ إحلاليّ، فإنّ عمومَ الشعبِ الفلسطينيّ تعرّض للخطرِ الوجوديّ، ومن ثَمَّ ظهرَ عاملُ الديموغرافيا ومؤشّراتُهُ الرقميّةُ محدّدًا أساسيًّا في نجاحِ أو فشلِ المشروعِ الصهيونيّ، ولأنَّ القدس َ درةُ التاجِ فقد حملت كلَّ الأبعادِ السياسيّةِ والدينيّةِ والجغرافيّةِ وحتّى الوجوديّة، ومن يستطعْ من كلا الطرفين أن يحقّقَ إنجازًا ما في فضاءِ هذهِ المدينة، فإنّه يحسبُ له في فضاءِ المعركةِ الوجوديّة.
لهذا عملت التوجّهاتُ الصهيونيّةُ طوالَ الوقتِ وضمنَ مخطّطاتٍ متدحرجةٍ في الزمانِ والمكانِ على ابتلاعِ الحيّزِ المدينيّ في القدسِ عبرَ زيادةِ مساحاتِ الاستيطانِ وتوسيعِ حدودِ المدينةِ جغرافيًّا وسكانيًّا لمحاولةِ إضفاءِ الطابعِ اليهوديّ عليها.
وللأسفِ فإنَّ هذهِ المشاريعَ كانت تكتملُ وَفْقَ الخاصّيّاتِ التالية:
- إرادةٌ تمثّلُها حكوماتُ الاحتلالِ المتعاقبة.
- وجودُ قوًى حزبيّةٍ مجتمعيّةٍ مادةً لتنفيذِ هذهِ المشاريع.
- دعمُ وتمويلُ تلك المشاريع.
وعلى المقلبِ الآخر، فإنَّ الشعبَ الفلسطينيَّ عمومًا وأهلَ القدسِ خصوصًا قد طوّروا آليّاتٍ للدفاعِ عن النفسِ وتثبيتِ وجودِهم في هذا الحيّز. وفي صراعِ الإرادتين برز شكلُ الصراعِ ببعدِهِ اليوميّ، والذاهبُ نحو معرفةِ ما جرى وما يجرى حاليًّا يرى أنَّ الفلسطينيّين استطاعوا برغمِ تلك المشاريعِ الجارفةِ البقاءَ والتشبّثَ في المدينةِ والمحافظةِ على وجودِهم، ويضافُ إلى ذلك نموّهم الديموغرافيّ، بحيث لم يسمحوا طوالَ تلك السنواتِ على طغيانِ التمدّدِ الديموغرافيّ للمحتلّين. فالإحصائيّاتُ تشيرُ إلى تقاربِ الأعدادِ بين الطرفين، وهذا يعني أنّ المشروعَ الاستيطانيَّ الإحلاليَّ برغمِ جبروتِهِ لم يستطع حتّى هذهِ اللحظةِ كسر الوجود الفلسطينيّ بالمدينة، لتنتقلَ بعدها دولةُ الاحتلالِ ممثّلةً بقطعانِ مستوطنيها إلى بعدٍ آخرَ في الصراع، وفتحه على مصراعيه وهو البعدُ الديني، بحيث شاهدنا في الأشهرِ الأخيرةِ شراسةَ الهجمةِ على الحرمِ القدسيّ والأحياء العربيّة الملاصقة له، ومحاولة تثبيت واقعٍ جديدٍ يقومُ على استثمارِ فائضِ القوّةِ في تحقيقِ إنجازاتٍ ملموسةٍ على صعيدِ السيطرةِ والتحكّمِ بالمسجدِ الأقصى، وعودة الأحلام التلموديّة في بناء الهيكل المزعوم على أنقاض الأقصى.
لقد سيطر الاحتلالُ الإسرائيليُّ على مدينةِ القدسِ منذ بدايةِ احتلالِ الشطرِ الغربيّ منها عامَ 1948، وبنسبةِ 84% من إجمالي مساحة المدينة، وخضعت لمختلِفِ أساليبِ التهويدِ والضمِّ إلى ما يسمّى "الدولة الإسرائيليّة"، وعرفت حينها وإلى يومنا هذا ب القدس "الغربيّة"، وعلى أثرها هُجّر نحو 60 ألفًا من سكّانها العرب الفلسطينيّين، وأصبحت نسبتُهم لا تتجاوز الـ3% مقابلَ أكثرَ من 80% من اليهود، ما ترتّبَ على ذلك فرضُ تغييراتٍ نوعيّةٍ بالبِنيةِ الديموغرافيّةِ والعمرانيّةِ لهذا الشطر من المدينة؛ أدّت إلى تهجيرِ سكّان القدس الفلسطينيّين وسلبِ بيوتِهم وممتلكاتِهم وتدميرِ أحياءٍ سكنيّةٍ عن بكرةِ أبيها، وإنشاءِ أحياءٍ سكنيّةٍ يهوديّةٍ جديدة، بالإضافةِ إلى هدمِ القرى الواقعةِ في محيطِ المدينةِ والتابعةِ لها، ومن ثَمَّ تمَّ أسرلة الشطر الغربيّ وتهويدها بشكلٍ كاملٍ إلى أنَّ تمَّ احتلالُ الشطرِ الشرقيّ منها عامَ 1967، الذي كان يشكّلُ 16% من مساحةِ البلدةِ القديمة، وباتت تعرفُ بالقدسِ القديمةِ أو القدسِ الشرقيّةِ أو العربيّة، وتمكّن الاحتلالُ من إحكامِ قبضتِهِ على شطريّ المدينة، والعمل على إطلاق السياسات والخطط الاستيطانيّة لقلب موازين المعادلة السكانيّة؛ بهدفِ تجميعِ أغلبيّةٍ يهوديّةٍ في الشطرِ الشرقيّ من المدينة، الذي يتمتّعُ بأغلبيّةٍ عربيّةٍ مطلقة. وكان الهدفُ هو إعادةُ توحيدِها تحتَ لواءِ (إسرائيل) وجعلها فيما بعدُ عاصمةً أبديّةً لها، والانطلاق بمشروع ما يسمّى "القدس الموحّدة أو الكبرى"، استجابةً لمشروعِ إسرائيل السياسيّ والأيديولوجيّ المتمثّل في "إسرائيل الكبرى". وقد طالت عمليّةُ الأسرلة شتى سمات المدينة المقدسيّة بالعمل على إلغاء خصوصيّاتها العربيّة التاريخيّة، وفرض خصوصيّاتٍ احتلاليّةٍ يهوديّةٍ بديلةٍ عنها لتغيير واقع القدس التاريخيّ والقانونيّ والديمغرافيّ القائم. من هنا كانت التوأمةُ بين الأسرلة والتهويد بمثابة التطابق بين الإنجاز والنتيجة في عمليّةٍ تراتبيّةٍ تصبُّ في النهايةِ في خدمةِ المشروعِ الصهيونيّ في إقامةِ الدولةِ اليهوديّةِ التوراتيّة.
ومنذُ الأيام الأولى لعدوان حزيران (يونيو) 1967، صُودرَ أكثرُ من 20% من مساحة "القدس الشرقيّة" وتهجير واقتلاع نحو 8000 فلسطيني وطردهم خارج أسوار القدس القديمة وهدم، ومصادرة أكثر من 700 منزل وعقار، وطمس وإزالة أحياء كاملة وعزل وتقطيع أوصال الأحياء الأخرى عن القدس؛ بسبب الحواجز الأمنيّة والإداريّة ومصادرة بطاقات المواطنين هذا بالإضافة إلى حملاتِ الاعتقالِ الواسعةِ والإبعادات والإعدامات الميدانيّة وحرق المسجد الأقصى، بهدفِ طمس الهُويّة العربيّة الإسلاميّة للمدينة، إلى التنقيب وحفر الخنادق أسفل المسجد وتجريف الأراضي مع محاولات إقرارِ سياسةٍ جديدةٍ تقومُ بتسجيل جميع أراضي شرقي القدس في سجل الأراضي الإسرائيليّة، وإصدار تشريعاتٍ وقوانين إسرائيليّة، قضت بمنع البناء في مساحاتٍ واسعةٍ شملت مختلِفَ مناطق المدينة، بالإضافة إلى تهويد وعبرنة المناحي التعليميّة كافةً في شرقي القدس، واستباحة المستوطنين ساحات المسجد الأقصى وتدنيسه والاعتداء على المصلين بحماية قوّات الاحتلال لإقامة طقوسهم الخاصّة على اعتبار أنّ المسجد الأقصى ومحيطه هو مكانُ الهيكلِ المزعوم. ومحاولة تكريس حالة من التقسيم المكاني للحرم القدسي وبناء "المدينة التوراتيّة" داخل مقبرة الشهداء، هذا بالإضافةِ إلى الاعتداءاتِ على المقدّسات المسيحيّة التي كان آخرُها محاولةَ أحدِ المستوطنين الإرهابيّين إحراق كنيسة الجثمانيّة. كلّ هذهِ الإجراءاتِ الاحتلاليّةِ تجري من أجل إحداث اختلال الميزان الديموغرافيّ في القدس، ممّا نتج عنه واقع جديد في التوزع السكاني لصالح اليهود بنسبة 3 إلى 1. فوفق الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، بلغ عدد الفلسطينيين في شرقي القدس نحو 281 ألف فلسطيني، في حين أفادت تقاريرُ إسرائيليّةٌ بأنّ الفلسطينيّين يشكّلون %61 من السكان في شرقي القدس والمناطق التي ضمّت إلى بلدية الاحتلال في القدس بعد حرب الأيام الستة. وأعلن مركزُ الإحصاءِ الإسرائيليّ من جانبِهِ أنّ عددَ سكّان القدس "الشرقيّة والغربيّة" بلغ نحو مليون فلسطيني ويهودي بينهم 550.100 يهود (63.3%) وحوالي 332.600 فلسطيني (37.7%). ومنذ ذلك الوقت وحتّى اليوم وقع الشطر الشرقي للقدس فريسةً بين أنيابِ الحركةِ الاستيطانيّة، حيث كثّفت من إجراءاتِ عزلِ المدينةِ عن محيطِها العربيّ الخارجيّ ومحاصرتها داخليًّا عبرَ الأحزمة الاستيطانيّة.
ومن نافلِ القول إنّ معظم الأحزاب الصهيونيّة دعت إلى فصل المناطق التي يسكنها الفلسطينيون في شرقي القدس وتحويلها إلى (مجالس إقليميّة إسرائيليّة منفصلة)، وذلك لتحقيق غالبيّةٍ يهوديّةٍ وأقليّةٍ فلسطينيّةٍ في شرقي القدس ولاستكمال هذا المخطط تعمل إسرائيل على تهجير الفلسطينيين من خلال التهميش والإفقار، والبحث عن ذرائعَ للتخلّصِ منهم، كفصلهم عن حدود بلدية القدس، تمهيدًا لسحب الإقامات التي تسمح لهم بالبقاء في شرقي القدس. إنّ الممارسات الصهيونيّة اتّخذت أشكالًا خطيرةً ومختلفةً لأسرلة القدسِ وتهويدها، ولم يقتصر الأمرُ على صراعٍ بين مواطنٍ أصيلٍ ومستوطنٍ مارق، بل أعمقُ من ذلك، ويتمركزُ حولَ صراعٍ بين هُويّتين مختلفتين تاريخيًّا وجغرافيًّا حرب ضروس بين "البقاء والإلغاء" ومحاولات إنتاج الدولة اليهوديّة العنصريّة الخالصة بعد طمس وإلغاء الهُويّة التاريخيّة العربيّة والسمات الحضاريّة العريقة للمدينة المقدّسة. وباتت القدسُ بؤرةَ الصراع الدينيّة والأيديولوجيّة والثقافيّة والحضاريّة ومركز الاشتباك بين نهجين؛ نهج إمبرياليّ صهيونيّ تقوم استراتيجيّتُهُ على إلغاءِ الهُويّة التاريخيّة للقدس وعروبتها من جهة، ونهج آخر نهضويّ قوميّ عربيّ تحرّريّ يسعى إلى استعادة دور القدس وسائر المراكز والحواضر العربيّة الفاعلة. الأمرُ الذي يؤكّدُ أنّ الصراعَ على القدس ليس صراعًا دينيًّا كما يروّجُ بين العرب والصهاينة، إنّما هو صراعٌ جيوسياسيٌّ يتمحورُ حولَ التشبّث بجغرافيّةِ المكان لما لها من أهميّةٍ جيوسياسيّةٍ تضمنُ الغلبةُ للأقوى المتجذّر بالمكان نفسه، والمتحكّم بدلالاته وتوظيفاته العميقة. ومن هنا تحضر مكوّنات الصراع (الأرض، الإنسان والهُويّة) كصراعٍ بين أيديولوجيّةِ الاجتثاث الصهيونيّة من جهة، وأيديولوجيّة البقاء العربيّة المتجذّرة بمنظومة القيم والأخلاق من جهةٍ أخرى، التي انعكست ميدانيًّا بصمود أهل القدس الأصليّين بوجه قوّة البطش الصهيونيّة وأدّت إلى تصاعدِ وتيرةِ القلق والخوف لدى اليهود المستوطنين عنوةً وقهرًا في بيوت ومناطق الفلسطينيين في القدس والذين أجبروا أهلها على الخروج والرحيل. وعلى ضوء ذلك تحدّث تقريرُ مجموعةِ الأزمات الدوليّة أنّ "سياسات إسرائيل الحاليّة سوف تؤدّي بحلول عام 2045 إلى جعل القدس مدينةً بأقليّةٍ يهوديّة". وبالرغم من مستوى الامتيازات التحفيزي للصهاينة كي يبقوا في القدس إلا أن الوقائع تشيرُ نقيض ذلك، فشبحُ الهجرة العكسيّة من القدس يزدادُ ويكبرُ ويقضُّ مضجعَهم ويكشفُ زيفَ روايتهم. كلّ هذهِ الهجمةِ تجري في ظلِّ صمتٍ دوليّ وتواطئ الكثيرين من العرب وانتكاسة لمشروع "السلطة الفلسطينية" غير القادر حتى هذه اللحظة على تمثيل الفلسطينيين في هذه المواجهة، ومع هذا فإنَّ الصراعَ ما زال مفتوحًا ومتواصلًا؛ بفعلِ إرادةِ الشعبِ الفلسطينيّ وصمودِه.