قديماً قالوا "إن لم يكن لك مشروعك فإنك ستكون حتماً جزءاً من مشاريع الآخرين". أتذكر هذا القول وأنا أتابع تعليقات عدد من السادة القراء على ما طرحته من تساؤلات تعتبر استخلاصات لما يحدث الآن من صراعات على قمة النظام العالمي بين الولايات المتحدة (ومن خلفها حلف الأطلسي) وروسيا والصين وبالذات السؤال: نتحرر أم نظل تابعين؟
الإجماع الذي وجدته في الإجابة على هذا السؤال أكدت ضرورة أن نتحرر ونتخلص من التبعية، كشف عن حالة وطنية شديدة الأهمية تموج في مصر الآن وكثير من الدول العربية والإسلامية حالة تواقة لامتلاكها "مشروعها الوطني"، وهذا منطلق مهم لامتلاك أولى خطوات النجاح وهو "الوعى بالحالة التي نعيشها" والتي تعتبر محصلة تفاعلات قصور داخلي وعقبات خارجية، والتي سبق أن شغلت الكثير من مفكري النهضة باختلاف مدارسهم الفكرية من دينية (إسلامية) إلى ليبرالية إلى يسارية للإجابة على سؤال: كيف ننهض؟ ومن أين نبدأ؟
وإذا كانت كل مدرسة من هذه المدارس قد اجتهدت في تقديم اجتهاداتها إلا أنها انقسمت بين تيارين؛ الأول أعطى الأولوية لتشخيص ما أسموه بـ "أسباب الانحطاط" أو التخلف، والثاني أعطى الأولوية لنماذج النهوض وهنا وجدت الليبرالية فرصاً مواتية للترويج في عصر كانت الأمة غارقة فيه حتى أذنيها في تداعيات "الحالة الاستعمارية"، وكانت أبرز تجليات الليبرالية في ما عرف بـ "نماذج التحديث" الغربية ومساراتها التطورية، التي كانت ترمى في واقع الأمر إلى تكريس "التبعية" للغرب الرأسمالي صاحب المشروع الاستعماري، والالتزام بتقليد مسارات تطوره، ما يعنى التأكيد على أن النهوض لن يحدث إلا من خلال الالتزام بالنموذج الغربي في التحديث أولاً، ثم بإتباع مسارات تحقيقه خطوة بعد أخرى ثانياً. أما التيارات اليسارية فقد اجتهدت في الدعوة للتجربة الاشتراكية في النهوض دون امتلاك قدرات نقدية لتلك التجربة سواء في عهد تألقها أو حتى بعد سقوطها.
الآن الأمر يبدو أكثر تعقيداً في ظل معادلات الصراع الدولية الراهنة، فالولايات المتحدة الأمريكية مدعومة بالدول الصناعية الكبرى السبع وبكل أدواتها المؤسسية الدولية الاقتصادية والمالية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) والتكنولوجية تدافع بكل قوة عن أيديولوجية العولمة الأمريكية التي تمثل ذروة التحالف بين الرأسمالية – الليبرالية الجديدة وبين التكنولوجيا، في محاولة لتكريس خضوع العالم لهذه الأيديولوجية المعولمة وما تطرحه من نماذج ثقافية وأخلاقية وقيمية تسعى إلى فرضها وتعميمها على كل العالم.
على الجانب الآخر تجتهد كل من روسيا والصين من أجل إسقاط النظام العالمي الراهن أحادي القطبية الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، ومن أجل الدعوة إلى تأسيس نظام عالمي بديل متعدد الأقطاب، حتماً ستكون له أيضاً منظوماته الفكرية والقيمية على النحو الذي يجتهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للترويج له الآن.
فإذا كان مدير دائرة التخطيط الخارجي بوزارة الخارجية الروسية ألكسي دروبينين قد أكد على أن "عصر التعاون (الروسي) مع الغرب قد انتهى" وأوضح أن "جوهر الشروع في العملية الأكثر مصيرية يتركز حول تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، يتعلق بالانتقال من النزعة الأنانية الأمريكية الليبرالية العالمية إلى عالم متعدد الأقطاب حقاً، قائم على السيادة الحقيقية للشعوب والحضارات". فإن الرئيس الروسي حرص في أكثر من مناسبة على التأكيد على أمرين؛ أولهما أن "النموذج الحضاري الغربي" لم يعد قادراً على قيادة العالم لأنه في طريقه إلى "الإفلاس" وثانيهما أن ذلك "النموذج الحضاري" أو ما أسماه بـ "حضارة المليار الذهبي"، أي المليار شخص الذين ينتمون إلى العالم الغربي، لم يحقق نجاحاته بإبداعاته ونجاحاته فقط، أو "لم يصبح ذهبياً" بمحض الصدفة، ولكنه حقق كل ذلك من خلال استراتيجية "نهب ثروات الشعوب" في قارات العالم المختلفة، وبالتحديد "بسبب سرقة الشعوب الأخرى في آسيا وأفريقيا". وتوظيفاً لمقولة الرئيس بوتين بأن "الغرب لا يمكنه ببساطة أن يقدم للعالم نموذجاً للمستقبل" دخل سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسي في سجال استشراف المستقبل العالمي والنيل من النموذج الحضاري الغربي وتهيئة العالم للتطلع للنموذج الحضاري البديل الذي لم تتحدد معالمه بعد.
هاجم لافروف منظومة القيم الغربية، وقال أنه "لا يستطيع تفسير الترويج الغربي لـ (القيم المثلية والتحول الجنسي)"، وأجاب بأنه "ربما يكون السبب هو أن (المليار الذهبي) يقضى بتقليص عدد البشر على كوكب الأرض، لأن الموارد لا تكفى جميع الناس"، ما يعنى أن الغرب من وجهة نظره ما زال ممعناً في استراتيجية "نهب ثروات الشعوب" وأن يختص بها لنفسه، وأنه يريد بالدعوة لـ "الشذوذ الجنسي والزواج المثلى تقليص البشرية على النحو الذى تقوم به استراتيجية نشر الأوبئة والفيروسات القاتلة في العالم كنوع من أنواع الانتقام من العالم".
مثل هذا الصراع يفاقم من معضلة شعوب العالم الثالث، وفى القلب منها الأمة العربية – الإسلامية التي ستجد نفسها أمام خيارين؛ إما بناء نموذجها الحضاري المستقل وإما الانسحاق في أتون الصراع بين الحضارات والثقافات. وإذا كان اختيارنا هو بناء نموذجنا الحضاري فعلينا أن ننشغل بالإجابة على السؤال: من أين نبدأ؟ وتحديد نقطة الانطلاق، وهنا يمكننا الاستعانة افتراضياً بالنموذج "الصوفي" في "لارتقاء الإيماني" الذي يقول بـ "التخلية قبل التحلية"، أي البدء بتنقية الذات من كل أسباب الانحطاط أو التخلف ثم استتباع ذلك بعملية الملء بالقيم والأفكار التي تحقق النهوض، أي الهدم قبل البناء، وهذا يستلزم القيام بتشخيص دقيق لإرث التخلف وهنا نجدنا أمام إبداعية لمفكرين كبيرين لهما إسهاماتهما المرموقة في هذا الميدان؛ الأول هو المفكر الجزائري مالك بن نبي والآخر هو المفكر الإيراني الدكتور على شريعتي. فقد أجمل مالك بن نبي تشخيص المعوقات الداخلية والخارجية للنهضة بعاملين؛ الأول هو "الاستعمار" كظاهرة نهب وتخلف وتبعية والثاني هو "القابلية للاستعمار"، أي القابلية الذاتية للشعوب كي تبقى مستعمرة وخاضعة للاستعمار. أما على شريعتي فقد اتفق مع مالك بن نبي في أن معوقات النهضة ترجع لتفاعل عوامل داخلية وأخرى خارجية، وأن "الاستعمار" هو العامل الخارجي لتكريس التخلف والانحطاط للأمم والشعوب، لكنه تحدث عن ما أسماه بـ "الاستحمار" ويعنى به ما أراده مالك بن نبي من "القابلية للاستعمار"؛ أي الاستعداد الطبيعي للشعوب للخضوع والخنوع والانزواء وهو ما أسماه بـ "الاستحمار".
وإذا كان الاستعمار التقليدي قد انتهى ويحل محله الآن أنواع جديدة أكثر شراسة، خاصة الليبرالية الجديدة المعولمة التي تمعن في فرض الهيمنة على الشعوب، فإن القابلية للاستعمار أو للاستحمار تزداد تأصيلاً في عالمنا الراهن في أشكال متنوعة من الاستلاب الحضاري واستلاب الذات والاغتراب القيمي واللغوي وتدني الهوية الوطنية وغيرها من الظواهر الخطيرة التي نعيش مكبلين بها والتي تحدد لنا بوضوح شديد من أين يجب أن نبدأ.