منذ اللجوء الفلسطيني في العام 1948 وبعد فقدان الأرض كمستقر ومصدر رزق تحول الاهتمام إلى التعليم كأحد أهم الأبواب للتعويض عن هذا الفقدان المرير؛ فالتعليم بكافة الاختصاصات وفّر للاّجئ الفلسطيني فرصة جديدة للحياة، بعد أن توزعت جموع اللاجئين إلى أربعة رياح الأرض. والشواهد التاريخية على هذا الفعل كثيرة لا تحصى ولا تعد، لكن على الدوام كان الفلسطيني يتجه نحو العملية التعليمية لأكثر من سبب، ويتجاوز أيضًا البعد المادي الحياتي؛ فالتعليم كان وما يزال بمثابة رأسمال رمزي للفلسطيني، حيث شكل وعيه الحديث بعد النكبة وبلور من خلاله هويته الوطنية الحديثة.
بكل الأحوال؛ فإن اللاجئ الفلسطيني يدرك على الدوام، أنه أمام أي محنة يواجهها كان قادرًا على الخروج منها، بفعل هذا الكم الكبير عدديًا ونوعيًا من النخبة التي تشكلت لديه؛ فمن لجوء إلى لجوء، ومن مخيم إلى آخر، كان الفلسطيني يحمل معه الذكريات ومفاتيح البيوت وكواشين الأراضي ويحمل معه أيضًا خبرته ليقدمها للبلاد التي يعيش فيها، بسبب ذخيرته التعليمية التي ميزته طوال عقود وأمّنت له القدرة على التموضع والانسجام في بلاد اللجوء والمنافي؛ فطبيعة الأجواء التي تعيشها مخيمات اللاجئين تحتم عليهم مواجهتها بالعلم لا الاستسلام لها، واختيار المواجهة والتحدي وهو ما ظهر بتحقيق نتائج متفوقة ومتقدمة على مستوى الدول التي يعيشون فيها، ومنها سوريا، حيث حقق الطلاب الفلسطينيون من أبناء المخيمات وبمختلف مراحلهم التعليمية نتائج عالية في امتحانات الثانوية العامّة "البكالوريا" بكافة فروعها، في دورة العام 2021/2022، التي صدرت الشهر الماضي في تموز/ يوليو. وحقق العديد من الطلبة، نتائج مبهرة، ومنهم الطالبة "نغم هيثم" من أبناء مخيم خان دنون بريف دمشق، والتي كادت أن تحقق المجموع كاملًا، ولكن بفارق درجتين، حيث نالت مجموع 238.5 درجة من أصل 240 بالفرع العلمي؛ بينما في العام الدراسي المنصرم، حصلت الطالبة "تالا محمود خلف" على المرتبة الأولى في سورية بالثانوية العامة: بمجموع كامل 2900/2900، وهي من أبناء مخيم اليرموك، فرع علمي، ونال الطالب "قصي محمود عبد الله" من أبناء مخيم اليرموك المرتبة الثانية في الفرع الأدبي على مستوى ال قطر في الدورة الامتحانية 2021. وأعداد كبيرة من الطلاب الفلسطينيين في سوريا الحائزين على الشهادة الثانوية، يتوزعون على مختلف الجامعات السورية وفي مختلف الفروع والاختصاصات، إضافة إلى المعاهد الصناعية والفنية والمهنية التابعة لوزارة التعليم العالي السورية وباقي الوزارات. كما يرتفع مجموع الطلاب الفلسطينيين في الجامعات السورية سنويًا بشكل ملحوظ، ومنهم من نال درجات علمية عالية في مختلف الاختصاصات الجامعية؛ لينسج من خلالها قصة إبداع وتميز، بدأها من المخيم كشاهد على النكبة والتهجير القسري؛ ليحولها إلى رمز للعودة إلى الديار، وليجسد من خلالها مفهوم الكرامة الوطنية وعزة الإنسان الفلسطيني المعطاء الحارس للهوية الوطنية. ومنذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011، بلغت نسبة زيادة الطلبة الفلسطينيين في الجامعات السورية حسب الفروع والاختصاصات ما يفوق (31%) في كليات الآداب وأكثر من (17%) في كليات الهندسة، ونحو (14%) في كليات العلوم، وفي كليات التجارة والاقتصاد (9,7%)، ونحو (8%) من كليات الحقوق والقانون الدولي، أما الفروع الطبية، فحققت نسبة زيادة تقدر (6,4%) للطب البشري، (3,2%) لطب الاسنان، (2%) للصيدلة. وتتوزع نسب زيادة في اختصاصات عديدة، تتراوح بين 1% إلى 4%؛ تشمل كليات التربية والزراعة والبيطرة والشريعة والفنون الجميلة، وبحصيلة تقريبية تتجاوز نسبة الحاصلين على الشهادات العليا أكثر من (23%).
لقد لجأ إلى سوريا نحو (85) ألف فلسطيني إثر نكبة العام 1948، وارتفع مجموعهم ليصل إلى (535) ألف لاجئ فلسطيني في العام 2012، إضافة إلى (62) ألف نازح فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة، اضطروا للنزوح إلى سوريا خلال عامي 1967 و1970. وحينها انخرط الفلسطيني في البنية المجتمعية السورية وعاش طوال عقود منسجمًا مع هويته الوطنية، دون قلق من الهويات الأعلى، حيث يكملان بعضمها البعض. ويتمتع أغلب اللاجئين الفلسطينيين في سورية؛ خصوصًا الذين لجؤوا إبان نكبة 1948، بأغلب الحقوق من تعليم وصحة وعمل وغيره، عدا الحقوق السياسية كالترشيح والانتخابات، لذلك تواجد الفلسطيني في كافة مؤسسات الدولة السورية العامة والخاصة، واندمج بسهولة في كافة النقابات المهنية والحرفية فيها، ومع بداية الأحداث في سوريا، وعلى الرغم من إعادة التموضع التي جرت، نتيجة تداعيات الحرب، إلا أن اللاجئ الفلسطيني بقي متمسكًا بعنوان التعليم؛ على الرغم من كل الظروف المعيشية الصعبة التي ألمّت به، نتيجة تلك الأحداث المستمرة منذ أكثر من عشرة سنوات.
وتشير تقديرات إلى تهجير نحو ثلثي مجموع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، من أماكن سكناهم، خلال العام 2012 وما بعده، سيما من مخيمات اليرموك جنوب دمشق وحندرات في حلب ومخيم درعا. والغالبية الكبرى من المهجرين كانت على شكل نزوح داخلي، ونحو (150) ألف فلسطيني غادروا مخيماتهم في سوريا وواصلوا درب الآلام في اللجوء نحو القارة العجوز وأصقاع مختلفة من العالم. ويعيش حاليًا في سوريا قرابة 438 ألف لاجئ فلسطيني، يشكل الأطفال منهم قرابة 36% ويعاني أكثر من 40% من التهجير الداخلي والنزوح عن بيوتهم.
إن التمسك بالتعليم، والذي تجسد بالنتائج العالية التي يحققها الطلاب الفلسطينيون في سوريا، وجلهم من أبناء المخيمات، مقارنة بزملائهم من الطلبة السوريين؛ تؤكد على حقيقة أن اللاجئ الفلسطيني ما زال منخرطًا في البنية التعليمية: مُعلّمًا ومتعلمًا، فيما قوافل الخريجين ومن كافة الاختصاصات تؤكد على أن الوعي الجمعي ما زال لديه الفاعلية وما تزال لديه الرؤية المستقبلية، بأن حالة التموضع السابقة في المخيم هي لحظة تاريخية سيعبرها مهما طال الزمن، لهذا بقي الوعي الجمعي محافظًا على الفكرة الأولى التي بدأها من لحظة اللجوء؛ علما أنهم من الجيل الثالث الذين هُجّروا عن بعض مخيماتهم في سوريا، بعد تهجير أجدادهم عن فلسطين، منذ أكثر من سبعين عامًا.
وبالرغم من صعوبة الأزمة السورية، إلا أن بقاء مؤسسة "أونروا" على رأس عملها، سمح لو بالحد الأدنى للاجئ الفلسطيني من أن يكون جزءًا من هذه الفاعلية الخدماتية؛ فالمؤسسات التعليمية التابعة "للأونروا"، من مدارس ومعاهد مهنية؛ دفعت باتجاه المحافظة على الجيل الفلسطيني الناشىء. ويذكر أن مخيم اليرموك قبل اندلاع الأزمة؛ كان يضم (28) مدرسة للأونروا/الوكالة؛ تعمل بنظام الفترتين من أصل (118) مدرسة للأونروا/للوكالة في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا، إضافة إلى ثمانية مدارس حكومية، إلا أن أرقام "أونروا"، كشفت النقاب في مؤتمر بروكسل، بأن 70% من جميع مدارس الوكالة في سوريا غير قادرة على العمل.
وتقدم الأونروا/الوكالة في سوريا؛ تعليمًا أساسيًا ابتدائيًا وإعداديًا لما مجموعه 65,479 طفل من اللاجئين الفلسطينيين، ويأتي العام الدراسي لموسم 2022/2023 وسط نسب الفقر في صفوف اللاجئين تقدر ب 82%، يعيشون بدخل لا يتجاوز 1.9 دولار باليوم الواحد، وفق أرقام أعلنتها الوكالة. وبلغت نسبة نجاح طلبة الصف التاسع في العام 2022 أكثر من (94%)، مقارنة ب(90%) مع العام الماضي.
على الأرجح، لا يوجد احصاءات دقيقة لعدد الفلسطينيين اللاجئين الذين غادروا سوريا، لكن الأغلبية ما تزال تعيش لحظة اللجوء في سوريا، ولهذا بتنا نرى اليوم الآلاف من المنخرطين في العملية التعليمية، سواء في المدارس والجامعات وفي كافة التخصصات العلمية والمهنية؛ يحققون النجاح والتميز، وأصبحنا أمام جيل متجدد قادر على أن يملأ الفراغ ويعلن للعالم: أننا لن نقبل بأن نبقى لاجئين وسنعود إلى أرضنا بفضل التمسك بالعلم.