بطاقة تعريف: (غسان جاسم سرحان، بحريني الجنسية من مواليد عام 1988، حاصل على رخصة هندسة طيران صيانة هايكل ومحركات من المنظمة الأوربية لسلامة الطيران EASA 147، وحاصل على دبلوم هندسة ميكاترونيك وبكالوريوس قانون، ويدرس حاليًا ماجستير في القانون التجاري.
عضو المكتب السياسي لجمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) قبل حلها بقرار من السلطات الأمنية البحرين ية، وعضو اللجنة المركزية لاتحاد الشباب العربي ٢٠٠٨- ٢٠١٠، وشغل منصب رئيس جمعية الشباب الديمقراطي البحريني ٢٠١١-٢٠١٣، وكذلك نائب رئيس جمعية الشباب الديمقراطي البحريني ٢٠٠٨-٢٠١٠، ونائب رئيس الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني ٢٠١٦-٢٠١٨، وعضو المؤتمر القومي العربي).
* تعد البحرين من أكثر الدول الخليجية التي يوجد بها مؤسسات ولجان تنشط في مواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني، كيف لك أن تضعنا في أنشطة الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع وآليات عملها على مستوى البحرين والتفاعل الشعبي معها؟
** الحقيقة أن الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع هي واحدة من مؤسسات المجتمع المدني البحرينية التي تأسست في بداية الألفية الثانية، من خلال مجموعة من المناضلين العرب البحرينيين من انتماءات مختلفة يؤمنون بالقضية المركزية للأمة العربية، وذلك بهدف تغطية الفراغ الذي خلقه تخلي الحكومات العربية عن واجب الدفاع عن القضية المركزية للأمة، وبالأخص فيما يتعلق بموضوع المقاطعة العربية لدولة الكيان الصهيوني وهي واحد من مرتكزات مخرجات جامعة الدول العربية في فترة نشأتها الأولى، وقد ساهم المخزون الثقافي المقاوم للاحتلال والمتبني لقضايا الأمة العربية والذي ترسخ على امتداد عقود من الزمن لتفاعل واسع في صفوف الشعب البحريني مع الجمعية وأهدافها وفعالياتها.
ونشاط الجمعية لم يكن في يوم من الأيام نشاطاً موسمياً أو ناتج من ردات فعل، بل على امتداد أكثر من عقدين من الزمن. منذ لحظة تأسيسها سعت الجمعية للقيام بالعديد من الفعاليات والأنشطة والندوات والمؤتمرات من بينها أكبر مؤتمر لمقاومة التطبيع والذي أقيم في البحرين في بداية الألفين، وكان الهدف الرئيسي وما زال هو توعية الأجيال الناشئة بالقضية المركزية للأمة العربية وبحقيقة خطر العدو الصهيوني على الأمة بأسرها، وليس فقط فيما يتعلق باحتلال وقضم الأراضي الفلسطينية، بل بتعرية حقيقته القائمة على القتل والنهب والدمار.
وفي الفترة الماضية تحول نشاط الجمعية بالإضافة لما تقدم ليضيف محاولة لإيصال وجهة النظر الشعبية الرافضة للتعامل مع الكيان الغاصب والخطوات التطبيعية الواسعة التي اتخذتها الحكومة البحرينية، مخالفة فيها الإجماع الشعبي سواءً للبحرينيين أو للأمة العربية التي ينتمي لها شعبنا، فأقيمت الفعاليات والندوات والاعتصامات في سبيل توصيل وجهة النظر مع استمرار الدور التوعوي في سبيل تحصين الجبهة الداخلية البحرينية، من خطر الاختراق الصهيوني من جهة، بالإضافة لمحاولة حشد أكبر قوى مجتمعية حول القضية الفلسطينية وتأطيرها من جهة أخرى.
ونجحت الجمعية في المساهمة في تأسيس المبادرة الوطنية لمناهضة التطبيع والتي تضم طيفاً واسعاً من قوى ومؤسسات المجتمع المدني البحرينية، والحقيقة أن ما سهل مهمة التأسيس هو الإيمان الراسخ من كافة قوى ومؤسسات المجتمع المدني البحرينية وكذلك الشعب البحريني بالقضية الفلسطينية بما سهل مهمة التأسيس والاتفاق، حيث أنه بالرغم من كل المنغصات التي تمر على عالمنا العربي من صعود للهويات الفرعية على حساب الهوية القومية الجامعة وتردي الأوضاع السياسية والاقتصادية واهتراء الموقف الرسمي العربي تجاه القضية الفلسطينية، إلا أن القضية الفلسطينية ومقاومتها الباسلة تظل قضية جامعة بالنسبة للشعب البحريني وقواه الحية.
وبالرغم من القدرات المتواضعة للجمعية، إلا أنها اضطلعت بمهمة أخرى تنازلت عنها الحكومة البحرينية بإغلاق مكتب مقاطعة البضائع الصهيونية، مما ساهم في تسرب العديد من العلامات التجارية والمؤسسات والاستثمارات التي تحقق أرباحاً مباشرة أو غير مباشرة للكيان أو لمستوطنيه، وهو ما سعت معه الجمعية على امتداد سنوات عملها لتبيان أهمية المقاطعة ونشر ثقافتها ليس فقط في وسط المستهلكين من أبناء شعبنا البحريني، بل حتى في صفوف التجار لدفعهم لتوفير بديل عالي الجودة للبضائع التي تساهم في إثراء الكيان الغاصب ودعمه.
وصولاً إلى لحظة إعلان اتفاق التطبيع البغيض ودخول بعض الاستثمارات والبضائع الصهيونية بشكل مباشر للأراضي البحرينية، وهو ما تقوم معه الجمعية بدور رقابي لرصد منتجات دولة الكيان ومستوطنيه واستثماراتهم، وفي حالة رصد أي منتج يتم مخاطبة الجهة التي تقوم بعرضه لإزالته على فرض حسن النية كخطوة أولية سابقة لإعلان أي موقف من صاحب المحل، والحقيقة أن الكثير من الحالات امتثلت مباشرة للتنويه وإزالة تلك البضائع.
* تساوقت عدد من الدول الخليجية علنًا مع التطبيع من خلال الاتفاقات الإبراهيمية، وأخرى تقيم علاقات سرية مع العدو الصهيوني ومرشحة لإشهارها في أي وقت، كيف تنظرون لأسباب ودواعي هذا الاندلاق نحو التطبيع مع العدو وتداعياته على دول الخليج ذاتها؟
** من الناحية المبدئية أرى أن التحليل الذي سارت عليه الأنظمة الرسمية العربية هو طريق الهزيمة من الداخل الذي اتخذوه، فمنذ أن رفع أنور السادات شعار ٩٩٪ من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة الأمريكية وقد ارتهن من آمن بذلك الأمر للأمريكان. والأنظمة العربية وبعض المعارضات كذلك قد تبنوا هذه النظرية في تحليل المواقف السياسية بسقف سياسي يحمه الإيمان بوحدانية القطب، وهو ما سار بهم للاقتناع باتخاذ مواقع معارضة للإرادة الشعبية الداخلية ومنها التطبيع مع الكيان الصهيوني كأحد أكبر وأكثر التطبيقات لهذه النظرية وضوحاً، فبالرغم من المعارضة الشعبية سارت وهرولت الأنظمة باتجاه التطبيع مع الكيان الغاصب، وكذلك وصلت حد المشاركة في أحلاف أخرى بقيادة أمريكية وسيلة لإيصال رسالة للأمريكان بأننا مستعدون لفتح أراضينا لاستقبال أي قوى تريدون تواجدها، ذلك لإيصال رسالة للأمريكان بأن مصالحكم مرتبطة دائماً وأبداً مع وجودنا كأنظمة حكم، غير أن الحقيقة هي أن شعبنا هو الوحيد القادر على حماية أي نظام سياسي يكون انعكاس له، وأن هذه الخطوات جعلت وتجعل الأنظمة العربية في مواجهة مضمرة أحياناً ومشهرة أحياناً أخرى مع شعبها.
بالإضافة لأن قرار التطبيع قرار يجعل من الاصطدام أو فلنقل يدق إسفيناً بين الشعب والأنظمة الحاكمة، فإن هذا التطبيع والذي أعتقد بأنه ليس تطبيعاً في حدوده الدنيا، بل جاوز لذلك ليصل للتحالف والتعاضد مع الكيان الغاصب في مواجهة العدو الوهمي الذي خلقته الفزاعة الأمريكية وأتباعها في المنطقة، الأمر الذي يجعل من دول الخليج ساحة للاصطدام بين المشاريع المتناحرة في المنطقة العربية، بين المشروع الذي يؤمن بوحدانية القطب وبين مشروع آخر يؤمن بتعدد الأقطاب من جهة، ولكنه في الوقت ذاته يسطح ميزان القوى، باعتبار ميزان القوى العسكرين هو الحاكم دون الأخذ بإجمالي القوى القومية للأمة العربية المتحركة، من الاقتصاد والاجتماع وغير ذلك من الأمور، بما يؤدي لميلان الكثير من القوى المعارضة للمشروع الأمريكي للمشروع الآخر، كل ذلك في ظل ضعف مشروع موجود وإن كان مظهراً ثانوياً وهو المشروع العربي القائم على الديمقراطية الحقيقية والتقدم والإيمان بأن هذه الأمة من المحيط للخليج تمتلك في داخلها عوامل النهضة.
* قياسًا على دور ونشاط الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع، هل تنشط مجموعات أخرى علنية في الدول المطبعة الخليجية وغيرها تحمل لواء مقاومة التطبيع ومخاطره؟ وإن وجد فهل هناك جهود موحدة على هذا الصعيد؟ وإن لم يوجد فكيف يمكن أن يتم ذلك؟
الحقيقة أن مؤسسات المجتمع المدني بشكل عام في الخليج شبه معدومة لأسباب عدة منها سياسية ومنها طبيعة الاقتصاد الريعي، ولكن ذلك لم يمنع من تشكل العديد من المجموعات، بالأخص فيما يتعلق بالشأن القومي، سواء بما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية بشكل عام أو بالقضايا العربية الأخرى، غير أن إشهار اتفاقات التطبيع ولن أقول عقدها، لأنها متواجدة منذ عقود من الزمن وجل ما غيرته اتفاقات التطبيع هو رفعها للعلن بدلاً من بقائها في الظلال، الأمر الذي بدوره ساهم في تأسيس وإشهار العديد من المجموعات في الخليج مثل: إمارتيون ضد التطبيع، وعمانيون ضد التطبيع، وشباب قطر ضد التطبيع، وكويتيون ضد التطبيع، وسعوديون ضد التطبيع، بالإضافة للعديد من الجمعيات الرافضة للتطبيع في البحرين ذات التوجهات السياسية والفكرية المختلفة من بينها الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع.
وعلى امتداد الشهور الماضية عمل العديد من الشباب على ربط الساحات في محاولة لتوحيد الفعل، فتأسست مجموعة خليجيون ضد التطبيع، وحركة المقاطعة في الخليج، والتي برأيي أضافت للعمل المشترك الكثير، ولكنها ما زالت في طور نشأتها الأولى وبحاجة لوقت من الزمن لتترسخ أكثر وتحقق نتائج على الأرض، وبالتأكيد بحاجة لتأسيس أكبر على المستوى العربي وليس علي المستوي الخليجي فحسب، لعوامل وأمور عدة لسنا في وارد الخوض فيها، ولكن أهمها أن الهجمة على الأمة العربية هي هجمة على المستوى القومي والرد عليها يجب أن يكون على المستوى القومي، وكما أن الشعب العربي في فلسطين ومقاومته الباسلة هي رأس حربة الأمة العربية في مواجهة الثكنة العسكرية الدائمة لقوى الاحتلال العالمية، فإن الساحة الخليجية اليوم هي رأس حربة الأمة العربية في مقاومة التطبيع، بل التحالف مع الكيان الغاصب، وبالتأكيد كما أنه من غير العادل أن نحمل الساحة الفلسطينية والسورية واللبنانية مسؤلية الدفاع عن أمة بأسرها، فمن غير العادل ايضاً أن تعزل الساحة الخليجية في ظل ظروفها الداخلية والقبضة الأمنية التي يحكم بها شعبنا العربي في هذه المنطة ويحمل مسؤولية منع اختراق وعي الأمة بشكل كامل، لذلك فإني أرى وجوب الرد على المستوى القومي بشكله العام.
* لم يقف التطبيع عند حدود الاتفاقات السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها مع العدو الصهيوني، بل كانت الأنظمة الرسمية العربية بحاجة دائما "لجيوش" من المثقفين والكُتَّاب والإعلاميين الذين يعملون على شرعنة هذه الاتفاقات وغسل وجوه أنظمتها، فكيف يمكن أن تغدو عملية مواجهة التطبيع وأهدافه شاملة ويومية وليست مجزأة وموسمية؟
** الحقيقة أن هذه المسألة التي أعلنت عنها الجمعية البحرينية منذ اللحظة الأولى لإعلان التوقيع على اتفاقات التطبيع وما سبقها من أحداث تسير في ذلك الاتجاه، ونعيدها في كل لحظة، إن مسألة مقاومة التطبيع هي جزء من مشروع المقاومة الشاملة للأمة العربية، وفكرة المقاومة في حد ذاتها لا تعني بالضرورة فعاليات أو مواقف في لحظات ما، بل تعني مهام ومسؤليات من المهم الاضلاع بها ومراجعتها والعمل على تحقيقها بشكل علمي، فمنذ لحظة إعلان اتفاق التطبيع وقد قرأت الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع قرائتها للواقع، بأن التطبيع ليس وليد إرادة داخلية، بل هو وليد مشاريع إقليمية. بمعنى أن الموقف الرسمي للأنظمة المطبعة هو متغير تابع وليس متغير مؤثر والنتيجة أننا على إيمان بأن إمكانية تغيير الموقف الرسمي في هذه اللحظة هي إمكانية تاريخية وليست إمكانية واقعية، بيد أن الامكانية الواقعية تكمن في مسألتين الأولى: أن المهمة اليوم هي مهمة حماية الجبهة الشعبية من خطر الاختراق الصهيوني والتعامل مع التطبيع كوجهة نظر، أما المسألة الأخرى فهي: مسألة رفع الموقف الشعبي ليصبح في عدسة السياسة الدولية الوحدة الأصغر للقياس، بمعنى اجبار القوى الحامية للتطبيع ومشروعه، لقراءة نجاح الاتفاقات في إطار قياس الموقف الشعبي العربي في الخليج أو في أي من الدول العربية المطبعة، بغض النظر عن الموقف الرسمي لأنظمة الأقطار العربية التي سارت في هذا الطريق.
أما مسألة المثقفين، فالحقيقة أن الكثير من المثقفين إما يدعون بأن الثقافة لا علاقة لها بالسياسة وهذا الأمر غير المتصور، فلا يمكن أن يكون المثقف منفصلاً عن مشاكل مجتمعه، والنوع الآخر الذي اتسم بالخيانة بشكل واضح فأفضل من وصفه هو تشي غيفارا عندما قال "لا شيء أسوأ من خيانة القلم، فالرصاص الغادر قد يقتل أفراداً، بينما القلم الخائن قد يقتل أمماً"، لذلك فإن مواجهة فهم ما لأي مسألة بحاجة لفهم مضاد، وهنا يكمن دور قوى مقاومة التطبيع على المستوى العربية بحماية الجبهة الشعبية العربية من الاختراق وبإعادة صياغة فهم مسألة الصراع العربي الصهيوني التي تشوهت على امتداد عقود من الاتفاقات والمبادارات الاستسلامية التي ساهمت إن لم تكن هي نفسها من عبثت بالوعي الشعبي العربي.
* كمتابع ومهتم وناشط وقارئ للمسار الطويل للاتفاقات العربية – الصهيونية، هل يمكن أن نكتفي بوصف ما جرى ويجري اليوم بأنه تطبيع للعلاقات؟ أم أن المسألة لها توصيفات وأبعاد أخرى؟
** الإجابة على هذا السؤال ليس لها بعد واحد ففيها تشابك للعديد من الملفات، بعضها نحن من نحمل مسؤليته وبعضها الآخر تتحمله القوى الاستعمارية، فنحن كقوى عربية نتحمل مسؤولية افتقادنا للمفكر الاستراتيجي والتعامل بردات فعل. فمسألة التطبيع أو بالأدق توقيع اتفاقات التطبيع العلنية، والتي هي في حقيقتها تحالفات مع الكيان الغاصب وليس فقط تطبيع رسمي، كما حدث في مصر والأردن، فهي في حقيقتها تغير نوعي ناتج عن تراكمات بدأت يوم قبلنا كلمة (دولة إسرائيل)، بدلاً عن الكيان الغاصب، والتي بدورها قادت لمصطلح (جيش الدفاع الإسرائيلي)، بدلاً من جيش العدوان الصهيوني، والتي قادت بدورها لمسألة ظهور قادة وسياسين صهاينة على قنوات عربية، دخلوا من خلالها لكل بيت عربي بحجة أننا أصحاب حجة قوية قادرين على الدفاع عن أنفسنا أمام أفكار الصهيونية.
المسألة ان المفكر الاستراتيجي للكيان الغاصب والذي ما زال مستمراً بالعمل اليوم باستفزاز العرب بتغريدات على تويتر أو فيس بوك أو غيرها من وسائل التواصل، سواء من المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال أفخاي ادرعي أو غيره من العاملين الصهاينة في الفضاء التقني، هؤلاء في الحقيقة لا يهمهم الموقف الذي يبديه العربي، بل ما يهمهم أكثر هي مسألة التفاعل مع حسابات صهيونية، لذلك فإن المفكر الاستراتيجي للكيان الغاصب والتطبيع سار بخطى ثابته على امتداد سنين، لا من أجل تحقيق التطبيع، بل من أجل كسر الحاجز النفسي للشعب العربي من التعامل مع الكيان، فبدأ ذلك بعقود لتغيير مسميات، وإن كان ينظر لها البعض في لحظتها كمجرد تسمية، إلا أن الأيام أثبتت أنها تراكمات كمية أدت للتغيرات النوعية التي يحصد الكيان الصهيوني ثمارها اليوم بالتطبيع الرسمي.
المسألة الأخرى هي النزعات لبعض التنظيمات العربية والتي زحفت نحو الخيانة، فأهم مسألة في قضية التطبيع يجب الحفاظ عليها وحمايتها بالأخص في هذا التوقيت هو الحاجز النفسي للفرد العربي سواء المسيس أو العادي الرافض للتعامل مع الكيان الغاصب وكل ما يمت له بصلة والبناء عليه، وواحد من المسائل المؤسفة بأن السلطة الفلسطينية ارتكبت موبقات في محاولة لكسر هذا الحاجز النفسي، فهي السلطة التي دعت وساهمت وأصدرت وما زالت تصدر مواقف تبرر التطبيع أو في أقل تقدير تنزع عن هذا الفعل صفة الخيانة. فأكبر جسم يروج لزيارة الأراضي المحتلة عن طريق معابر يسيطر عليها الكيان الغاصب تحت عنوان زيارة السجين ليس مثل زيارة السجان هي السفارة الفلسطينية التي نظمت وشجعت زيارات لفنانين ومثقفين، ورأيي بأن خطيئة هؤلاء الفنانين والمثقفين أكبر من الفرد العادي، لإدراكهم لطبيعة الصراع وخباياه، ونتيجة ذلك مخالفة الإجماع الشعبي بعدم التعامل مع سلطات الكيان الغاصب، وساهمت تلك الزيارات بكسر الحاجز النفسي بين العرب والكيان أو على الأقل محاولة كسر هذا الحاجز.
الفكرة الأساس أن مسألة التطبيع أولاً في مسارها تبين عن حاجة للقوى العربية الحية للتفكير بالأهداف المرحلية، ليس فقط فيما يمكن تحقيقه من عدمه، بل بعلاقتها بالهدف الاستراتيجي وهو بكل وضوح تحرير كامل التراب العربي من دنس الصهاينة وتحرير القرار العربي بشكل كامل من التبعية والارتهان، وترسيخ أن ما بيننا وبين الكيان هو صراع وجودي ولا شيء بيننا كعرب وبين الصهاينة سوى الحرب والدم على طريق تحقيق الحرية والاستقلال والوحدة.
أما المسألة الأخرى، فتكمن في الأنظمة التي كما أسلفنا والتي تحلل السياسات وفق سقف القطب الواحد وفي محاولات إرضائه، تنساق وراء تسليم القرار الكامل في سبيل إيصال رسالة: أن مصالح القطب الواحد مرتبطة بشكل مباشر مع استمرار الأنظمة في الحكم، بدلاً من الرهان على الشعب، وحيث أن الفترة الماضية أوضحت بأن الإدارة الأمريكية تتجه لتخفيف التواجد العسكري المباشر وإنهائه وأنها لن تترك فراغا في منطقة الشرق الأوسط كما أُعلن عنه، والواضح أن ملء الفراغ الذي قد يخلف إذا ما كان هناك نية لتخفيف التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، يراد له أن يتم من خلال الكيان الصهيوني الغاصب، وجاء طرح فكرة الناتو الشرق أوسطي بقيادة الكيان بهذا الهدف من جهة، ومن الجهة الأخرى بهدف خلف مؤسسة تعطي الشرعية المؤسساتية لأي فعل عدواني من الأفعال التي دأبت أمريكا والكيان الغاصب على القيام بها، كما استخدمت سلفاً حلف شمال الأطلسي كغطاء مؤسساتي للقيام بأفعالها الإجرامية، عندما لم تنجح باستخلاص قرار مؤسسي من المؤسسات الأممية القائمة. وأوضح بايدن ذلك الأمر بقوله قبل زيارته الأخيرة: أن أحد أهداف الزيارة أنه عندما طلب قرار بإدانة إيران على خلفية اتخاذ الأخيرة قراراً بتسريع تخضيب اليورانيوم بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، غير أنه كما عبر وجد نفسه وحيداً، وبدون هذه الشرعية المؤسساتية لن يستطيع الإقدام على أي مغامرة من المغامرات التي طالما دأبت عليها أمريكا بكل الحجج والتي في حقيقتها لمن يراقب الولايات المتحدة الأمريكية لا تتخذ إلا في زمن الركود الاقتصادي، إذ أن التسليح واقتصاد الحرب هو الاقتصاد الذي طالما انتشل أمريكا من أزماتها الداخلية ووفر الوظائف وانتشل اقتصادها من حواف الانهيار والكساد الدائم.
خلاصة القول: إن مسألة التطبيع ليست فقط متعلقة بمسألة الموقف من فلسطين أو بتعبير أدق من مسألة الحق والعدالة، بمقدار ما هي مسألة سياسية متشعبة أساسها الخيانة واستخدام السياسة ببراغماتية تبرر الوسائل مهما كانت منحطة بالغايات، ولكن الحقيقة أن الغايات النبيلة تتبنى وسائل من جنسها ولن يكون التطبيع مع دولة الكيان الغاصب سبيل لتحقيق غاية نبيلة، فضلاً عن أن قراءة سريعة للموقف، فإن الغايات المنشودة من التطبيع هي غايات دنيئة من جنس الوسيلة المتبعة.
* في ضوء المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق القوى والأحزاب والمؤتمرات القومية العربية في سياق مواجهة المشروع الصهيوني وأهدافه التصفوية، كيف تقيم أداءها ودورها سواء على الصعيد القطري أو القومي الأشمل؟
** الحقيقة أن المشكلة الرئيسية في أداء التنظميات القومية هي مسألة التركيز على البديهيات التي وإن كانت مهمة إلا أنها تشكلت في وجدان الشعب العربي غير أنه لم يبنَ عليها، فمسألة الأخوة العربية والمصلحة المشتركة من الوحدة، هي مسألة شبه محسومة في الوجدان العربي وترسخت على امتداد عقود، إن كانت الهجمة الأخيرة تسعى لهز الثقة فيها، إلا أنها مسألة محسومة، غير أن استمرار الجهات القومية على التشديد على المفاهيم الكبرى دون أخذ خطوة عملية واحدة، باعث على اليأس. فشعار الوحدة العربية والنضال من أجل تحرير الأمة العربية والقرار العربي لا يمكن أن يتم من خلال مؤتمر لمدة يومين، وأن تحميل مؤتمر مسؤولية تحرير الأمة العربية بشكل كامل وإيجاد حل للمشاكل التي تمر بها لا يعدو كونه من قبيل الإبداع اللفظي.
وباليد الأخرى، فإن مسألة الإغراق في القطري الخاص على حساب القومي العام هي السمة الأشمل التي اتسمت بها حقبة كاملة من حق النضال العربي، بمعنى تواجد قناعة ربما لدى اغلب القيادات في الأحزاب العربية أنه من الممكن إنجاز مشروع تحرر كامل لقطر عربي، دون النظر للأمة العربية والمشاريع التي تتصارع في وسطها، وقد جاء الربيع العربي ليؤكد زيف وخطأ هذا الاعتقاد، فانطلاق الربيع العربي بالطريقة التي حصلت أكد وحدة المصير العربي، بينما الانقلاب على نتائجه سواء بعسكرة الحراك في بعض دوله وإدخالها في أتون حروب داخلية، تقود نحو دمار الوطن وليس سقوط النظام أو عن طريق الثورات المضادة والدولة العميقة التي دفعت بأطراف خارجية فقط، خوفاً من مقولة أن "النجاح يغري"، فقد وصلت الرسالة واضحة أن انطلاق حراك في تونس ونجاحه فجر الحركات في العالم العربي، وكذلك تدمير دولة بسبب الحراك قد يخيف دولة أخرى. والخلاصة: أن القراءة القطرية والإغراق فيها فشل في تحقيق نتيجة، إذ أن القناعة الراسخة لدي بأنه لا يمكن أن يتحقق إنجاز شامل لأي قطر عربي بمعزل عن الأمة العربية بشكل كامل، لذلك فإن المسألة الأساسية هنا أنه يجب على جميع القوى الحية في هذه الأمة أن تعيد برمجة وهيكلة سياساتها القطرية بما يتفق مع العام القومي، والانتقال من إطار الفكر إلى إطار الفعل.. ولا يوجد عصا سحرية تحقق هذا الانتقال الذي هو بحاجة لجهد جهيد وعمل دؤوب.
* في مقابلة مع برنامج "بودكاست ديوان"، قلت بأنكم تواجهون التطبيع ليس كونه يلحق الضرر بالقضية الفلسطينية فحسب، بل يطال ويستهدف حتى الدول المطبعة ذاتها، بمعنى هو دفاع عن الذات، وأن نضال الشعب الفلسطيني يمثل رأس حربة عن الأمة كلها في مواجهة المشروع الصهيوني، كيف يمكن أن يصبح هذا الموقف الصحيح هو الموقف الشامل والمتبنى من القواعد والمؤسسات الشعبية العربية؟
** جزء كبير من هذا السؤال تتواجد إجابته فيما سبق من إجابات، ولكيلا أكرر نفسي كثيراً، المسألة الأساس أن التطبيع بصيغته الحالية يروج بحجتين إحداهما مواجهة الفزاعة الإيرانية كوسيلة لتبرير التحالف مع الكيان الغاصب من قبل الأنظمة العربية لدى شعبها العربي، غير أن حقيقة هذا الطرح يدفع بالأنظمة العربية، لفتح ساحات جديدة لانتقال الصراع بين المشاريع الإقليمية في وسطها. فعلى سبيل المثال التواجد للعناصر العسكرية للكيان الصهيوني في دول على الحدود الإيرانية بطبيعته يعني تهديداً للأمن القومي للدولة الإيرانية، ولا يتوقع أن تهين أمة ما وأن تقف هذه الأمة متفرجة دون رد. وتواجد هذه العناصر في أراض عربية جديدة يجعل الدول العربية في حد ذاتها عرضة للصدامات وتصفية الحسابات.
أما المسألة الأخرى والأكثر أهمية، تكمن في طبيعة الصراع في حد ذاته، فمسألة الاحتلال الصهيوني وتواجد الكيان لا تقف عند حدود اغتصاب أراضي فلسطين، بل تفوق ذلك لتصل لمسألة السيطرة على مقدرات الأمة بأسرها، فمسألة النفط والغاز العربي والمياه العذبة، واليوم مسألة الأمن العسكري مع بعض دول المنطقة، يظهر بشكل أكثر من كاف أن الهدف من الأحلاف المشبوهة هي تمويل الفكر الأمريكي الممثل في الكيان الصهيوني وتحقيق إرادته باستخدام عناصر القوة القومية للأمة العربية من نفط ومال، لشراء سلاح من الأمريكان ليستخدم بإرادة وإدارة الأمريكان لتحقيق مصلحة الأمريكان، مع دفع الثمن الباهظ من دماء شعبنا العربي ودمار وغيرها من الأمور التي نعرفها جيداً. وبالتالي، فإن إفشال المشروع الصهيوني في أساسه على أرض فلسطين، ليس أمراً يستفيد منه الفلسطيني بالمعنى القطري، بمقدار أن تحقيق هذا النصر، يحمي كل عربي من الماء للماء، من نجاح مشروع يراد منه استمرار التبعية والإبقاء على الاستقلالات الشكلية التي حازتها الدول العربية مطلع الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والتي فرطت فيها الأنظمة العربية، ليصل بها الحال، لأردى حالة سياسية نراها اليوم.
إذاً المسألة تتعلق بهدف آني يتعلق بحماية الساحات العربية من أن تكون ساحة لتصفية حسابات إقليمية، وهدف استراتيجي يتعلق بحماية وتحرير عناصر القوة القومية للأمة العربية من التبعية والارتهان، لذلك فإن مسألة الدفاع أو الوقوف مع شعبنا الفلسطيني ليست مسألة دعم، بل هي شراكة في النضال لأنني أدافع عن نفسي، وهو الأمر الذي برأيي يجب على القوى العربية الحية ترسيخه في المجتمع العربي إلى جانب المبادئ القومية العظمى، فالإبقاء على خطاب عاطفي وكأنه كافياً لاستنهاض سريع للأمة لن يكون قادراً على مواصلة النضال في وجه هجمة مفكر استراتيجي، ومن عناصر استدامة الصراع هي قيادة الصراع بمنطلق العقل والمصالح والأهداف الاستراتيجية، لا بمنطلق العاطفة فحسب.
* عمل العدو الصهيوني وأدواته طوال الوقت على فك عرى العلاقة بين القضية الفلسطينية وعمقها القومي، في الوقت ذاته حرصت الأنظمة الرسمية العربية على ربط القضية الفلسطينية بمساراتها السياسية، كقومي عربي مرتبط بالقضية الفلسطينية كيف تقرأ مسؤولية القيادة الرسمية الفلسطينية عن ما وصلنا له اليوم؟
** أجبت في أكثر من مكان على جزء من هذا السؤال، ولكن المسألة التي من الممكن التعرض لها هنا هو انعكاس الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني على الأمة العربية بشكل عام، وإن كان من المهم الإشارة إلى أن الانقسام لا يتحمل كامل المسؤولية، فهو أحد العناصر وليس كلها بالتأكيد، إلا أن المراقب يستطيع بكل بساطة تبيّن أن الانقسام تراجع بالقضية الفلسطينية في سلم الأولويات العربية من جهة، والإعلامية -غير البريئة بالتأكيد- من جهة أخرى، ليصعد في مواجهتها القضايا المرتبطة بشكل مباشر بالهويات الفرعية في مقابل الهوية القومية الجامعة.
إن أحد أهم أسباب صعود الهويات الفرعية هو انهيار الهوية القومية الجامعة وأحد أسباب هذا الانهيار هو الانقسام الذي أضعف القضية الفلسطينية. أما المسألة الأخرى، فاتخاذ القيادات الفلسطينية برامج مرحلية لم تراعِ الهدف الاستراتيجي، إذ أن المفاوضات العبيثة وتقديم التنازلات المجانية، والأفعال التي يصل بعضها حد الخيانة، كاعتقال وتسليم المقاومين للاحتلال الغاصب وغيرها من الأفعال في إطار التنسيق الأمني، ناهيكم عن ترويج التطبيع وبث روح الهزيمة، في حقيقته كان عاملاً في ترويج كذبة أن الفلسطينيين هم من يريدون هذا الأمر على النحو الذي يساق في الدول والساحات العربية للفرد العربي العادي، كله تحت عنوان (أهل مكة أدرى بشعابها) و (لا تكونوا ملكيين أكثر من الملك)، أي بمعنى أنه إذا ما كانت القيادة الفلسطينية هي من تقوم بهذه الأفعال، فكيف لكم أنتم أن ترفضوها؟
بالتأكيد إن الجواب الأول أن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين فحسب، بل هي قضية كل العرب لما ذكر أعلاه، غير أن الأمر الذي يحتاج لمعالجة بشكل سريع هي مسألة عودة القوى العربية والفلسطينية بشكل خاص لبديهيات الصراع، وأن الصراع صراع وجود، صراع بين وجودين لا بين حدودين، وأن هذه الأرض لا تتسع لهويتين وأن المقاومة بكل أشكالها هي السبيل الوحيد لتحقيق النصر، فمقاومة الاحتلال بأي شكل من الأشكال هي الأداة الاستراتيجية، أما المفاوضات وغيرها ما هي إلا أدوات مرحلية، والحقيقة أن أكثر من ٣٠ عاماً من المفاوضات لم تأتِ إلا بنتائج عكسية.
* من خلال اطّلاعكم واضطلاعكم بدور مشهود على صعيد القضية الفلسطينية وارتباطكم المصيري بها، هل لك أن تطلعنا عن العلاقة التي تجمعكم بالقوى الفلسطينية الرافضة لنهج التسوية والاستسلام ومستوى التنسيق معها؟ وهل تتطلعون لدور مستقبلي أفضل منها؟
** الحقيقة أن العلاقة مع القوى الرافضة لنهج التسوية هي علاقة انسجام وتكامل ونتطلع لأن يكون لها دور رئيسي في هزيمة الفكر الذي قاد إلى الهزيمة، بأن تخلق مشروعا بديلا بعيداً عن المشاريع الإقليمية، يقوم على أساس المصلحة العربية، تجتمع عليه أكبر قوى عربية لها تمثيل شعبي في سبيل تحقيق الكتلة التاريخية القادرة على التغيير.
* هل من كلمة توجهها للشعب الفلسطيني؟
الكلمة الأخيرة التي يمكن أن أوجهها لشعب الشهداء ثقوا تماماً أن شعبكم العربي هو حارس كل الأشياء الجميلة، وأنه لا يمكن أن يخون، ولا تسمحوا لعناوين الخيانة أن تبث روح الفرقة وتقنعكم بأن شعبكم العربي تخلى عنكم.. المجد كل المجد لكم.