نقلَ جيشُ الاحتلالِ الإسرائيليّ عدوانَهُ إلى الضفّة الغربيّة، بعد يومين فقط من عدوانه على قطاع غزة؛ فهدم منازلَ عدّةً في بلدة العيسويّة وسطَ القدس المحتلّة، إضافةً لمبانٍ ومنشآتٍ عدّةٍ في بلدة سلوان، ونكّل بالأهالي وممتلكاتهم؛ تمهيدًا لاقتحام عددٍ من مقرّات ومكاتب منظّمات حقوق الإنسان ومؤسّسات المجتمع المدني، لتفتح هذهِ العمليّة البابَ واسعًا أمامَ تصعيد المواجهة في الضفّة الغربيّة.
وأبرزُ هذهِ المنظّماتِ والمؤسّساتِ التي تمَّ اقتحام مقرّاتها ومصادرة أرشيفها ومقتنياتها هي "مؤسّسة الضمير"، منظّمة القانون "الحقّ"، مركز بيسان، اتّحاد لجان المرأة، مؤسّسة لجان العمل الصحيّ، اتّحاد لجان العمل الزراعي، الحركة العالميّة للدفاع عن الأطفال.. وغيرها!
تشتركُ هذهِ المنظّمات والمؤسّسات بعددٍ من المهمّات والأهداف يأتي في مقدمّها توطيد مبدأ سيادة القانون، وتعزيز وصون حقوق الإنسان، ورصد وتوثيق الانتهاكات العدوانيّة التي تستهدف تلك الحقوق الفردية والجماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إضافة إلى عملها على تقديم مرتكبي جرائم الحرب أمام القضاء الفلسطيني والدولي، حيث شاركت هذه المؤسسات بإعداد وتوثيق ملفّيْن عن جرائم الاحتلال إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ أحدهم يتعلق بالأسرى في سجون الاحتلال والآخر بالاستيطان ومصادرة الأراضي.
الجدير بالذكر؛ أن هذه المنظمات والمؤسسات تتمتع بصفة استشارية لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، وعضوية منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة والتربية "اليونسكو"، وعضوية منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف"، وعضوية الائتلاف "الأورو متوسطي" لحقوق الإنسان، وعضوية المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب.
لماذا هذا الاستهداف الآن؟!
وفقاً لبؤس فلسفة حزب "البيت اليهودي" بزعامة نفتالي بينت: "يتوجب على اليمين القومي الديني الخروج من حالة الدفاع عن النفس، والكف عن التستر على مشروعه الاستيطاني، وأن يعلن إيمانه العميق بالقيم التوراتية، وتفوّق إسرائيل العسكري"، وغيرها من قيم تستند إلى ضرورة التحلل من الضوابط الأخلاقية والليبرالية التي تضع قيوداَ على لغة القوة، وتأخذ مصالح الآخرين في الاعتبار، وتقيم وزناً لمنظمات حقوق الإنسان، وتسعى لأن تكون مقبولة دولياً؛ فجوهر هذه المفاهيم هو تبني سياسة تقوم على اعتبار القوة والافتتان بالذات القومية – الدينية؛ "قيم ثابتة"، وأن قيم الليبرالية الكونية والإنسانية والأخلاق ليست سوى كوابح تعوّق قدرة المشروع العنصري القومي – الديني على تحقيق ذاته الموعودة، وبالتالي ينبغي التحرر منها، ومما تبقى من قيود أخلاقية على توجهه السياسي.. وإذا كان "التزلّف والتدليس" كما يقول الفيلسوف "كانط" : "هما الضريبة الضرورية التي تضطر الرذيلة إلى دفعها كي تبدو بمظهر الفضيلة"، فإن ما يعلنه حزب "البيت اليهودي" بزعامة "بينت وزميلته شاكيد"، هو لا ضرورة بعد الآن للتزلف والتدليس للظهور بمظهر يرضي منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، وبالتالي لا حاجة ولا ضرورة لوضع أي مساحيق على الوجه الحقيقي للسياسة الإسرائيلية..!
لقد أقدم ما سُميَّ "باليسار الإسرائيلي" على الانتحار السياسي مباشرة بعد فشل قمة كامب ديفيد سنة 2000، ففقد بذلك مشروعه، وبدأ بالتلعثم، وبذلك وجد اليمين القومي الديني الطريق أمامه معبّداً؛ فلم يجد ما يعرقل مشروعه داخلياً، وتلعثم "اليسار الإسرائيلي" لا يوازيه سوى تلعثم السلطة الفلسطينية الرسمية المتمسكة باتفاق أوسلو و "حل الدولتين"!
يشكّل اليمين القومي الديني بزعامة "بينت وقبله نتنياهو" توليفة تعمل حتى أقصى نقطة على تعميق الشمولية الإثنية القومية بعد شحنها دينياً، وعلى إعادة إنتاج "القبيلة اليهودية"؛ فضلاً عن النيوليبرالية الاقتصادية المرافقة لإطلاق يد السوق، وبالتالي فصله عن المجتمع.. والحقيقة أنه كلما ازداد السوق توحشاً؛ ازدادت الفجوات الاقتصادية داخل "المجتمع الإسرائيلي" وتنامت الحاجة للتعويض عن هذا الانقسام عن طريق رفع منسوب الخطاب القومي الديني والتحريض على الفلسطينيين وقمعهم بالقوة الغاشمة.. باعتبار ذلك الطريق هو الأكثر ملاءمة للمحافظة على لُحمة "الشعب اليهود".
العنف المُؤسس لاستمرار النكبة
في هذا السياق، يصبح صعود اليمين القومي الديني في "إسرائيل"؛ منسجماً مع روح المنطقة وروح المرحلة؛ فهو يتغذى ويستفيد من العنف الدموي في عدد من البلدان العربية، ويزعم التأسيس لنفسه نظرياً في مواجهة التطرف المذهبي والديني في المنطقة والإقليم.. كما أن ازدياد وتيرة العمليات الإرهابية الأخيرة في أوربا ساعد "إسرائيل" على عرض صراعها مع الشعب الفلسطيني؛ بوصفه جزءاً من صراع الغرب مع هذا "التوحش الداعشي"، وكأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس بين شعب تحت الاحتلال وحركة عنصرية كولونيالية محتلة، وإنما بوصفه "صراع حضارات"!
في ظل موازين قوى مادية ومعنوية من هذا القبيل فإن اليمين "الإسرائيلي"؛ يسعى جاهداً لتهميش القضية الفلسطينية وشطبها باعتبارها ليست القضية الأساسية في المنطقة، ولا تشكّل جوهر الصراع. وإذا كانت العقيدة الأمنية والسياسية لدى الفلسطينيين وفي العالم تقول: إن الطريق إلى السلام يمر عبر إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني، فإن "النيوصهيونية"؛ تنظّر لمقولة مضادة تقلب منطق الأمور لتقول: "إن تصفية القضية الفلسطينية يقود إلى حلّها"، أي أن وقف المقاومة بكل أشكالها، وفتح أبواب التطبيع مع البلدان العربية، ينبغي أن يسبقا حل القضية الفلسطينية، لا بل هما بوابة هذا الحل. لكن من الواضح أن الحل الذي يتوق إليه اليمين القومي – الديني الصهيوني هو حل يتمثل بقبول الأمر الواقع، وفي تحسين الأوضاع الاقتصادية لهذا التجمع أو ذاك من الفلسطينيين ليس أكثر، وإزاء هذا المنطق "النيوصهيوني"، فإن المشكلة التي ينبغي حلّها هي المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، وليس الاحتلال نفسه.
وجودياً وسياسياً؛ يسعى اليمين الصهيوني الجديد للتصعيد مع الشعب الفلسطيني بشكل مستمر، لكن من دون الوصول إلى لحظة الانفجار الكبيرة في هذه المرحلة، مع أنه يؤسس لها مادياً وسياسياً ومعنوياً، ويهدف هذا التصعيد إلى استعادة اللحظة المؤسسة في السياسة التي تفرز الصديق من العدو، ولا تخضع إلا لاعتبارات القوة السافرة.. "فبينيت ولابيد " وقبلهم "نتنياهو"؛ يحاولون استعادة اللحظة المؤسسة لنكبة عام 1948 من أجل إعادة ترسيم العلاقة مع الشعب الفلسطيني، أي إعادة إنتاجها من جديد؛ بوصفها لحظة فارقة تعيد ترسيم هذه العلاقة بين المشروع الصهيوني وأصحاب الأرض الأصليين.
إذا كان "التعليم والأمن والقضاء" كلها ستسير وفق المنظور "النيوصهيوني" في المستقبل المنظور، فإن الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، سيكون أول ضحايا هذا الواقع المرير، وأكثرهم وضوحاً، بينما الضحايا المحتملة الأخرى هي الأصوات اليهودية المعارضة – على قلّتها – داخل "إسرائيل"، حيث صودق مؤخراً على قانونين يدلّان على أن "النظام النيوصهيوني" القائم يعتبر الأصوات اليهودية المخالفة؛ أهدافاً مستقبلية معرّضة للقمع والعزلة:
- القانون الأول: تجريم أي دعم لحركة مقاطعة إسرائيل الB D S" ".
- القانون الثاني: ملاحقة نشطاء المنظمات والمؤسسات التي تعنى بحقوق الإنسان والحقوق المدنية.
وقد ترافق ذلك بصورة رسمية، مع حملات حكومية ضد المنظمات غير الحكومية؛ قادها سابقاً "نتنياهو" ويقودها اليوم "بينت ولابيد"؛ غير أن الاستياء العالمي، وغضب المجتمع الدولي الذين عبّرت عنهما بعض البلدان الأوروبية، والعديد من منظمات وحركات التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني، ربما لم يغيّر كثيراً في مسار التحول السياسي داخل "إسرائيل". وفي حال حصول أي تغيّر فهو ازدياد عنصرية النيوصهيونية، وهي اليوم جاهزة للسيطرة على المؤسسات التي لا تزال بيد الآخر "كالجامعات ومراكز الأبحاث، والمؤسسات الرياضية والاجتماعية والثقافية" وغيرها.
تشكّل "إسرائيل النيوصهيونية"؛ تهديداً للمنطقة والإقليم والعالم، ويمكن للمرء أن يتوقع المزيد من انتهاج سياسة العنف والإرهاب اتجاه قطاع غزة والقدس والضفة الغربية وأراضي عام 1948 المحتلة.. إن النيوصهيونية لا تحوّل "إسرائيل" إلى معتد كولونيالي فحسب، بل تجعلها شريكاً مثالياً للأنظمة الشمولية المستبدة في البلاد العربية، تلك الأنظمة التي تمتلك "كإسرائيل"؛ سجلاً قاتماً لانتهاكات حقوق الإنسان والحقوق المدنية.. وهكذا، فإن الصراع ضد الكيان النيوصهيوني؛ يجب أن يكون وثيقاً بالنضال من أجل حقوق الإنسان والحقوق المدنية في المنطقة والإقليم.