Menu

بعد 17 عامًا على "الانسحاب الإسرائيلي" من قطاع غزة: دلالاتٌ وأبعاد

م. تيسير محيسن

نشر هذا المقال في العدد 42 من مجلة الهدف الإلكترونية

رغمَ مرور 17 عامًا على "إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي" وتفكيك مستوطناته من قطاع غزة، أو ما يعرف بالانسحاب؛ ما زال الناسُ يختلفون في مواقفهم وتقييمهم على جانبي المتراس. بينما يعيد الإسرائيليّون قراءة الحدث مرّةً تلو الأخرى؛ يطرحون الأسئلة، يستخلصون العبر، نواصل نحن تسليمنا بفكرة أنّ غزّة تحرّرت وما عدا ذلك تفاصيل؛ فلا تطرح الأسئلة الصعبة حولَ وضع غزّة ومكانتها الجغرافيّة والوطنيّة، ولا حولَ مستقبلها. بالطبع، ما كان لعاقل أن يرفض الانسحاب من غزة ويطالب ببقاء المستوطنات، رغم ما انطوت عليه الخطوة من "مخاطر" في إطار خطة شارون 2005. ولكن، كان يمكن أن يكون الانسحاب فرصةً لولا: الاقتتال الداخلي، ومن ثمَّ الانقسام، ولولا ما نجم من التباسٍ حول وضع غزة والسيطرة الفعلية عليها، ومسؤوليّة الاحتلال. قد نكون أسهمنا، بالاستعجال والانفعال، في إعفائه من مسؤولياته، ومن ثَمَّ منع البناء على الخطوة والاستفادة منها على مسارين: التعجيل بالتخلّص من الاحتلال نهائيًّا من كلّ الأراضي المحتلّة، والتحسين المضطرّد لحياة سكان غزة.  

هذهِ المقالةُ تحاجج بأنّ الانسحاب بحد ذاته كان محمودًا ومرغوبًا، وجاء رغم أنف قادة إسرائيل، لكنّ الطريقة التي تمَّ بها، والنتائج التي أسفر عنها لاحقًا، تحتاج منا إلى جهدٍ بحثيٍّ معمّقٍ وتحليلٍ موضوعيٍّ بعيدًا عن المزايدات والاتّهامات أو الانتقاص من الإنجاز الوطنيّ أو التهويل فيه.

في الواقع، بينما يرى اليمين الصهيونيّ أنّه قد وقع خطأ مدمر بالخروج من غزة، وأنّه يجب عدم تكرار الحالة، بل ويدعو بعض أطرافه للعودة إلى احتلال غزّة بحجّة محاربة "الإرهاب" وإسقاط حكم "حماس"، لكن غالبية الإسرائيليين يرون فيما حدث تاليًا دليلًا على صحة قرار الانسحاب. سأحاول الإجابة على سؤالين: هل غزة ما زالت منطقة محتلّة؟ والثاني ماذا يقول تحليل العيوب والمزايا الاستراتيجيّة للانسحاب بالنسبة للطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني؟

مسؤوليّة الاحتلال:

تزعم "إسرائيل" أنّ مصطلح "الأراضي المحتلّة" لم يعد ينطبق على قطاع غزّة بعد فكّ الارتباط؛ علمًا أنّ الأمم المتّحدة تؤكّد أنّ غزّة محتلّة، كما جاء على لسان أمينها العام 2009. بمجرّد خروجها أعفت "إسرائيل" نفسها من المسؤوليّة بموجب القانون الدوليّ واتفاقيّة جنيف الرابعة، وأعلنت غزّة كيانًا معاديًا. في تبرير موقفها تزعم أنّ الاحتلال يعني "السيطرة الفعليّة" (وجود قوّة احتلالٍ مباشرةٍ وممارسة الحكم في تقديم الخدمات وضمان الأمن)، وهي، كما تدعي، لم تعد تمارس هذه السيطرة.

في الواقع، لأسبابٍ عديدة، أدركت إسرائيل أنّ احتلالها للقطاع لا يمكن أن يستمرّ إلى أجلٍ غير مسمّى، ذلك لأنّ الوضع هناك شكّل تحديًا أمنيًّا مستمرًّا لجيشها المحتلّ، وخطرًا دائمًا على مستوطنيها وتشويهًا لصورتها في العالم.

تنطلقُ هذه المقالة من قناعةٍ مفادُها أنّ احتلال إسرائيل للقطاع لم ينته، وأنّها ما زالت تتحكّم وتسيطر في البحر وفي الجو وعلى الحدود البرية، وأنّ هذه السيطرة وإن كانت غيرَ كاملةٍ إلا أنّها معادية، وتحول دون تطوّرٍ مستقلٍّ للقطاع، وتكرس، غصبًا، انفصاله عن سياقه الوطني والجغرافي والقانوني.  ومن غير الصحيح أنّها تقدّم بعض خدمات البنية التحتيّة (الكهرباء والوقود والاتصالات، إمدادات المياه وإزالة مياه الصرف الصحي) بصفةٍ تعاقديّةٍ حرّةٍ بين كيانين؛ إنّما تفعل ذلك بوصفها دولة احتلال، وما استمرارها في جباية الضرائب والاحتفاظ بسجل السكان ومراقبته وإصدار بطاقات الهوية، إلا دليلًا على ذلك. أما في تحليل المزايا والعيوب الاستراتيجية للانسحاب، فلعلنا نقول إن مكاسب الطرف الإسرائيلي-كما أثبتت الأيام- تفوق خسائرها، وإن كنا لا نعتقد أن هذه المكاسب لا تعني خسارة خالصة للفلسطينيين، فرب ضارة نافعة!

التخلّص من عبء الاحتلال أمنيًّا وسياسيًّا:

بُعيدَ سيطرتها، نجحت "حماس" في فرض القانون والنظام في غزّة بعد فترةٍ من الفوضى والفلتان، واستطاعت أن تلزم الكلّ الوطنيّ بقواعد الاشتباك كما تراها هي، كما طوّرت لائحة مطالب خاصة بقطاع غزة أقل من القضايا الوطنية الكبرى؛ لكنها تكتسب أهمية إنسانية للسكان، هذا وقد أدى الانسحاب إلى انخفاض في الضرر اللاحق بالأمن الإسرائيلي في مستوطنات غزة، وبسببها، وهي التي كانت تمتص وتوجه إليها معظم هجمات المقاومة، وبقي التهديد الأمني مرتبطا بأزمان الطوارئ وأثناء شن الحروب. سياسيا، تمكنت إسرائيل من إبعاد وفصل 2 مليون فلسطيني والحيلولة دون انخراطهم واندماجهم المستقبلي ما يهدد الطبيعة اليهودية لدولة الاحتلال، وأيضا حصلت على دعم وتأييد إقليمي ودولي بعد أن تضررت صورتها. أخيرا، مقابل خطوتها الملغومة، حصلت على وعد بوش الإبن (بلفور الثاني 2004).

تكريس اتجاهات التجزئة

مع الانسحاب، وفي نتيجته، تحول قطاع غزة إلى كيان منفصل، معزول ومحاصر "إقليم فريد من نوعه" أو كيان غير معرف وغير معترف به؛ أعلنته إسرائيل كيانا معاديا لتبرر سياستها وممارساتها العدوانية ضده، وتتحكم في صيرورة تطوره عبر "الفصل مع التحكم عن كثب". وبهذا تحققت رغبة شارون في تعديل الخطأ الاستراتيجي، حسب زعمه، الذي ارتكبته إسرائيل يوم أن وحدت الضفة الغربية وقطاع غزة وعمدت ذلك في اتفاقية أوسلو بإطلاق دينامية التفكيك والتجزأة. جاء الانقسام ليعزز هذا الاتجاه ويضفي عليه طابعا فلسطينيا! بالانسحاب، تحققت رغبة إسرائيل في التخلص من عقدة غزة وفي ذات الوقت تدمير ظروف وشروط حل الدولتين وحل الدولة الواحدة. شكل فصل غزة ضرورة إسرائيلية أمنية وسياسية واستراتيجية! وواقعا مكنها من تحقيق مزيد من المكاسب الناجمة عن ردود الفعل والتداعيات: إضعاف حماس في الضفة، إخراس فتح في غزة، إضعاف قدرة عباس على التفاوض، ضبط إيقاع المقاومة في غزة عبر استخدام تقنية "لائحة المطالب" وأنسنة حالة القطاع من ناحية، ونزع الصفة السياسة عنه وشيطنته من ناحية ثانية.

مفاقمة وضع غزة الإنساني

الانسحاب زاد من قدرة إسرائيل على التحكم عن بعد في تفاصيل حياة القطاع أكثر من أي وقت مضى (بما في ذلك زمن الاحتلال). لم تتخلص إسرائيل من غزة وعقدتها فحسب؛ لكنها وبأقل الكلفة، تواصل التحكم في أدق التفاصيل، كل شاردة وواردة كما يقولون، الخروج والدخول عن طريق البحر والجو والبر، وباتت تتخذ من إدارة هذه العلاقة وسيلة للعقاب الجماعي وضبط إيقاع الحركة النضالية ابتزازا وتهديدا ومقايضة! الأمر الذي فاقم في تردي الأوضاع الإنسانية.

أفاد تقرير صادر عن الأونكتاد 2020، أن التكلفة الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة خلال العقد الماضي تقدر بنحو 16.7 مليار دولار. كما أكد تقرير 2022 على أن 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الدولية؛ تواصل إسرائيل تقييد دخول المواد التي تعتبرها "ذات الاستخدام المزدوج"؛ تحظر بناء ميناء بحري ولا تسمح بإعادة بناء مطار دولي؛ تتحكم في الفضاء الكهرومغناطيسي في القطاع ولا تخصص ترددات من الجيل الثالث والرابع لغزة، تفرض "منطقة عازلة "برا وبحرا على منطقة تعد الكثافة السكانية فيها الأعلى عالميا: 5.154 نسمة لكل كيلومتر مربع وتتفاقم فيه أزمات الطاقة والغذاء والدواء يوما بعد يوم.

خسائر إسرائيل: هل تعني أوتوماتيكيا مكاسب لنا؟

بالتأكيد تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة، جراء انسحابها، بسبب طريقة الانسحاب، والمخاطر التي نشأت لاحقا، والتداعيات الاجتماعية الناشئة عن إخلاء المستوطنين: سيطرة حماس على قطاع غزة وما يشكله هذا الأمر من تهديدات أمنية، واستغلال الفرصة في بناء قوة متنامية لفصائل المقاومة وخصوصا في مجالي الأنفاق القتالية والصورايخ. ازدادت أهمية الصواريخ (كما ونوعا) كأداة لمضايقة الجبهة الداخلية الإسرائيلية. صحيح أن تطوير الصواريخ بدأ قبل 2005، لكن الانسحاب أثر على إطلاق النار من عدة جوانب: زيادة المخزون من الصواريخ، تطوير مديات الإطلاق وتحسين الطاقة التفجيرية والوصول إلى مناطق في الشمال، وأيضا تمكنت حماس من استخدام قوتها وأصولها الاستراتيجية أداة للحوار مع إسرائيل بالنار أو المقاومة التفاوضية بما يحافظ على دوام حكمها، وفي أيضا انتزاع بعض المطالب الخاصة بتحسين ظروف حياة السكان، اليوم باتت" المقاومة" تطرح مطالب وطنية تتجاوز لائحة المطالب الخاصة بالوضع الإنساني في قطاع غزة وهو ما يربك إسرائيل ويحرجها.    

في الخلاصة،،،

يكشف تحليل المزايا والعيوب الإستراتيجية الناشئة عن أن إسرائيل حققت انجازا كبيرا بانسحابها من قطاع غزة، وخاصة ما يتعلق يتعميق اتجاهات التشتيت والتجزأة في الأراضي الفلسطينية المحتلة والفصل بين الديناميات والمصائر.  ومع ذلك، لا جدال في أن الواقع المتشكل في غزة بات يخلق تحديات وتهديدات أمنية جدية لإسرائيل، وغالب الظن أننا لو تمكنا من تجاوز الانقسام ووأده، فلربما نتمكن من عكس الاتجاهات التدميرية التي تعززها إسرائيل في أوساطنا.

واليوم، وفي ضوء قراءة الأبعاد واستقراء الدلائل، لا بد من القول أن التسوية التفاوضة باءت بفشل كبير، وأيضا المقاومة التفاوضية أو الحوار بالنار من أجل مطالب إنسانية مجردة لم تعد تشكل تحديا جديا للبنى الاستعمارية والعنصرية المستجدة في سلوك دولة الاحتلال، وأن ميل هذه الدولة المارقة للتعامل مباشرة مع الجمهور الفلسطيني، على أرض فلسطين التاريخية، باستخدام استراتيجية العصا والجذرة، وبتجاوز الكيانات السياسية المعبرة عنهم؛ يقتضي منا العودة للناس ورد الأمانة ووقف نزع السياسة عنهم، كي نخرج من المأزق ونتحدى الشرط الاستعماري بحق، وذلك بطرح أسئلة جادة وجديدة تساعد على فهم وتفكيك البنى الاستعمارية؛ والنهوض بفعل سياسي يقوم على انتفاضة شعبية شاملة تقطع الطريق على البدائل، ويرفض تعميق الخصوصيات، وتعميم النماذج دون مراعاة للواقع، وبالتكيف مع هذه البنى لا تحديها.

إن ضمان التكامل، وقطع الطريق على الفصل وسياسة التقطيع، لا يكون بإعطاء التعليمات، ولا يكون بالمقايضة بين الحقوق والأولويات، ولا بتسجيل المواقف أو التوريط؛ وإنما بالوحدة السياسية، وبإصلاح الهياكل وتفعيلها، وبالاستثمار الايجابي في الأصول الاستراتيجية لشعبنا واستخدامها بعقلانية ورشاد.

وبالطبع، يبقى تعزيز الصمود وتوسيع مساحة الاشتباك ضد الاحتلال ومستوطنيه، والمحافظة ما أمكن على استمرار عمل منظومات الخدمة والمكتسبات الوطنية العامة، في القلب من أي استراتيجية نضالية وسياسية يجمع عليها الفلسطينيون؛ بغض النظر عن تباين أطيافهم السياسية والأيديولوجية وتعدد رؤاهم ومواقفهم.