Menu

الكيانُ الصهيونيّ: هل هو عالقٌ بين المستطاع والضروري؟

اسحق أبو الوليد

نشر هذا المقال في العدد 43 من مجلة الهدف الإلكترونية

"إنّ عمليّةَ السّلام وقعت ضحيّةً لعدم قدرة الطرفين على تقليص الفجوة فيما بين ما هو قابلٌ للتطبيق سياسيًّا وما هو مطلوبٌ للتسوية، وفي علقتهم هذه بين المستطاع والضروري؛ تعلّم الإسرائيليّون والفلسطينيّون ببساطة العيش من دون حلّ". من مقال "أوهام عمليّة السّلام"، نشر في 9 آب 2010 للأكاديميّ الصهيونيّ ووزير الخارجيّة العمالي السابق شلومو بن عامي.

 هذا السياسيُّ الصهيونيُّ ينتمي إلى الصهيونيّة الواقعيّة العلمانيّة، وللتيّار الذي يؤمن بأنّ "السّلام" الحقيقيّ هو السّلامُ الذي يُؤمن مستقبل "إسرائيل"، من خلال إنهاء حالة الحرب مع الدول العربيّة ودمجها بالكامل مع محيطها العربي، كي يتمَّ سحب البساط العربي من تحت المسألة الفلسطينيّة والتعاطي معها شأنًا إسرائيليًّا وليس عربيًّا. إنّ ما يقلق هذا الصهيونيّ المغربي، كما كلّ المُستعمِرين الصهاينة هو "مستقبل" ووجود كيانهم على أرض فلسطين.

فمنذُ أن أقام النظام الرأسماليّ "دولةً لليهود" على أرض فلسطين؛ لم يهدأ الجدل ولم تتوقّف الأبحاثُ التي تتناول مستقبل هذه الدولة، وقد أجمع أغلب الباحثين المعادين للصهيونيّة، بمن فيهم باحثين يهود، على أنّ "إسرائيل" هي أداةٌ إمبرياليّةٌ أقيمت في فلسطين، من قبل مراكز القرار الرأسماليّة لخدمة أهدافهم ومخطّطاتهم الاستراتيجيّة، ولا تمتلكُ الشروط الوجوديّة الاجتماعيّة والتاريخيّة الضروريّة لاستمرارها "دولةً ووطنًا لليهود" في فلسطين؛ لأنّ فلسطين هي منذ آلاف السنين الوطن التاريخي للفلسطينيين. هنالك أيضًا إدراك لهذه الحقيقة في المعسكر الصهيوني، بكل تياراته؛ فرغم بعض التعارضات في هذا المعسكر، يسود فيه التكامل والانسجام الأيديولوجي والسياسي، وتلتزم الحكومات المختلفة في الاستمرار بنفس النهج المتبع، لمعالجة ما يسمونه قضايا "النزاع" مع الفلسطينيين، على قاعدة أن لا تمس أي مبادرة أو أية خطه بمستقبل "الدولة" ووجودها. من هنا نجد أن كافة حكومات الكيان الصهيوني منذ النكبة إلى يومنا هذا تسير على نفس الخطى وتطبق ذات المبدأ التفاوضي الذي لخصه بتكثيف وزير الحرب السابق، موشي ديان، عندما قال: "مفاوضات السلام الوحيدة هي تلك التي نستوطن بها الأرض ونبني ونستوطن ومن فتره لأخرى نلجأ للحرب"، وقد طبقت الحكومات الصهيونية كلها دون استثناء هذا المبدأ بحزم، وفرضته في اتفاقيات أوسلو الموقعة مع "منظمة التحرير" التي ثبتت شرعية "إسرائيل"؛ الاستيطان الأول، على أكثر من 78%، من فلسطين التاريخية، و"جعلت الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية الاحتلال الأكثر "راحة" لمحتل في تاريخ البشرية" كما يقول بن عامي. وكونها الاتفاقات الوحيدة الرسمية مع طرف فلسطيني شرعي، يتم التعامل معها صهيونيا كاتفاقيات وحيدة ونهائية مع الفلسطينيين، بعد نيل الاعتراف بشرعية "إسرائيل" على حساب الشرعية التاريخية لفلسطينية الأرض التي أقيمت عليها هذه الدولة الفاشية الإرهابية. ويتضح من سلوك وتصريحات المسؤولين الصهاينة أنه بعد تحقيقهم لهذا الانجاز "التاريخي"؛ لم يعد هنالك ضرورة لأي نوع من المباحثات أو الحوار مع "الفلسطينيين"، وما يمكن أن يحدث في المستقبل هو تفاهمات جديده تفرضها أو تتطلبها التطورات، سواء داخل الكيان أو في المنطقة، في إطار الاتفاق الأم (أوسلو) وما على الفريق الأوسلوي الفلسطيني إلا الانصياع لهذه الاستراتيجية؛ إذا أراد الحفاظ على مصالحه الطبقية وامتيازاته وارتباطاته الأمنية، لضمان استمراره في سلطة الحكم الذاتي، التابعة والملحقة بالكيان الصهيوني والقائمة بإذن منه أصلًا. إن الاستراتيجية التي حدد معالمها موشي ديان، تنفي من الأساس إمكانية التوصل لأي تسوية تتضمن تخلي "إسرائيل"  الطوعي عن أي مساحة من أراضي احتلتها عن طريق الحرب، بهدف التوسع من أجل "البناء وتوطين القادمين الجدد"، وأنها تؤكد عدم استعداد "إسرائيل"، لتطبيق مبدأ "الأرض مقابل السلام" الشعار الذي عقد على أساسه "مؤتمر مدريد للسلام" عام 1992، لأن "إسرائيل"، ببساطه لا تريد السلام الحقيقي ولا تبحث عنه، لأنه يتعارض مع طبيعتها ويجردها من خصائصها العدوانية التوسعية، وبالأساس يتعارض مع الاستراتيجية الإمبريالية وأهدافها الرئيسية في الوطن العربي، هكذا لا يبدو أن الطرف "الإسرائيلي"؛ عالق  بين  المستطاع والضروري لأنه استطاعت، بسبب الاختلال الهائل في موازين القوى لصالحه ولصالح المعسكر الذي ينتمي إليه، أن "يعلق" الأطراف العربية، وخاصة الفلسطيني في شباك التسوية والاتفاقيات التي توصلت إليها معه بما يلبي حاجات كيانه، و"حرر" نفسه من "المقاطعة" الرسمية العربية، مما فتح الطريق لفرض "إسرائيل" كدولة مركزية شريكة للإمبريالية في المنطقة، في ظروف أزمة استثنائية تعيشها الإمبريالية، وخاصة الولايات المتحدة. في المقابل أدى الانفتاح العربي الرجعي على الكيان الصهيوني وإقامة علاقات كامله معه إلى تحرير الوعي الشعبي العرب من الخداع والكذب والتزييف، وفتح الطريق لعملية فرز عربية على المستويين الرسمي والشعبي، مما أعطى دفعة قوية لتوسيع وتصليب محور المقاومة.

إن التطورات التي تشهدها المنطقة وفي مقدمتها تماسك محور المقاومة وتصاعد النضال المسلح في الضفة المحتلة الذي يرتكز بلا شك على صمود قطاع غزه، ومنع المقاومة في لبنان "لإسرائيل" من السطو على ثرواتها البحرية - رغم موقفنا الرافض لاتفاقية الترسيم من حيث المبدأ، أي تقصير يدها "الطولى" كما كانت تدعي؛ تؤكد أن "إسرائيل"، رغم ما حققته من "إنجازات وانتصارات" ديبلوماسية تطبيعيه في العالمين العربي والإسلامي "تعيش هي أيضًا، في أزمة خطيرة"؛ كما صرح الجنرال المتقاعد والحائز مرتين على جائزة أمن "إسرائيل" يوسي لانغوتستيكي، والذي أكد في تصريح له "أن لإسرائيل توجد مصلحه عليا في ألا تندلع حرب، لأنها تعيش في أزمة خطيرة ووضعها سيء للغاية".

إن "إسرائيل" تحاول أكثر من أية فترة سابقة أن تظهر عكس ما هي عليه باستعمالها لمزيد من البطش والإرهاب والقتل والتدمير ضد شعوبنا، ولكن الواقع عنيد وأقوى ولم تعد قادره على إخفاء مظاهر ضعفها وترهلها.