ما أظهره شعبنا من إرادة وتصميم على استعادة فعله المسلح في مواجهة الاحتلال في كل الساحات، وإن عكس حقيقة القدرة الكامنة لهذا الشعب، فإن التفاصيل المحيطة به تظهر طبيعة التعطيل الذي تتعرض له هذه القدرة؛ فعلى الأرض لم تحظَ المجموعات المسلحة أو الجماهير الحاضنة لها بدعم لصمودها، ولو حتى في الجوانب المعنوية والاقتصادية والمجتمعية؛ ترك ظهر المقاتل وأهله وأبناء مدينته مكشوفًا أمام العدو، الذي واصل عدوانه واقتحاماته وجرائمه أملًا في تآكل وانهيار هذه المجموعات.
في غزة المقاتلة والمحاصرة ما زال الفقر والحرمان والتهميش يفعل فعله بالناس؛ يقتلهم: حرقًا وفقرًا ومرضًا، ولا يدع امكانية لحياة كريمة؛ فيما يبقى باب الموت البطولي مشرعًا أمام من رفضوا الاستسلام والركوع للعدو وأدوات القتل والحصار، ويَكّنُس الحديث عن ضرورة إنقاذ هذا الصمود ببرنامج اجتماعي ينتشل شعب محاصر ومعذب، أو بتحول جذري في إدارة وسياسة هذه البقعة التي يجري خنقها يوميًا، وإهمال سياسي فلسطيني جماعي لما يحتاجه الناس بالفعل، أمل حقيقي في كسر الحصار، وأمال أكبر في استثمار صمودهم، ضمن برنامج شامل لهزيمة الاحتلال.
نعم هناك مشروع للمقاومة لا يقتصر على غزة أو فلسطين وحدها، ويحضر في ساحات المنطقة/ ولكن في فلسطين ما يزال مسار ترميم مشروع التحرر والتحرير الوطني الفلسطيني؛ تسده متاريس عالية.
في أحد وجوه هذه المعادلة، جاءت مشاهد أجساد المعتقلين السياسيين الخارجين من سجون "فلسطينية"، كشاهد حي على حجم العوار الذي نعيشه؛ صحيح أن مسار الانقسام وما صاحبه قد اخترق منذ أمد بعيد كل الحدود الوطنية والاجتماعية الفلسطينية، ولكننا الآن أمام مرحلة جديدة لا من حيث حجم التعذيب والملاحقة وعدد المعتقلين وفترات اعتقالهم، ولكن بالأساس دافع الاعتقال؛ فمن المؤكد أن الشارع الفلسطيني يعيش حالة مد وطني وحدوي في مواجهة الاحتلال، وهو أبعد ما يكون عن مزاج وتجاذبات الانقسام، وأقرب ما يكون لبيانات مقاتليه المكافحين في نابلس وجنين وغيرها.
شعب يُمتن وحدته الميدانية ويُصعد كفاحه في وجه عدوه، فيقابل باغتيال لوحدته ونضاله، عبر أدوات الملاحقة الأمنية والاعتقال السياسي، والتنكيل والإرهاب الأمني؛ شعب يقدم الشهداء؛ فيعتقل إخوانهم ورفاق دربهم؛ ربما حين وضع العدو بنوده واشتراطاته بشأن التنسيق الأمني، ضمن اتفاقية أوسلو، لم يكن يحلم بمثل هذا قط، ولكنه اليوم واقع محقق.
إن إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين أو بعض منهم؛ فرصة لنا جميعًا؛ لنستمع لشهاداتهم وننظر في أجسادهم ونقرر أي مستقبل نريد لوطننا، كما أنها فرصة؛ ليستدرك الجميع ويتحسس موضع قدمه جيدًا؛ فالمرحلة التي نعيشها لا تحتمل تباطؤ إضافي في التصدي لهذا العبث؛ منع الاعتقال السياسي أو استمراره هو مسؤولية النظام السياسي القائم برمته: من أصغر عنصر فيه حتى أكبر رأس فيه، ولا حجة لمعارض أو موالي في السكوت عما جرى؛ بحق هؤلاء المعتقلين أو غيرهم، وإذا اردنا مستقبل مختلف علينا البدء في القيام بتصرفات وقرارات مختلفة عن تلك السابقة.
في المواجهة الجارية مع الاحتلال، قد تجاوز شعبنا نقطة فاصلة؛ تجاوز إمكانية ترهيبيه وإعادة عقارب الساعة للوراء، وغادر محطة استنزافه بمسميات الانقسام، وبات أقرب ما يكون لتصوره عن ذاته. فلسطين في نشرة الأخبار اليوم عادت لتشبه فلسطين؛ فيما مشهد المعتقلين، أو المحترقين والمفقرين في غزة؛ دون جهد حقيقي لكسر حصارهم؛ لا تشبه أبدًا فلسطين التي أرادها الشهداء وناضل هذا الشعب لعشرات الأعوام وما زال من أجلها.
من يظن أن هذا ينتهي إلى استسلام شعبنا مخطئ تمامًا، ولكن أيضًا؛ من يظن أن هناك فرصة حقيقية أمامنا لهزيمة الاحتلال؛ دون التفات حقيقي لمشاكل جبهتنا الداخلية، وترميم لقدرة مجتمعنا وأهلنا على الصمود وفرصهم بعيش كريم: يكون قصير للنظر؛ إن لم يكن أسوأ.
إن مشروع التحرر الوطني؛ مشروع هزيمة الاحتلال؛ يحتاج إلى برنامج اجتماعي اقتصادي؛ لدعم وتعزيز وتطوير الصمود؛ ليتحول لمجال؛ لإنتاج مضاد يكسر الهيمنة الصهيونية على جوانب عيشنا؛ يكسر قدرة العدو على عقاب أهلنا بالتجويع واجراءات الحصار، وأيضًا لبرنامج سياسي ركيزته وعماده المقاومة؛ يحشد أكبر إجماع وطني فلسطيني.