Menu

في الإرادةِ السياسيّة: إمّا الهروبُ من الموتِ أو مواجهته!

م. تيسير محيسن

باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ/ فلسطين

بُعيدَ انتخابِهِ 2001، صرّح أرئيل شارون "جئت أستكملُ المرحلةَ الثانيةَ من المشروع الصهيوني". وقتها لم يكن واضحًا ماذا يقصدُ بالضبط. لاحقًا اتّضح للجميع بالممارسة أنّه يقصدُ ضمّ أجزاء واسعةً من الضفّة الغربيّة "الانطواء"، الجزء الخاص بالضفّة من استراتيجيّةٍ شاملةٍ تشتملُ على 3 ركائز "فك الارتباط، خلق وقائع على الأرض، الردع". مع نتنياهو، بات "المخطّط" يحملُ اسمًا أكثرَ استفزازًا: الضمّ! وكلا الاسمين (الانطواء والضم)، يحمل المعنى ذاته (ابتلاع أجزاء واسعة من الضفة وإبقاء الفلسطينيين في جزر معزولة)، وكلاهما، أيضًا، يعكسُ مدى الأهميّة الاستراتيجيّة التي تمثّلها الضفّة الغربيّة بالنسبة لدولة "إسرائيل" ومشروعها الاستيطاني.

تتداخل وتتقاطع العوامل التي تجعل من الضفّة الغربيّة مكانًا استراتيجيًّا بالنسبة لدولة الاحتلال: توراتيّة، أمنيّة، سياسيّة، جغرافيّة وديموغرافيّة وطبوغرافيّة وبيئيّة؛ فعلى أرضها نشأت واندثرت دولتا اليهود الأولى والثانية. بعد النكبة، نشأ واقعٌ معقّدٌ من قربٍ وتماسٍ بين المدن على جانبي الخط الأخضر، ومع الاستيطان المتوسّع يومًا بعدَ يومٍ منذ 1967، ازداد الواقعُ تعقيدًا من التداخل والتقاطع بين فلسطينيي الضفّة وقطعان المستوطنين اليهود فيها. تمثّل حدود الضفّة نسبةً كبيرةً من الحدود الشرقيّة لإسرائيل، التي تفتح على الشرق العربي والإسلاميّ ومن ثَمَّ تكتسبُ أهميّةً عسكريّةً واستراتيجيّةً كبيرة. ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو تسيطر إسرائيل بالكامل على ما يسمى بالمنطقة (C) التي تمثّل نحو 61% من مساحة الضّفّة، وبدوّنها لا يمكنُ أن تكون دولةً فلسطينيّةً قابلةً للحياة، إسرائيل تجهضُ أي فرصةٍ للتنمية والتطوير فيها، تسهل قيام المستوطنات هناك وتستغل الموارد وخصوصًا المياه. وممّا زاد من الأهميّة الاستراتيجيّة للضفّة وقوع القدس فيها، بما لها من أهميّةٍ دينيّة، وباستمرار تفاقم أمرها حيث باتت محورًا مركزيًّا للصراع، مضفيةً عليه طابعًا تناحريًّا يصعب حلّه أو قبول الحلول الوسط بخصوصه.

اللافت، أنه وبرغم هذه الأهمية، وبرغم خضوعها بالكامل إلى احتلال غاشم منذ أكثر من نصف قرن، لم تتمكن دولة الاحتلال من ضمها رسميا، حتى وإن بدا أن الاستيطان والمصادرة والتهويد قد أتت عليها ولم يبق لنا سوى معازل أشبه بالغيتوات. فما السبب؟ في تقديري يكمن السبب الأول في عدم رغبة إسرائيل بضم الأرض مع سكانها خشية اختلال الميزان الديموغرافي داخلها لصالح الوجود الفلسطيني. طبقا لأقوال ليفي أشكول بعد حرب حزيران 67: نطمع في المهر، وليس العروس! السبب الثاني الخوف من رد فعل العالم، أو قل رفض العالم الاعتراف بشرعية الضم، وأخيرا رد فعل الفلسطينيين واحتمالية أن يكون رد فعل عنيف أو انتفاضة شاملة.

لكنها، دولة الاحتلال، لم تألُ جهدا، في جميع الأزمان في مواصلة سياستها وممارساتها التي جعلت من حياة الفلسطينيين أشبه بالجحيم؛ سواء في زمن اليسار الصهيوني أو حكم اليمين أو في زمن تقاسما فيه الحكم والنفوذ. ولعل أبرز وأخطر استراتيجياتها تمثلت في محاولات الاستدراج الدائم لردود أفعال من طرفنا تكون أقرب أو أسهل للتعامل معها والتغلب عليها، بما في ذلك شيطنتها ووسمها بالإرهاب، ردود تفتقر للحاضنة السياسية أو القاعدة الشعبية الواسعة، تختزل الاحتقان الجماعي والغضب الوطني في أعمال فردية، غالبا، تقطع الطريق على إمكانية إعادة إنتاج ذاتها اجتماعيا وجماعيا، ضمن منطق التصعيد والتقدم الحلزوني، وليس التكرار النمطي والخطي، ما يجعل منها، مع الوقت والنزيف والأثمان، مصدرا للتعب والإحباط والعزوف.

ويا للمفارقة، يحدث كل ذلك، بينما تنجو دولة "إسرائيل" من فعلها الموسوم، طبقا لمؤسسات حقوق الإنسان، وللشواهد الميدانية، بأنه يرقى إلى مستوى "جرائم ضد الإنسانية"، العنصرية والاضطهاد (الحرمان من الحقوق الأساسية بناء على العرق أو العنصر). تنجو إسرائيل بجرائمها، بينما يوسم نضالنا بالإرهاب. يعود بعض الأسباب إلى فعلنا أو انعدامه: نحن منقسمون دون سبب، لا نجيد لغة الحوار مع العالم، نعلي من شأن لغة "العنف والانتقام"، لا نعير كبير اهتمام لفوارق القوة، ومع "أوسلو" وما رافقها من سوء تقدير وأداء، باتت معظم هياكلنا جزءا من البنى الاستعمارية المستجدة.

وياللمفارقة أيضا، بعد أن اعتقدت دولة الاحتلال، أنها تمكنت من التقويض والتحييد، اكتشفت أن "عدوها الطبيعي" على هذه الأرض، لازال قادرا على المشاغلة والمواجهة وأنه لن يستكين أو يسلم؛ ونقصد بذلك، الوجود الفلسطيني المجرد (حوالي 7 مليون)، فتوجهت للتعامل معه مباشرة، كما لم تفعل من قبل (سياسة العصا والجزرة)، في اللد ونابلس وغزة، تبغي من وراء ذلك تحييدنا رمزا أو فعلا (أضعفت السلطة، حيدت المنظمة، أغرقت الفصائل في اللغو والعنجهية، ساعدت على تقسيم المقسم). تجمع "إسرائيل" اليوم بين أكثر من استراتيجية: إدارة النزاع، تقليص النزاع، وبالطبع في إطار السلام الاقتصادي؛ وكلها تهدف إلى كسب الوقت فقط!

بعد 2005 (نهاية الانتفاضة الثانية) تصرفت حكومات إسرائيل، وخصوصا في ظل حكم نتنياهو وصعود اليمين المضطرد، بناء على فرضية مفادها أن الفلسطينيين في الضفة الغربية قد وصلوا في هزيمتهم إلى نقطة اللاعودة. يبدو أن هذه الفرضية تغيرت وخصوصا عندما أعلنت إسرائيل عن حملتها "كاسر الأمواج" (31 أذار 2022).

منذ 2015 وأمام تصاعد الفعل المقاوم، استخدم الاحتلال تكتيكات واستراتيجيات متنوعة لمحاولة وقف هذا الفعل أو منعه؛ القمع المباشر (الاغتيال والاعتقال)، إقامة بنى هندسية لجعل المكان كاشفا ومكشوفا، الإيحاء بالوجود الكلي للمخبر (الرقيب) سواء بمعناه الرسمي (تنسيق أمني) أو بمعناه الفردي (العمالة أو الخيانة)، بما يقوض القدرة على الفعل أو القدرة على كتمان السر أو الاستمرار في هذه النهج. باستخدام التكنولوجيا حولت إسرائيل الضفة إلى سياق رقابي شبه شامل ودون ضوابط.

البعض يعزي انبعاث الفعل المقاوم بأشكاله المختلفة، إلى احتدام سياسة الاحتلال وممارساته والضرر الذي لحق بقطاعات سكانية كبيرة، وأيضا في ظل تراجع دور السلطة واستشراء فسادها وانكشاف عجزها عن الإدارة الناجعة للمجتمع والحكم، واستمرار تنسيقها الأمني، وقمعها للحريات والحقوق، حتى يكاد أمرها أن ينتهي إلى دور "الوكيل الأمني الخالص". وجد الفلسطيني في الضفة نفسه وجها لوجه مع أبشع صور وممارسات احتلال عنصري احلالي يمارسها جيش مدجج وعصابات من مهاويس المستوطنين. في غضون ذلك، تُرك الشباب وحدهم يواجهون واقعا مأزوما، وقيادة فاشلة، لم تسعفهم فصائل العمل الوطني بتنمية الحس الثوري، وامتلاك الوعي النقدي، وتأمين مسارات الفعل الممكن والناضج. بتنا أمام فعالية فلسطينية مدرجة ضمن أوسلو، ورد فعل عشوائي واحتجاجي من قبل أجيال متعاقبة من الشباب يطرق جدران الخزان المرة تلو المرة وما من مجيب.

بينما يميل الفلسطينيون إلى استخدام الكفاح المسلح، ولا تروقهم كثيرا أشكال النضال غير العنيفة، إلا إنهم يدركون في قرارة أنفسهم، بحكم التجربة، أن فرصه محدودة أولا بسبب فارق القوة (التفوق العسكري والاستخباراتي)، ثانيا بسبب الجغرافيا (بيئة مكشوفة)، وثالثا غياب السند الخارجي الذي يقدم الدعم والمدد ويشكل غطاء للمقاومة بالفعل وليس بالشعار أو باستغلال إنجازاتها "المحدودة" عبر تعظيمها بالمبالغة ولصالح أجندات إقليمية. وكذلك، بتنا نعلم جميعا، وبحكم التجربة، أن دولة الاحتلال تستند في سلوكها نحونا إلى حقيقة أننا سوف نقاومها دوما، وأننا لن نسلم بوجودها مهما طال الزمن، وهذا ما يجعل سلوكنا متوقعا ومقروءا وقابلا للتعامل معه بسهولة. ومن عقائدهم أيضا عدم انتظار فعلنا حتى يصل عقر دارهم، وإنما العمل على الذهاب إلى المصدر في عمل استباقي (لم ينجحوا دوما، ولكنهم سرعان ما كانوا يصححون الفتق أو يردمون على الفجوات المكتشفة). كثيرون الذين يرون في المقاومة فعلا رمزيا أكثر منه فعلا حقيقيا قادرا على دحر الاحتلال أو حتى وقف اعتداءاته.

في ظل تمركز القوة السياسية في يد نخب لا تمتلك شرعية أو حضورا شعبيا (رجال أعمال ونخب تكنوقراط، ومحدثي ثروة وبقايا فدائيين) وبينما يتقاتل الخلفاء تشتد عمليات فك الارتباط عن السلطة من قلب قاعدتها الاجتماعية. يخرج من بين ظهرانينا شباب يحملون ارواحهم على أكفهم؛ لا تنقصهم البطولة ولا المهارة ولا الجرأة، لكننا في حاجة لقراءة أعمق وأكثر صراحة للظاهرة التي تشهدها الضفة الغربية في هذه الآونة.

الهبات الفلسطينية التي ولدت في العشر سنوات الأخيرة ليست إلا محاولات مختلفة لإصدار إنتاجات مختلفة من الفعل الذي يتطلب إرادة سياسية! هبات تراوحت بين وطنية المنطلقات وأسئلة التمثيل والاستمرارية وتتسم بمخالفة النمط والإيقاع والدلالة، لكنها ظلت دون قيادة ودون توجيه.

لم يعد من عدو طبيعي وحقيقي للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين (النافي للوجود والحقوق) سوى وجودنا المادي وحقوقنا الطبيعية. إسرائيل تتبنى سياسة الاجهاز والتبديد (التعامل مع جذور المقاومة وليس فقط جز العشب: الوجود المادي للفلسطينيين بالعصا والجزرة إلى أن تنتهي منه أو تقوضه أو تتمكن من تحييده وجعلنا جماعات أصلانية). بالمقابل وفي ضوء فشل التسوية التفاوضية والمقاومة التفاوضية وتحولنا إلى مجرد "مراحل" على طريق تحقيق النفي الوطني عبر بوابة "السلام الاقتصادي"، اكتشف جيل من الشباب أن "الإرادة هي العامل الحاسم في سياق استعماري" وعليه، فخياراتهم أمام مشروع استيطاني عنصري: إما الهروب من الموت وإما مواجهته. دولة الاحتلال المدججة لم تستطع أن تقضي على الظاهرة، وثمة احتمال بتوسعها وانتقالها إلى مناطق أخرى في عمليات تعاقب وتبادل أدوار وتكامل ساحات. يتراوح الرد الإسرائيلي بين عمليات استباقية (احباط مسبق)، وبين تطبيق منظومات عقابية جماعية لاحقة للفعل المقاوم، وما بينهما من تدابير وإجراءات تفرضها وتقوم بها في محاولة لنزع فعالية الفعل المقاوم (وتقليل أثاره).

ثم إن نتائج الانتخابات الخامسة في إسرائيل ونجاح اليمين المتطرف واحتمالات تشكيل حكومة، برئاسة نتنياهو، تخضع بالكامل لابتزاز المستوطنين واليمين المتشدد، تشي بأن المعركة الفاصلة في الضفة الغربية قد اقتربت أكثر من أي وقت مضى! ولعل من الحكمة إعادة النظر في أي استراتيجية نضالية فلسطينية تأخذ بعين الاعتبار هذه التطورات وخصوصا في ظل انشغال العالم بتداعيات أزمات وحروب أشد قسوة على مصير العالم وبالتالي على مصرينا نحن أيضا.