Menu

الأقليات في الجيش الصهيوني (2)

الشركس وصراع الهوية: بين الفلسطنة والأسرلة والتجنيد

صورة لجنود مسلمين في الجيش الصهيوني ليس بالضرورة جميعهم من الشركس

خاص بالهدف - أحمد مصطفى جابر

مقدمة:
مؤخرًا صدر كتاب عن وزارة الحرب الصهيونية، هو الأول من نوعه الذي يقدم الرواية الصهيونية لدور الأقليات في فلسطين المحتلة في الجيش الصهيوني ومساهمتها في العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.

وهذا الكتاب كنا قد ترجمنا في الحلقة الأولى مستلات منه تتعلق بالطائفة الدرزية ودورها في الحيش الصهيوني، وعموما في تارريخ الصراع الفلسطيني-الصهيوني، بعنوان: (الأقليات في الجيش الصهيوني (1) حلف الدم: الدروز والصهيونية). ورغم أهمية الكتاب، إلا أنه لا يمكن اعتباره مرجعيًا عند الحديث عن الأقلية الشركسية في فلسطين، ولا يمكن الاستناد إلى ترجمة ما في هذا الكتاب، التي تشير إلى أن الشركس قد حشروا حشرًا، في هذا السياق، تنفيذًا لسياسة صهيونية قديمة تهدف إلى تضخيم دور الأقليات في التحالف مع الكيان، حتى لو كان هذا يستند إلى مبادرات فردية، مع تجاهل دور هذه الأقلية في الكفاح المناهض للصهيونية الذي نعتبره كان أكثر تنظيمًا.

عمومًا، في هذه المادة، تم تدقيق المعلومات الواردة في كتاب وزارة الحرب الصهيونية، بحيث يمكن اعتمادها فعليًا، إضافة إلى مصادر مهمة مختلفة لجأ إليها الكاتب، تم تثبيتها في نهاية هذا النص، الذي يعتبر مجرد ضوء كشاف بسيط في هذه السياق.

يؤكد الكاتب من جديد أن هدف النص كما كل السلسة هو تسليط الضوء على جوانب مجهولة من تاريخنا مع علمنا بأن هذا يعني وربما يؤدي إلى فتح بعض الجراح، ولكنها خطوة ضرورية لمزيد من التعمق في تاريخنا وفهم مختلف جوانبه من جهة، ووضع النقاط على الحروف في معاني الوطنية والانتماء الوطني والاصطفاف مع العدو. ونؤكد من جديد إدراكنا لوجود تيار مهم في الطوائف والأقليات التي يتم تناولها في هذه السلسلة، يؤكد فلسطينيته وعروبته وإنتماءه الوطني المناهض والمتصدي للصهيونية.

اقرأ ايضا: حلف الدم: الدروز والصهيونية

الشعب الشركسي

الشركس هم من المسلمين السنة الذين ينحدرون من منطقة القوقاز، وهم ليسوا عرباً بالجنسية. يتألف الشعب الشركسي من 12 قبيلة تعيش بشكل رئيسي في شمال القوقاز في روسيا و تركيا وبقية الشرق الأوسط، مع جالية أصغر بكثير في بقية العالم. يوجد في فلسطين المحتلة مجموعة صغيرة من الشركس، يعيش معظمهم في قريتين في الجليل: كفر كاما (أنشئت على أنقاض قرية فلسطينية قديمة سنة 1876) والريحانية التي أنشئت سنة 1873، ولا يتجاوز عددهم حسب متوسط المصادر 4000 نسمة.

اقرأ ايضا: البدو والتجنيد الصهيوني وصراع الهوية: موت البدوي الخاضع

يروي المؤرخون أن وجود الشراكسة في فلسطين لم يكن مقصودًا في الأساس، ولكنه نجم عن حادث حريق شب في عنبر الـسفينة البخاريـة النمساوية (سفينكس) التي كانت تنقل على متنها حولي ثلاثة آلاف من المهاجرين الشراكسة مـن مينـاء كافالا اليوناني إلى اللاذقية السورية، وبسبب هذا وفي إحدى الروايات إنه ترافق مع عاصفة مفاجئة، جنحت السفينة إلى ميناء فماغوستا في قبرص بعـد انـدلاع النيران فيها، وقد أغلق القبطان باب العنبر المحترق على من فيه، ممـا أدى إلـى مقتـل حـوالي 500 مـن المهاجرين، وقد انتقم لهم فورًا رفاقهم الناجين، حيث قتلوا عددًا من أفراد طاقم السفينة.

وتبعًا لبرقية من القنصل البريطاني واتكنز (من وثـائق وزارة الخارجيـة البريطانيـة) أن سفينة أخرى، قد أجلت الناجين الباقين من فماغوستا إلى عكا النواة الأولى لإقامة قريتي كفر كما والريحانية التي رفدت بمهاجرين جدد من البلقان أتـوا عـن طريق مرفأ بيروت. وكان المهجرين الشراكسة قد استقروا لفترة في مدينة قيـسارية وغابـة أو خربة الشركس الواقعة إلى جانبها وسارونا، ولكن سرعان ما رحلوا عن المنطقـة، بـسبب تفـشي مرض الملاريا وكثرة الوفيات.

الشركس في النضال الفلسطيني

لا بد من الإشارة الضرورية إلى مشاركة شراكسة بشكل فردي في صفوف الثورة الفلسطينية ضد الانتداب والهجرة اليهودية إبان ثورة 1936-1939، حيث نعثر على أسماء مثل إدريس حسن لْئِشَه برفقة الشهيد عبد االله الأصـبح، وكذلك شخص يقال له إسحاق الشركسي (هو إسحاق علي والد علي إسحاق عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية)، وآخرون، شاركوا بعشرات الاشتباكات التي دارت مع قوات الانتداب وحرس المـستعمرات الصهيونية ويسجل لهم مساهمتهم الكبيرة في تدمير السياج الشائك الملغم الذي بناه البريطانيون علـى طـول الحدود اللبنانية لمنع وصول الإمدادات للثورة. كما شارك ممثلـون عـن شراكـسة الريحانية في اجتماعات الهيئات الوطنية التي كانت تُعقد في مدينة صفد مثل يونس هـارون، ويعقوب علي.

من الإشارات المهمة أيضًا، أنه في بدايات العام 1953 توفي مختار قرية الريحانية حسن بك، فتم ترشيح السيد رشيد غشْ من أهالي القرية، فرفضته السلطات الصهيونية التي رشحت بدلًا منه جمال خورشيد أحد الموالين لها، فانقسمت القرية بين من يطالب بتعيين السيد غيش، وبين من هو قابل بجمال خورشيد. وفي حمأة هذا الخلاف وتحديدًا في أوائل شهر حزيران قُتل المتعاون محمد الحاج عمر قيس المعروف عند الشركس باسم "زابت" فتتبع البوليس الصهيوني آثار قتلته مستخدمين الكلاب البوليـسية وقصاصي الأثر من البدو حتى الحدود اللبنانية، وهو ما يدل على أن قتله جاء انتقاما لدوره في الجيش البريطاني كدليل للقوات البريطانية والأسترالية التي دخلت سوريا للقضاء على قوات فيشي، الفرنسية، رغم ذلك قام الجيش الإسـرائيلي باحتلال القرية ومنع أهلها من التجوال، كما قام البوليس باعتقال جميع البالغين المناوئين لاختيـار جمال خورشيد مختارًا، ونفت بعضهم إلى قرى عربية مختلفة في منطقة المثلث والجليل الغربـي متهمة إياهم بالتآمر على اغتيال المتعاون محمد عمر قيس، ثم أخذت فـي إطـلاق سراحهم بالتتابع، محتفظة بستة رجال. أُطلقَ سراح خمسة منهم بعد أشهر لعدم ثبـوت أي دليـل على مشاركتهم أو معرفتهم بعملية الاغتيال بينما أبقت على الرجل السادس وهـو إسـحق علـي زكريا المعروف باسم اسحق الشركسي رهن الاعتقال فقرر الحاكم العسكري نفيه لمدة سنة وثبتت المحكمة العليا هذا، ولكن حسب شهادة ابنه علي إسحاق عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فإن اسحق في الواقع لم ينفَ ولم يحاكم أصلًا، رغم توجيه سبعة تهم لـه، وكـان محاميه الشخصية المعروفة محمد نمر الهواري مؤسس منظمة النجادة الكشفية التي اُلحقت تاليًـا بفتوة الحاج محمد أمين الحسيني، ومنعت زيارته منعًا باتًا حتى لمحاميه الذي أصبح لاحقاً قاضـياً ولم يتبين لأحد مصيره حتى اليوم، ويبدو أنه اغتيل في سجنه انتقاما من دوره في ثورة 1936-1939، كما اُبعدت زوجته وابنه البالغ من العمر تسع سنوات مع أربع عائلات أخرى إلى الحدود السورية في 25/10/1953، وإذا ما كان اسحق ما يزال على قيد الحياة في أحد السجون الـسرية الإسرائيلية وهي سجون موجودة كشفت عنها عام 2003 القناة العاشـرة الإسـرائيلية وجريـدة يدعوت أحرنوت في 4 آب من نفس السنة، فسيكون أقدم سجين في العالم وعمره بحدود 92 سنة، حيث أنه من مواليد العام 1918 واسحق الشركسي هو من حمل جثمان الشهيد عبد االله الأصـبح من جبل الجرمق إلى قرية سعسع بعد استشهادة يوم 27 نيسان 1938 وتشتت رفاقـه.

بالعودة إلى حصار الريحانية، فإن هذا الحصار لم ُيرفع إلا بعد تدخل الحكومة التركية لدى السلطات الإسرائيلية، وبعـدما هـدد شراكسة تركيا بالانتقام من اليهود الأتراك. وكانت سيدتان وهما (ذكـرت إسـماعيل وزهـرة أم فخري) قد استطاعتا التسلل من الريحانية المحاصرة والذهاب إلى قرية كفـر كمـا ومنهـا إلـى القنصلية التركية لتحملا حكومة أنقرة مسؤولية مصير شراكسة فلسطين، كونهم كـانوا مـواطنين عثمانيين أساسًا.

وما يؤكد استثنائية وضع القريتين في السياق الشركسي، وخضوعهما لمؤامرة (فرق تسد) والأسرلة القسرية، ومفارقة هذا لدور الشركس العام في السياق السوري، حقيقة وجود عشرات المتطوعين من شراكسة سوريا و الأردن في الكفاح الفلسطيني ضد البريطانيين وضد الصهيونية وانخراط الكثير منهم في جيش الإنقاذ، منهم على سبيل المثال احسان شردم المولود في القنيطرة والذي أضحى الحاكم العسكري لمنطقة نابلس – طوباس وقاتلت مفرزته الشركـسية السورية – الأردنية في وادي اللطرون وباب الواد. وفي حرب العام 1948 عادت المفرزة لتصبح جزءًا من الجيش السوري وخاضت كل المعارك التي خاضها الجيش السوري في سـهل الحولـة وجنوب وشمال بحيرة طبريا، سمخ، داغانيا، كعوش، تل الـدريجات، نجمـة الـصبح، بيـارة الخوري، تل العزيزيات. وقد كانت معركة تل العزيزيات من أهم المعارك التي خاضتها المفـرزة الشركسية السورية بقيادة المقدم جواد أنزور التي استشهد فيها أنزور مع عدد كبير من رفاقه قبل الاستيلاء على الموقع. ومن الشهداء الشراكسة السوريين في حرب فلسطين إضافة إلى جواد أنزور الملازم إحسان كم ألماز، والملازم نيازي حيدر، والملازم أول سليمان نيازي والملازم أزل ميرزا عثمان، والملازم أول عبد القادر يعقوب، وصف الضباط والجنـود: فـوزي بـج، محمـد جركس، حسن جركس، عبد العزيز دوغوظ نهاد يحيى، قاسم إدريس، عـدنان توفيـق، حـسين قوشحة، موسى إسماعيل محمد بشماف، علي بردوقة، محمد ضياء، موسى ترمن، خالـد بـش، محمد جركس أحمد، علي نوح، حسن سبنو، خير الدين باكير، أحمد بيسلان، محمد سعيد، فـؤاد بيسلان، موسى شمس الدين، محمد بج، ممدوح دوغوظ، محمد رمضان، شمس الدين عبد الواحد، علي الشيخ، قرال جلتاخ أسعد مالـك، جانتمر ميرزة، موسى إسماعيل وغيرهم جميعهم استشهدوا في فلسطين، ومن أجل حريتها، وفي حرب 1967 استشهد أيضًا من الشراكسة السوريين 36 جنديًا وضابطًا.

الشركس في السياق الصهيوني والأسرلة

رغم محدودية التيار المتاسرل إلا إنه للأسف استمر واستطال بفعل السياسات الصهيونية وانعكس في دور الشركس في الخدمة في الجيش والبوليس البريطاني ومهد للدور اللاحق الأكثر خطورة.

على الرغم من أنه نظرًا لقلة عدد الشركس في فلسطين، إذ لا يتجاوز عددهم الأربعة آلاف إلا بقليل، فإن تأثيرهم كان محدودًا جدًا، لأسباب ديمغرافية غير أن هذا لا يعفي التيار المتأسرل من مسؤوليته التاريخية في خيانة شعب فلسطين وطعنه في ظهره والتواطؤ مع العصابات الصهيونية.

يجب التذكير من جديد باستثنائية وضع القرى الشركسية، كأقلية ديمغرافية وانحصار جغرافي، وتيه هوياتي، لا مجال للتفصيل فيها الآن، غير أنه لا بد من التأكيد أن قرار ديفيد بن غوريون بتطهير الجليل من العرب كان قد شمل الشركس أيضًا، باعتبارهم مسلمين سنة وإن لم يكونوا عربًا، إلا أن القادة الميدانيين ورربما شاريت نفسه، قرروا تجاوز هذا الأمر بالنسبة بقرى مثل كفر كما والريحانية، ويبدو السببغامضا في البداية، حيث يتساءل المؤرخ إيلان بابه عن سبب الإبقاء على سـكان بعـض القرى العربية في الجليل وعدم إبعادهم في ذروة تطبيق سياسة التطهير العرقي أثناء عملية حيرام العسكرية الصهيونية في قرى الجليل 1948، ويذهب بابه إلى أن السبب قد يكون تنفيذ سياسة فرق تسد البريطانية، التي ورثها الصهاينة، التي تعتمد على إبقاء الأقليات في حالة تناقض مع الأكثريـة، رغم أن بابه، يركز على الدروز بالأساس، كحالة خاصة أظهرت تعاونا مقابل حصانات وأسـلحة وامتيـازات، فإنه لم يذكر الشركس والسبب برأينا هو ديمغرافي، بسبب قلة عددهم وعدم تأثيرهم، حيث وأيضًا قبل وجود الجيش الصهيوني بشكل رسمي، ثمة شواهد على تورط الشركس بدعم المستوطنين الصهاينة منذ 1936.

أحد الشواهد على ذلك، جاء في مقال منشور في صحيفة "واشنطن بوست" عام 1986 حسب آدم جرهاد وهو مدير مدرسة كفر كما الأساسية حينها، الذي تحدث عن مساندة أهالي القرية للمستوطنين الصهاينة إبان ثورة 1936 الفلسطينية، حيث عمل بعض أبناء القرية كحراس في المستوطنات.

في بداية حرب 1948، حاول المقاومون الفلسطينيون ضم السكان الشركس في كفركاما لمساعدتهم في حربهم ضد الغزو الصهيوني، ولكن هؤلاء رفضوا بحزم المشاركة في القتال إلى جانب الفلسطينيين وظلوا على اتصال بمنظمة "الهاغاناه" وتجنبوا تمامًا العمل مع الفلسطينيين أو التواصل معهم. وكانت الحجة الرئيسية لوجهاء القرية هي أنهم على علاقة جيدة بالمستوطنين اليهود في مستوطنة يفنال، ويريدون الحفاظ على صداقتهم.

خلال شهر يوليو/ تموز 1948، كجزء من عملية "ديكل"، تم احتلال الجليل السفلي (عملية ديكل - حرفياً عملية شجرة النخيل - أكبر هجوم شنته القوات الصهيونية على شمال فلسطين بعد الهدنة الأولى للحرب العربية الإسرائيلية في عام 1948. وقد أجرتها الفرقة المدرعة الخامسة بقيادة المتطوع الكندي بن دونكلمان - يدعى بنيامين بن دافيد في الكيان -، وكتيبة من لواء كارميلي، وبعض العناصر من لواء جولاني في الفترة من 8 إلى 18 يوليو. وكان هدفها الاستيلاء على الناصرة ومنطقة الجليل الأسفل. وفي 15 يوليو، قصفت الطائرات الصهيونية قرية صفورية وأثارت الذعر بين السكان؛ وفر كثير من القرويين إلى الشمال نحو لبنان، ووجد آخرون مأوى في الناصرة، تاركين وراءهم نحو 100 من المسنين).

تعاون شراكسة كفر كاما مع "الهاغاناه"، وانضموا لاحقًا بشكل علني إلى قوات الجيش الصهيوني بصفتهم سرية في الكتيبة الثانية عشرة في لواء غولاني. وقد قاتلوا إلى جانب جنود الجيش الصهيوني أثناء استيلاءه على الناصرة وشفاعمرو والقرى الأخرى في الجليل الغربي.

تم التخطيط لعملية "حيرام" لاحتلال الجليل الأعلى كعملية مشتركة لعدة قوات. عمل لواء غولاني في جنوب الجليل، وعمل كرملي في منطقة إصبع الجليل، وعمل اللواء السابع والتاسع معًا في وسط الجليل الأعلى وغربه. تم تكليف اللواء السابع بطرد قوات "جيش الإنقاذ" من الجنوب والشرق من منطقتي ميرون سعسع، بينما كان اللواء التاسع في نفس الوقت ينوي العمل من الشمال والغرب من منطقة نهاريا إلى الشرق. في المرحلة الأولى، كلف اللواء السابع بفتح طريق صفد ميرون، واحتلال مركز الجليل الأعلى: قرى قاديتا، ميرون، سعسع، صفصاف، جش، فرعم.

قرية قديتا كانت الهدف الأول للواء السابع في العملية. في ليلة 28 تموز (يوليو) غادرت الكتيبة المدرعة 79 التابعة للواء السابع بقيادة باروخ إيرز برفقة سرية من المقاتلين الشركس لاحتلال القرية. وتم احتلال قاديتا وأثناء احتلالها أغلق طريق قاديتا - الجش أمام حركة "جيش الإنقاذ". بعد تجهيز طريق صفد ميرون تقدمت الكتيبة لتحتل قرية ميرون. في نهاية عملية حيرام، تركت القرية مهجورة بعد تهجير سكانها.

كتيبة الأقلية

في عام 1948، وافق الجيش الصهيوني على إنشاء وحدة أقلية تحت قيادة جيورا زيد كما ذكرنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وهو أحد كبار ضباط استخبارات الهاغاناة الميدانيين، وكان من المفترض أنها ستعمل ضمن إطار عسكري، لكنها لن تكون مرتبطة بالجيش رسميًا، وعمل المتطوعون في الوحدة المختلطة (دروز وشركس وبدو وآخرون) في عمليات تخريبية واستخباراتية واعتقال العرب الذين حاولوا الفرار من الحصار المفروض على قرى الجليل.

ثمة إشارة مهمة في هذا السياق حسب إيلان بابه، حيث يشير إلى أن اسم الشركس قد حشر حشرا في الكتيبة المختلطة، إمعانًا في جلب غضب عرب فلسطين على الأقليات، حيث كان عدد الشركس في هذه الوحدة لا يزيـد عـن خمسة أفراد، واحد من الريحانية وثلاثة من كفر كما وواحد من شراكسة سورية كان مقيمًـا فـي فلسطين، لم يسكن أبدًا لا في الريحانية ولا في كفر كما وسرعان ما قُتل ودفـن فـي الريحانيـة بمراسم عسكرية إسرائيلية. والشركسي الوحيد المنسوب للريحانية كان اسمه (كمال قبرتاي مـن شراكسة سورية) قتل نفسه حرقًا بعد تأنيب ضمير لم يخفه لمشاركته في قتل بـدوي قـرب بئـرالسبع ومشاهدته لقتل أسرى مصريين في جنوب صحراء النقب، وقد اتهم حينها بالجنون.

في تموز 1948، في خضم حرب 1948، تقرر إلحاق الوحدة بالكتيبة 89 في اللواء الثامن بقيادة يتسحاق سديه، وبعد ذلك تقرر توسيع وحدة الأقلية وتحويلها إلى إطار كتيبة.

كما ذكرنا سابقًا، تم بداية تجنيد الدروز، ثم تجيند البدو وخصوصًا من قبيلة الهيب، في الشمال، الذين شكلوا النواة الأولى للوحدة البدوية في الجيش الصهيوني، جاء بعد ذلك تجنيد سرية من الجنود الشركس، وكان معظم جنودهم قد عملوا سابقًا كجزء من الجيش البريطاني، حيث في الكتيبة المشكلة كانت هناك ست سرايا: أربع سرايا درزية وسرية بدوية وسرية شركسية.

في نهاية مرحلة التدريب الأولي للكتيبة، انتقلت الكتيبة إلى معسكر نيشر، وأصبحت جزءًا من القوة القتالية للجيش الصهيوني. وفي 7 أيلول (سبتمبر) 1948، مُنحت وحدة الأقلية سجل حزام ورقم فردي، والذي منحت لهم في حفل.

في تشرين الثاني (نوفمبر) 1948، أمر رئيس الوزراء دافيد بن غوريون قائد الحكومة العسكرية، العقيد إليمالك أفنير، بتحويل وحدة الأقلية إلى قوة درك، وهي قوة شرطة تقوم بدوريات على الحدود الجديدة. في نهاية عام 1948 انقسمت وحدة الأقلية إلى قوتين:

قوة شمالية متمركزة في العفولة بقيادة دوف يريميا، وقوة جنوبية في حرس النقب بقيادة حاييم ليفكوف. في ذلك الوقت، خدم حوالي 850 مقاتلاً في وحدة الأقلية، منهم حوالي 500 من الدروز والباقي من البدو والشركس.

بعد انتهاء حرب 1948، وبسبب الأهداف التي حددتها الدولة لنفسها مثل استيعاب آلاف المهاجرين الجدد، واستعادة الاقتصاد، وأكثر من ذلك، وفي ظل تفكك بعض وحدات الجيش، فإن إمكانية حل الأقلية تم النظر فيه بجدية. ولكن بعد ضغوط الشخصيات العامة ووجهاء الكتيبة لعدم إغلاق الكتيبة، قرر بن غوريون إبقاء الوحدة وعدم حلها. وقد تطوع الشركس في فرقة الفرسان الشركسية المسماة "الفرسان"، وفي أيار/ مايو عام 1953 بدأ تأسيس حرس الحدود على أساس فيلق شيبار. في يونيو 1958 اتخذت الحكومة قرارًا بشأن التجنيد الإجباري للشباب الشركس في الجيش، حيث بدأت الدفعة الأولى تدريبها وفقًا للمراحل العادية، وذهب العديد من خريجيها للخدمة في الجيش أو حرس الحدود. ولكن نظرًا لقلة عددهم أصلًا بقي تأثيرهم وملاحظتهم بشكل محدود جدًا.

في عام 1981، اتهم ضابط مخابرات شركسي يدعى أزيت نابسو بالخيانة والتجسس لصالح دولة معادية. في استئنافه، بعد سبع سنوات ونصف، تمت تبرئته وحصل على تعويض، لكن القضية ألقت بظلالها على العلاقة بين المجتمع الشركسي ودولة الكيان لفترة. واليوم، جميع وحدات الجيش مفتوحة لجنود المجتمع الشركسي، ولكن لا يوجد إحصائيات واضحة، ولكن على مر السنين، شغل العشرات من الضباط الشركس مناصب قيادية وأركان في الجيش الإسرائيلي وفي صفوف الشرطة: في حرس الحدود والشاباك.

كما هو الحال مع اليهود والموحدون الدروز فإنه ومنذ عام 1958 على جميع الشراكسة الذكور (بناء على طلب زعيمهم) تأدية الخدمة الإلزامية العسكرية عند بلوغ سن الرشد، بينما تعفى النساء من ذلك. يعمل العديد من الشركس في الكيان في قوات الأمن، بما في ذلك الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود وقوات الجيش، ومصلحة السجون. النسبة المئوية من مجندي الجيش في أوساط المجتمع الشركسي في إسرائيل مرتفع بشكل خاص.

الخدمة العسكرية- التجنيد

تبلغ نسبة تجنيد أفراد الأقلية الشركسية في الجيش الإسرائيلي حوالي 75٪ من الخاضعين للقانون، وقد تم دمج جنود المجتمع في جميع فروع الجيش الإسرائيلي وبوابات الوحدات مفتوحة على مصراعيها (وحدات المشاة والدوريات النخبة، وحدات المخابرات، القوات الجوية وتشكيل الطيارين، البحرية، إلخ)، هذا لا يعني إن الجنود الشركس داوموا في هذه الوحدات جميعها، ولكن يعني إنها مفتوحة لاستقبالهم.

محاولة للتفسير

يزعم بعض المؤرخين أن الريبة في العلاقات العربية الشركسية تعود إلى جذور مبكرة عندما قام السلطان عبد الحميد الثاني بترحيلهم من عاصمته إلى مختلف أرجاء الامبراطورية العثمانية ومنها فلسطين، حيث إن إخلاصهم للسلطنة، باعتبار عبد الحميد الثاني ابنًا لشركسية، والتزامهم بعاداتهم التي بدت مفارقة للعادات المحلية، جعلت الفلسطينيين لا يثقون بهم خصوصًا أن تلك الفترة شهدت توترًا كبيرًا في فلسطين ضد العثمانيين، تمثل بعدد من الثورات والتمردات والانتفاضات ذات الطابع الفلاحي على الأغلب، بينما كانت علاقاتهم بالمستوطنين اليهود ودية، لأنهم ربما غرباء مثلهم.

تروي بعض المراجع أن السكان العرب لم يرحبوا بقدوم الشراكسة أول الأمر، خاصة في قرية كفر كما، وحصلت منازعـات مـع المحيط العربي، وأكثر المنازعات حصلت مع عشيرة الصبيح البدوية التي كانت تـرى أن لهـا حقوقا في الأراضي التي أُقيمت عليها كفر كما. كما حصلت منازعات بـين السكان الجدد في قريـة الريحانية وسكان قريتي علما والرأس الأحمر العربيتين، ولكن ليس بنفس الحدة، وكـان لقريتـي الريحانية وعلما مدرسة واحدة يذهب إليها تلاميذ القريتين. وقد تطورت العلاقات فيمـا بينهمـا لدرجة انتقال عائلات من علما لتسكن في الريحانية وهما عائلات البرازي وفارس كريم اللتان ما تزالان مقيمتين فيها وعائلة الحاج أحمد التي غادرتها في العام 1948، وقد أتقن أفراد العـائلات العربية اللغة الشركسية تمامًا كما يتكلمها الشراكسة، وقبل العام 1948 حصل تزاوج ولو محدود ما بين بعض من سكان الريحانية مع عرب من القرى المحيطة وحتى من البدو، مثل: زواج السيد باكي الشركسي من بدوية من عرب الهيب وأبناءه وأحفاده ما يزالون مقيمين في الريحانية، وكذلك زواج السيد اسحق الشركسي من امرأة من قرية صالحة الشيعية.

عند اندلاع الأحداث بين العرب واليهود في البلاد احتار الشركس حيال موقفهم من الأحداث. فقد أرادوا الحفاظ على علاقتهم الطيبة مع المستوطنات اليهودية المجاورة، وفي ذات الوقت كانت علاقاتهم مع العرب في القرى العربية المجاورة جيدة، ونظرًا لكونهم أقلية صغيرة حافظت على عزلتها الاجتماعية والعرقية في بلد غريب بعيد عن وطنهم، قرروا بعد اجتماعات ونقاشات كثيرة عدم التدخل في الصراع الجاري، بالطبع يعتبر هذا تبريرًا غير أخلاقي في المقام الأول، إذ أن الشركس عندما تم تهجيرهم من وطنهم كان الفلسطينيون هم من احتضنهم وتم توطينهم على أرض فلسطينية، ومن الغريب أن يستمروا حسب هذا الادعاء باعتبار أنفسهم غرباء في بلد بعيد عن بلادهم بعد مائة عام من وجودهم في فلسطين، الأحرى إذًا بالصهاينة اليهود أن يعتبروا من هذا والأحرى بالشكس من أتباع التيار المتأسرل أن يعتبروا اليهود غرباء أيضًا طبقًا لما يقولونه عن أنفسهم – المحرر. عمومًا رفض الشركس طلب الفلسطينيين قطع طرق المواصلات الصهيونية في الشارع الذي يمر جنوب قريتهم، حفاظًا على علاقاتهم الطيبة مع المستوطنات اليهودية المجاورة، ونظرًا لاعتقادهم، بعد تشاورات مع كبار العسكريين الشركس في الجيش الأردني، أن دولة "إسرائيل" ستقوم لا محالة (قرروا الانقلاب على موقفهم المزعوم بالحياد والانتقال إلى الانتهازية وخيانة مضيفيهم الأصليين ثم أقاموا حراسة على الشارع، لمنع أي هجوم فلسطيني على المواصلات الصهيونية التي تعبر الشارع).

في آب 1948 جنّد الشركس في الجيش الصهيوني، وبالمقابل تقرر منحهم الحماية من أي هجوم، وعدم مصادرة أملاكهم والسماح لكل شركسي كان يقيم في القرية خلال فترة الانتداب البريطاني وغادرها خلال الأحداث بالعودة إلى القرية والتمتع بكامل الحقوق، شرط أن يقوم بواجباته تجاه الدولة، وبذلك أصبحت الخدمة العسكرية متاحة لشباب الشركس في دولة الكيان حتى أصبحت إجبارية لاحقًا كما ذكرنا.

لم يمر الاتفاق بين "كبار الشركس" والجيش الصهيوني ودولة الاحتلال بسهولة، وكان هناك تيار جذري معارض كما هو حال الوضع بالنسبة للدروز، حيث هذا الأمر أثار وما زال يثير جدلًا في المجتمع الشركسي، تبلور بظاهرة رفض الخدمة العسكرية، وبخاصة من قبل المتدينين من الشركس، لتجنب الجدال وعدم توسعه، ولإبقاء الرفض في صيغة الطابع الديني وليس التمرد الوطني، قررت قيادة الجيش الصهيوني إعفاء شخص واحد من كل قرية شركسية سنويًا من الخدمة الإجبارية، وشكلت لهذا الغرض لجنة باسم "اللجنة الدينية". بعدها ارتفع العدد إلى اثنين ثم إلى أربعة، وفي السنوات الأخيرة يتم إعفاء أي شخص يرغب في عدم الخدمة، حيث يقوم بتقديم طلب خاص بالإعفاء وغالبًا ما تتم الموافقة على هذه الطلبات بعد مماطلات قد تصل لمدة أربع أو خمس سنوات.

مصادر للقراءة:

  • فسيفساء: الأديان والطوائف في جيش الدفاع الإسرائيلي. اللفتنانت كولونيل الحاخام حاييم ويسبرغ. الجيش الإسرائيلي.
  • إيلان بابه. التطهير العرقي في فلسطين.
  • مصطفى كبها ونمر سرحان: سجل القادة والثوار والمتطوعين لثورة 1936 – 1939.
  • هليل كوهين. العرب الصالحون.
  • الشراكسة في الوطن العربي. رسالة ماجستير سعاد صعب. جامعة القدس.
  • قراءات ومقالات مختلفة يمكن العثور عليها على الشبكة باستخدام البحث حول الشركس في فلسطين.