لم تصنع وسائل الإعلام لنفسها هذه السطوة على المقاتل الفلسطيني وحركات المقاومة، ولكن سياق كامل من التضخيم لدور الإعلام، يحدث تأثير سلبي على الوعي الفلسطيني والعربي بالمقاومة وحقيقتها ودورها، وبواقع تضحياتها، وفي الحيز الفلسطيني بات هناك من يمارس الدعاية لفكرة وصنعة "الدعاية والإعلام"، يعلي من شأنها وينسب لها أفضال شتى بدراية أو بغير دراية، وبقياس موضوعي أو بتغذية لأوهام مبطنة يظن فيها المثقف والصحفي لذاته دور قد يفوق المقاتل الذي يخوض الاشتباك الحقيقي على الأرض، و فصائلنا الوطنية التي قدمت أجيال من الشهداء على هذا الدرب.
إن هذا النقد لدور يتوهمه الإعلام لذاته ويسعى لتعميمه، وبناء سطوة معنوية يحدد بموجبها صورة الفدائي الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية كما يحلو له، لا يتصل ولا يسعى لتناول المقاومة وفعلها، كما ان موضوع هذا المقال ليس النقد بما فيه الموضوعي منه لبعض من تكتيكات المقاومة او اوجه القصور في ادائها ومسيرة عملها في مواجهة الاحتلال، ولكن بالأساس تلك المساحة الخاصة بتأثير سياق إعلامي مستدخل وغريب على أدبيات وتجارب وخبرات أنتجها شعبنا في مواجهة الاحتلال.
هذا السياق تغذى عبر محطات مختلفة على تجارب المقاومة اكثر مما شكل داعما لها، وصولًا لواقع بات فيه هناك فهم للعمل السياسي والجماهيري؛ باعتباره كثير من الدعاية وقليل من الأفعال، ولكن الأسوأ على الإطلاق تلك التأثيرات الناتجة بعد حقبة الفضائيات العربية والتي تزامنت مع انتفاضة الأقصى الفلسطينية عام ٢٠٠٠، التي التقت فيها سطوة حكام الخليج على عديد من القوى الفلسطينية والعربية مع دور فضائياتهم وأجهزتهم الإعلامية المستحدثة، وهذا تحديدًا بات يعني أن قياس كثير من الفصائل لوزنها يتم ارتباطًا؛ بموقعها في نشرة أخبار "الجزيرة"، أو ترتيب ذكر جناحها العسكري على لسان مذيع يتلعثم في ذكر أسماء الفصائل والمناطق الفلسطينية، ورغم أن حجم الفعل المقاوم وجديته في محطات المواجهة الرئيسية تجاوز بكثير محاولات "السيطرة على صورته"، فإن هذا السياق من المقاربات الاعلامية لعمل المقاومة او لكفاح الشعب الفلسطيني لا زال مهيمنا على اداء اجهزة الاعلام العربي، اذ تقارب هذه المنظومات الاعلامية صورة وواقع المقاومة والكفاح الفلسطيني كما لو كانت صاحبة حق في التحديد و التظهير او التعتيم ضمنها، او حتى اخراجها بما يلائم تصورات فريق تقني يقارب المقاومة كما لو كانت مادة درامية تعتمد على الاثارة في شعبيتها وليس على ما تقدمه من دم وتضحيات حقيقية.
يمكن القول: أن هذه المرحلة اختتمت بما لا يقل في السوء أو الصفاقة من قبل هذه الفضائيات؛ حين بدأت تتخلى عن ادعاءات الموضوعية وتقدم ذاتها كمنابر تدافع عن حقوق الفلسطينيين على طريقتها طبعًا؛ تجابه غارات الإف ١٦ بصراخ مذيعتها الشهيرة على "ضيفها " الناطق العسكري الصهيوني، أو بجملة اعتراضية يذكرها مقدم النشرة، وصولًا لما يمكن وصفه بعصر الاستيلاء على رواية مقاومة فلسطين وأهلها ومصادرتها لحساب هذه المحطات ومشغليها ومموليها.
بعيدا عن اي مساس بالمناضلين والمقاومين او قادتهم الذين قد تستضيفهم هذه البرامج، بات واضحا ان رهان الإعلامي على الغموض والموسيقى التصويرية التي توحي بخطورة ما سيقال، حفيف الورق والإضاءة الخافتة، كما لو كانت هي الحدث، أو ان أسرار المقاومة اصلا مطروحة امام مقدم البرنامج، أو ان قيادتها ستطلعه حقا على اسرار تتعلق ببنيتها، أو ان دوره سيتجاوز كونه ناقل لرسائل محددة قد يرغب من يخوض القتال الحقيقي مع العدو بتمريرها، فيما رهان المقاتل والمناضل على قدرته على تمرير رسالة عبر جهات اعلامية اقل ما يقال انها لم تكن حليفة او حريصة على المقاومة وأهلها، وهنا الرأي الذي تنطلق منه هذه القراءة، ان فائدة تمرير هذه الرسائل بطرق وسياقات مثل هذه تبقى اقل بكثير من الأضرار المترتبة على ترك هذا السياق يهيمن على صورة المقاومة، فهذا القتال والصراع لم يتعلق يوما بالاثارة او بمهارات المعد التلفزيوني او بانزياح ولاءات الفضائيات واصحابها، ولكن بدم أثمان وتضحيات حقيقية، وكذلك بحقائق ووقائع تجري على الأرض، فلم يقاتل شعبنا لأنه يتعطش لمشهد مثير ولكن لأنها فلسطين مركز الصراع بين تمام الحق والعدل والانسانية وتمام الباطل والاعتداء والعنجهية والعدوان والظلم والغزو.
صحيح أن هذا البرنامج والسياق الذي يأتي منه وأشباهه لم يحتكر الحديث عن المقاومة، ولكن نقطة الخطورة أن مفرداته حول الاسرار والمفاجئات والاثارة، باتت جزءّا مهيمنًا من حديث المقاومة عن ذاتها؛ كما لو كانت قيمتها الجوهرية تكمن في إثارتها لا عدالتها وتضحيات رجالها ونسائها.
واقع الحال أن الأسرار تتصل بالتخطيط والتحضير، وبالتأكيد هذا لن يكون هناك مجال لإعلانه، أو بأسماء ومواقع وأدوار الرجال والنساء الذين يحملون عبئ المقاومة على ظهورهم، وهذا ليس من الحكمة في شيء التلميح أو البحث عنه، ولكن الصراع يدور على الأرض؛ حول أسرار من نوع مختلف، لا مفاجآت مدوية فيها ولا ضربات قاصمة بل استنزاف مستمر للعدو.
هذا صراع يخوضه شعب فلسطين في كل دقيقة بلحمه ودمه؛ ما يصنع فيه الفارق آلاف من المعتقلين الذين يقررون الصمود وإخفاء ما استطاعوا من الأسرار في صدورهم، وآلاف أخرى من رفاقهم المقاتلين الذين يدركون جيدًا أن ثمن الاستعراض والثرثرة لم يعد أمن المقاومة فحسب، بل أرواح مئات من ذويهم وجيرانهم؛ إذا ما تسربت معلومة للعدو حول مواقعهم أو حتى هويتهم وحقيقة مهماتهم ضمن المقاومة.
ما السر الذي يبحث عنه او قد يحضره صحفي لمشاهديه من ازقة مخيم جباليا او بلاطة او جنين او شوارع البلدة القديمة في نابلس او الخليل؟ وفي غارته على مجموعات المقاومة في الضفة المحتلة؟ كم طلقة في مخزن البندقية؟ حقيقة عددهم أو تسليحهم أو عوامل تشكلهم؟ في الواقع إن هذه الصفقة المسمومة التي تسمح للفدائي بتقديم سرديته وروايته وتمنح المذيع وفضائيته شرعية تحديد من يسرد ومتى وكيف، بالتأكيد ستخدم الطرف الثاني وليس الأول على الأقل حسب تجارب شعبنا مع حالات سابقة مماثلة، وهنا التحذير او النقد الرئيسي يتعلق بمنح مشروعية لمثل هذه "الممارسات الاعلامية"، وهو أمر عابر لفصائل العمل الوطني والمقاومة، ولا يتعلق بحلقة او برنامج معين او فضائية بعينها، ولكن بسياق ونمط من الممارسات يجب الوقوف عنده بالنقد والتمحيص.
المقاتل والمجموعة والفصيل؛ تسليحها وعديدها وعوامل تشكلها، هي موارد يملكها الشعب الفلسطيني؛ يوظف فيها قدراته ويدفع ضريبة وجودها من دمه، وهناك ما أرساه شعبنا؛ بشأن التصرف في هذه الموارد؛ حري بالمقاتل وقائده كما حاضنته الالتزام بها، هذا لا علاقة له لا بتقييم أو قياس لمقدار البطولة والتضحية والفداء الذي يقدمه مقاتل لشعبه، ولكن له علاقة؛ بقيم نحن أحوج ما نكون لاستحضارها دائمًا، كجزء من وصفة النصر: الانضباط، والتسييس في كل فعل وعند كل قرار.
من تشكلت لديهم صورة النضال الوطني الفلسطيني، بتعبيرات القادة الشهداء من مؤسسي فصائل الثورة والمقاومة، ارتبطوا بعدالة هذه القضية، و باستعداد فدائييها للتضحية جيل بعد جيل، بعدالة النضال حتى في اشد اللحظات سواد وحلكة ويأس، ولو كانت المقاومة طلقة أخيرة في بندقية فدائي او فدائية وحيدة، لقاتلوا معها ودفاعا عنها، من هذا السياق جاء مناضلي شعبنا الذين يتقدمون الصفوف من مواقع الجنود او القادة في ساحات المواجهة مع العدو، وبالتأكيد لا ينقصهم ابدا إدراك هذه المعادلة، معادلة مفادها أن المقاومة وفصائلها ومقاتليها لا تحتاج لتقديم حرف واحد من التعهدات والوعود او الاسرار ليكون الفلسطيني والعربي المؤمن بعدالة قضيته معها ولو على حجر ذبح.