Menu

قراءةٌ في حاضر ومستقبل التنميةِ الاقتصاديّةِ في المشرقِ العربيّ

د. فضل النقيب

عنوانُ حديثي هو حاضرُ والتنميةِ ومستقبلُها في المشرق العربيّ، وهذا يعني أنّ الحديث سيتناولُ أسبابَ تعثّرِ أو فشلِ عمليّات التنمية في المشرق طوالَ العقود الماضية.

بالطبع، لقد استمعتم مراتٍ عديدةً لمثل هذا الحديث. اِستمعتم لأساتذة اقتصادٍ يرجعون سبّبَ تعثّرِ عمليّاتِ التنمية لضعف التنسيق الإقليمي، أو ضعف الرأسمال البشري، أو ضعف القطاع الخاص أو عدم إعطاءِ أولويّةٍ للاستثمار بالبحث والتطوير وأسبابٍ أخرى كثيرة، كما اِستمعتم إلى أساتذة علومٍ سياسيّةٍ يعيدون السبّب إلى غياب الديمقراطيّة والمشاركة الشعبيّة ووجود حكوماتٍ تسلّطيّةٍ دون شفافيّةٍ أو مساءلةٍ مما يسمحُ بانتشار الفساد وأسباب أخرى.

أنا لن أتحدّثَ عن هذهِ الأسبابِ التي اِستمعتم لها كثيرًا، لكنّي سأتحدّثُ عن العلّة التي تكمنُ وراء كلّ تلك الأسباب سواءً أكانت اقتصاديّةً أو سياسيّة.

سأقسّمُ حديثي لثلاثة أجزاء: الأوّل نظريّ - تاريخيّ، يعرضُ بشكلٍ موجزٍ أساسيّاتِ التنمية الحديثة، والثاني تطبيقيّ - كميّ يعطي صورةً عن أوضاع التنمية في بلدان المشرق. والثالث اقتصادي - سياسي، يخصُّ آفاق المستقبل.

ولكن قبل أن أبدأَ حديثي اسمحوا لي أن أرويَ لكم قصّةَ حادثةٍ تلخّصُ بشكلٍ مجازيٍّ أهمَّ ما أريد أن أقوله. الحادثةُ قديمةٌ وقعت قبل أكثر من مئتي عام، وعلى وجه التحديد، فإنّها حدثت في باريس في يوم الواحد والعشرين من كانون الثاني عام 1793. ففي صباح ذلك اليوم كانت مجموعةٌ من الجنود تقتاد ملك فرنسا، لويس السادس عشر، إلى ساحة الثورة لتنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحقِّهِ قبل خمسة أيام. في الطريق إلى الساحة اِقترب الملك من أحد الجنود وطلب منه أن يوصل رسالةً إلى الملكة ماري أنطوانيت، فجاءه رد الجندي سريعًا وحاسمًا وقاطعًا: أنا هنا لأوصلك إلى المقصلة، وليس لأنقل الرسائل بينك وبين الملكة.

هذا الالتزامُ المطلقُ الذي أظهره ذلك الجندي؛ بهدفِ المهمّة التي يقوم بها هو ما اِفتقده بشكلٍ كاملٍ الذين قادوا عمليّات التنمية في المشرق العربي طوال العقود السبعة الماضية. فمع أن الذين قادوا تلك العمليّات خلال تلك العقود لم يملّوا أبدًا من الإعلان بأن لهم مهمّةً واحدةً وهي القضاءُ على التأخّر والفقر في بلادهم وبشكلٍ نهائي، إلّا أنّ الذي حدث مع معظمهم أنّهم في الطريق إلى تنفيذ تلك المهمّة حدث ما أغراهم بنسيانها كليًّا والانهماك في نقل الرسائل بين صندوق النقد الدولي وملوك وأمراء ومشايخ دول الخليج، أي أنهم استبدلوا هدف القضاء على الفقر والتأخّر بابتداع وابتكار وتكريس أنظمةٍ جديدةٍ للفقر والتأخّر.

دعوني أبدأ الجزء الأوّل بطرح السؤالين التاليين:  

  1. السؤال النظري: ما أهمُّ مفهومٍ جاء به الفكر التنموي الحديث في نصف القرن المنصرم؟
  2. السؤال التاريخي: ما الأسلوبُ التنموي الذي أثبت قدرته على الانتقال من أوضاع الفقر والتأخر إلى أوضاع الوفرة والتقدّم منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وحتّى اليوم؟

إنّي أزعمُ أن أهم مفهوم صاغه الفكر التنموي الحديث هو مفهوم “Path Dependency “، وترجمته الحرفية "تبعية المسار"، الذي يعني أنّ مسارَ التطوّر الاقتصاديّ في الحاضر والمستقبل لبلد ما يظلُّ أسيرًا للنهج الاقتصادي الذي تأسّس في ماضي ذلك البلد، ولا يتحرّرُ المسار من ذلك الأسر إلا بعد تفكيك العلاقات المجتمعية التي كرّست ذلك النهج. وبناءً على ذلك يستعملُ مصطلح " تبعية المسار" لوصف الدور المهمّ الذي "يلعبه الماضي" في تحديد إمكانات "الحاضر" و "المستقبل":

ومن الأمثلة المهمّة التي تضربُ على قوّة "تبعيّة المسار" هو موضوع "الاقتصالد الاستعماري" وقدرته على الاستمرار في التأثير على التطوّر الاقتصادي بعد الحصول على الاستقلال، ومن أهمِّ الأمثلةِ على ذلك يأتي من تاريخ أكبر اقتصاد في وقتنا الحاضر وهو الاقتصاد الأمريكي. فالمستعمراتُ الأمريكيّةُ قامت بثورةٍ من أجل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وتمكّنت من هزيمة الجيش البريطاني وتحقيق الاستقلال التام في العام 1783، إلّا أن النمط الاستعماري المتمثّل في نظام العبودية (Slavery ( ظلَّ قائمًا طوال 77 عامًا بعد ذلك ويقف عائقًا أمامَ انتقال الاقتصاد الأمريكي من اقتصادٍ زراعي، إلى اقتصادٍ صناعي، إلى أن تمَّ القضاءُ عليه في الحرب الأهليّة (1860-1864).

وكذلك بالنسبة للاستعمار الأوروبي لبلدان العالم الثالث ففي ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، تناولَ بعضُ الأكاديميّين الإنكليز والأمريكيّين موضوع "الاقتصاد السياسي للحقبة الاستعماريّة" ومع أنّ بعض هؤلاء الأكاديميين كان من المؤيدين للاستعمار والقائلين إنّه كان له دورٌ مهمٌّ في التحديث والتحضير إلا أن نتائج أبحاثهم خرجت بنتيجتين اثنتين:

الأولى أنّ الاستعمار أحدث تخريبًا ممنهجًا في اقتصاد المستعمرات، فطوال نصف قرن كانت البلدان الرازخه تحت الحكم الاستعماري في ركودٍ تام (معدل النمو يساوي الصفر). والثانية أنّ هذا التخريب لم يتوقّفْ بمجرد حصول المستعمرات على الاستقلال، بل إنّه استمرَّ ما دامت البنية الاقتصادية التي خلفها الاستعمار على حالها. فلقد تبين أنّه بعد عقودٍ من الاستقلال ظلَّ معدّلُ نمو البلدان التي كانت مستعمرّةً أقلَّ من معدّل نمو بلدان الجنوب التي لم تعانِ من الحكم الاستعماري.

ولذلك يجبُ دراسة الحقبة الاستعماريّة وفهم أنماط الإنتاج والتوزيع والتجارة التي كانت سائدةً أثناءها وما كرّسته من أوضاعٍ طبقيّةٍ واجتماعيّة؛ لأنّ تأثير تلك الأنماط سيظلُّ قائمًا حتّى يتمَّ إحداث تغييرٍ جذريٍّ فيها، وهذا التغيير لا يتمُّ إلا عبر القضاء على مسار الاقتصاد الاستعماري السلبي واستبداله بمسارٍ وطنيٍّ إيجابي.

أما بالنسبة للسؤال الثاني، عن الأسلوب التنموي الذي أثبت نجاحه وكفاءته في القضاء على الفقر والتأخر بعد الحرب العالمية الثانية، فهو بلا شكٍّ أسلوبُ "التنمية بواسطة التجارة" أو "التصنيع من أجل التصدير"، وهذا ما أكدته كل تجارب التنمية الناجحة بعد الحرب العالمية الثانية، بدايةً بتجربة اليابان، ومرورًا بتجربة النمور الأربع (هونغ كونغ، سنغافورة، كوريا الجنوبية، وتايوان)، وبعد ذلك تجربة ما سمي ببلدان الأسواق النامية (Emerging Markets ) (كرومانيا، تركيا ، جنوب أفريقيا، مكسيكو، وتشيلي) وانتهاءً بتجربة الصين، إذ إنّها كلّها دون استثناءٍ تمّتْ في ذلك الإطار.

عليَّ أن أتوقّف هنا لتسجيل ثلاثِ ملاحظات:

الملاحظةُ الأولى: هي أنّه إذا استعرضنا المناهج الأكاديميّة لموضوع التنمية الاقتصاديّة في أهمِّ الجامعات العالميّة سواءً الأوروبيّة أو الأمريكيّة أو العربيّة، فإنّ مفهوم "تبعية المسار" غير موجود في معظمها، وإن وجد ففي المناهج الأكاديمية لقلّةٍ من الجامعات التي لا تمثّلُ ما يسمى جامعات "التيار الرئيسي" (Mainstream) ويعود هذا الإهمال لسببين. الأوّل أن المفهوم يتناقض من الناحية النظرية مع معظم "نماذج النمو" (Growth Models) التي تدرس في تلك الجامعات، حيث إنّ منطق تلك النماذج مبنيٌّ على أساس أن ما حدث في الماضي غير مهم، وهو وضع يخدم مصلحة القوى المستفيدة من الوضع القائم، التي ترفضُ دومًا البحث في تاريخ الأحداث التي قادت لذلك الوضع. والثاني أن التعبير عن المفهوم بلغة الرياضيات صعبٌ ومعقّدٌ وهو يتناقضُ مع النهج الأكاديمي السائد في الجامعات الأمريكيّة الرئيسيّة المبنيّ على أساس أن الحقيقة لا تظهر إلا على شاشة الكومبيوتر، وهي ترتدي ثوبًا من المعادلات الرياضية الجميلة.

الملاحظة الثانية: هي أنّه يوجدُ انطباعٌ عامٌ بأنّ تجربة التنمية نجحت في البلدان التي اختارت أسلوب التصنيع من أجل التصدير، وأنّها فشلت في البلدان التي اختارت طريق التصنيع من أجل إحلال الواردات، وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق. فمن الصعب على أيّ بلدٍ أن يبدأ عمليّةُ التحوّل نحو التصنيع، دون المرور بمرحلة إحلال الواردات؛ وذلك لأنّ أي بلدٍ يبتدء التصنيع يواجه منافسةً حادةً من البلاد التي سبقته في ذلك المضمار وهو من ثَمَّ يعاني في البداية من مشكلة "اللافعالية الانتقالية" (Transitional Inefficiencies)، وقد أثبتت التجارب التنموية الناجحة أن الاستراتيجيّة المناسية للتصنيع تمرُّ بثلاث مراحل: مرحلة إحلال الواردات السهلة، مرحلة صناعة الصادرات السهلة، ثم محلة التصنيع المتقدم.

الملاحظة الثالثة: وهنا لا بدَّ من التساؤل عمّا إذا كان هناك علاقةٌ بين مفهوم: "تبعية المسار" ونهج "التصنيع من أجل التصدير"؟

بالطبع هناك علاقةٌ عضويّةٌ قويّةٌ ومهمّة، فالحقائقُ التاريخيّةُ تؤكّدُ أنّه ما من بلدٍ تمكّن من التقدّم والازدهار عن طريق نهج "التصنيع من أجل التصدير" إلا بعد أن تمكّن من القضاء على المسار التابع السلبي واستبداله بمسارٍ تابعٍ إيجابي. كما أنّ الحقائق التاريخيّة تؤكّدُ أن عمليّة القضاء على المسار السلبي ليست عمليّةً اقتصاديّةً بحتة، بل إنها عمليّةٌ حضاريّةٌ تتناول كلَّ أوضاع المجتمع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

من المتعارف عليه في العلوم الاجتماعيّة تسمية تلك العملية بعملية "التحديث أو العصرنة" (Modernization) وهي تقومُ على ثلاثِ أسسٍ هي: القوميّة والعلمانيّة والبروقراطيّة العقلانيّة.

في هذا السياق المقصود بالقوميّة هو البعدُ الجغرافيّ فقط وليس أي بعدٍ فلسفيٍّ أو أيديولوجيّ. المقصودُ هو فقط أن تكون حدود الدولة هي نفس حدود الوطن أي تحقيق ما يسمى: الأمة-الدولة (Nation-State) على أساس أن ذلك يحقق ثلاثة عوامل ضرورية للتنمية: الأول هو تواجد السوق الكبير على اتساع الوطن، والذي له ميزات على مستوى الكفاءة والفعالية الاقتصادية لا تتواجد في الأسواق الإقليمية الصغيرة، والثاني هو الشعور بالانتماء لأمه وثقافة وحضارة واحدة، مما يسمح بانتهاج سياسات اقتصادية تساعد فيها المناطق الغنية المناطق الفقيرة، والثالث تحقيق السلم الأهلي بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والثقافية. 

كذلك الأمر بالنسبة للعلمانية، فالمقصود بها الجانب العملياتي فقط، أي فصل الدين عن الدولة وتأمين حرية كل مواطن في ممارسة شعائر دينه كما يريد، دون أن تتبنى الدولة أي عقيدة سواءً أكانت دينية أو دنيوية، أي إنّ المقصود بالعلمنة أن تكون "الأمة-الدولة" هي "دولةُ مواطنة" يتساوى فيها الجميعُ أمام القانون وبالحقوق والواجبات.

أما بالنسبة لجهاز الدولة، فمن الضروري أن يتشكل الجهاز الحكومي من بيروقراطية عقلانية تتمتع بصفة "الاستقلالية الموطدة" (Embedded Autonomy)، أي أن تكون ملتزمةً بالصالح العام وغير مأسورة لمصالح فئات أو طبقات معينة، وفي الوقت ذاته أن يكون الجهاز "موطّدًا" في المجالات الاقتصاديّة المختلفة، أي أن يكون أفراده قد أتوا من القطاعات الاقتصادية المختلفة بعد إثبات قدرات وكفاءات متميزة.  

(2)

الآن يأتي السؤال: ما الذي يمكنُ قولُهُ عن تجربة التنمية العربيّة المشرقية في ضوء مفهوم تبعية المسار وأسلوب التصنيع من أجل التصدير وفي سياق عملية التحديث؟

وسأركزُ في حديثي على أربع بلدانٍ عربيّةٍ فقط، هي: مصر وسورية والأردن والسعودية، على أساس أنهم يمثلون التنوع الموجود في بلدان المشرق: مصر وسورية بلدان مرا بتغييراتٍ ثوريّةٍ في المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، واحد تصالح مع إسرائيل والآخر لم يتصالح. أما الأردن والسعوديّة بلدان بنظام ملكي تقليدي، لم يتغير واحد تصالح والآخر لم يتصالح.سرائيل  

من الممكن القول: إنه في خمسينات القرن الماضي لم يكن هناك نخبٌ سياسيّةٌ في بلدان العالم الثالث أكثر وعيًا وإدراكًا لمتطلبات العمليّة التنموية أكثر من النخب المصريّة والسوريّة. فلقد كان من المتعارف عليه بين تلك النخب أن بنية الاقتصاد العربي هي بنيةٌ استعماريّة، وأن شرط البدء بعملية التنمية هو تفكيك تلك البنية بشكلٍ كاملٍ واستبدالها ببنيةٍ جديدةٍ متحررةٍ من الإرث الاستعماري. ففي عام 1961 يقول يوسف الصايغ في كتابه "خبز مع الكرامه: إن عملية التنمية لا بد لها لكي تبدأ وتتصاعد من تغيير واسع المدى عميق الأثر في شتى قطاعات المجتمع وعلى شتى مستويات المسؤولية خلال فترة طويلة من الزمن (ص 22). وهو يؤكد أن مثل هذا التغيير يواجه معضلات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية لا حصر لها، وهو يقول: أن الصفة العامة لهذه المعضلات هي أن المجتمع المتخلف يحاول مجابهة تحديات التخلف على الرغم من حالة التخلف ذاتها، أي كأننا، والكلام ما زال للدكتور يوسف، أمام صخر جبار يسد سبل الإصلاح، بحيث يتوجب على المجتمع شق الصخر ليتمكن من المسير قدماً، وهو يقول: "إن عملية "شق الصخر" هي في رأيه أكثر الخطوات حساسية وخطورة في تقرير مصير التنمية". لقد قال الدكتور يوسف ذلك بسنوات قبل أن يظهر في الأدبيات الاقتصاديّة مفهوم "تبعية المسار"، ولكنّي أعتقدُ أنّ تعبير "شق الصخر" هو أفضل وصف قرأته لعملية تقويض المسار التابع السلبي وخلق المسار التابع الايجابي. وفي عملية "شق الصخر" الصعبة، يؤكد الدكتور يوسف على ضرورة تحقيق ركائز التحديث الثلاثة. فهو يشرحُ العلاقة العضوية بين "التحرر القومي" والتنمية، حيث يحاججُ في أن التنمية مستحيلة بدون أن تقودها الدولة التي تتمتع بالشرعية القومية: كما يبين أنه دون تنميةٍ سياسيّةٍ- اقتصاديّةٍ – اجتماعيّة، يبقى التحرّر القومي هيكلًا هزيلًا معرّضًا للانهيار والانكسار. كما أنه يشرح علاقة أساليب العلمنة العقلانية بالتخطيط الاقتصادي وفي تكوين جهاز الدولة القادر على القيام بعملية شق الصخر.

وعلى مستوى أهم فلقد حدّد الدكتور يوسف أن عملية التنمية في العالم العربي لا تتمُّ في فراغ، ولكن من ضمن مشروع ثلاثي الأبعاد، بعده الأول هو الاستقلال، والثاني الوحدة، والثالث هو التحرر الاقتصادي والاجتماعي، وحدد أعداء هذا المشروع على أنّهم الاستعمار والصهيونية والرجعيّة. هذا على المستوى النظري أما على المستوى العملي، ففي منتصف الخمسينات تبنّتْ حكومةُ الثورة في مصر المقومات الثلاثة للتنمية، فعلى الصعيد القومي التزمت بالقومية العربيّة على أسسِ حقائقِ التاريخ والجغرافيا وضرورات الواقع، وليس لأي اعتباراتٍ أيديولوجيّة، كما أنّها بنت أطروحاتها كلّها على أساس فصل الدين عن الدولة، كما أنّها قامت بعمليةِ تطهيرٍ واسعة، تناولت كل مرافق الدولة؛ بهدف خلقِ جهازٍ حكوميٍّ ذات كفاءة وغير مأسور لمصالح الفئات الغنية التي كانت تحكم قيل الثورة. ويمكن القول: إنّه في منتصف الستينات تبنّت حكومة البعث في سورية نفس المشروع التنموي، وإن كان هناك فروقًا كبيرةً نوعيّةً وجوهريّةً بين التجربتين.

ماذا كانت نتائج ذلك على الاقتصاد في البلدين؟ ماذا حصل لنمو البلدين ولعملية التنمية فيهما؟

قياس النمو سهلٌ فهو معدّلٌ نمو متوسّط دخل الفرد بالأسعار الحقيقية. أما بالنسبة للتنمية فليس

هناك مقياس واحد يعطي فكرة عن جوانب التنمية العديدة، وفي هذا السياق، فإني سأستعمل "التقدم التقني" مقياسًا للتنمية، مسترشدًا بتعريف الدكتور يوسف للتنمية، إذ عرفها: على أنّها عمليّة إراديّة لدفع النمو قدمًا بنسبٍ عاليةٍ تزيد به زيادةٌ ملموسةٌ فوق نمو عدد السكان الصافي بشكلٍ مستديم... زيادة لا يمكن أن تتحقق من ضمن دورة الحياة الإقتصادية العادية يل يلزمها حدوث تغير كبير في التقنية وفي جهد الجماعة الإنتاجي، نتيجة ارتفاع ملموس في مستوى التعليم والتدريس كما في نمو المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على السواء.

الجدول (1) يبين معدل نمو متوسط دخل الفرد الحقيقي في العقود الأربع الأخيرة من القرن الماضي والقرن الأول من القرن الحالي.

وفي جدول (2) أمامكم أربع دراسات عن تطور معدل إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج في البلدان الأربع أثناء سنوات النصف الثاني من القرن العشرين.

جدول (1) معدل نمو متوسط دخل الفرد الحقيقي (1960-2010) (%)

 

مصر

سورية

الأردن

السعودية

1960-1969

3.5

6.7

 

11.4

1970-1979

3.4

12.3

9.0

5.1

1980-1989

2.4

-5.8

-1.7

-8.1

1990-1999

1.9

1.7

1.2

-0.02

2000-2010

2.6

7.3

3.0

0.03

 

جدول (2) إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاجTFP) )(%)

 

صندوق النقد الدولي

Sali-Martin

Jacteon

الاسكوا

الفترة الزمنية

1971-1996

1975-2000

1960-2000

1980-2000

مصر

0.80

0.60

0.30

0.79

سورية

1.40

1.40

0.60

0.79

الاردن

-2.90

-2.00

-1.30

-1.78

السعودية

-1.10

-1.10

……….

-2.29

 

الدراسة الأولى قام بها ثلاثة اقتصاديين من صندوق النقد الدولي، واثنين لأساتذة مختصين في مواضيع التقدم التقني في الجامعات الأمريكية والرابعة لمنظمة الإسكوا.

يوجد ثلاث ملاحظات حول نتائج هذه الدراسات:

الملاحظةُ الأولى: إن عقدي الستينات والسبعينات كانا أفضل العقود بالنسبة للنمو في البلدان الأربعة، والعقدين كما هو معروفٌ شهدا الإصلاحات الاقتصاديّة في سورية ومصر والقفزة في أسعار النفط، وفي الوقت ذاته شهدا حرب 1967، وحرب الاستنزاف، وحرب 1973، إضافةً إلى الكفاح المسلح الفلسطيني.

وفي هذا السياق، يظهرُ لنا بوضوحٍ كم كانت مضلّلة الحملات التي روجت لمقولة: إن سبب تراجع التنمية الاقتصادية في مصر وسورية كان بسبب انشغال البلدان بحروب الصراع العربي-الإسرائيلي، فجدول (1) يبين أن النمو في عقدي الحروب، أي الستينات والسبعينات كان أفضل من عقود السلام التي تبعت بعد ذلك.

الملاحظةُ الثانية: هي أن سورية ومصر البلدان الذان قاما بإصلاحات تهدف إلى التخلص من تبعية المسار الاستعماري السلبي واستبداله بآخر إيجابي (الإصلاح الزراعي، بناء مقومات البنى التحتية، مجانية التعليم، إقامة صناعات أساسية)، تمكّنا من تحقيق أرقامٍ إيجابيّةٍ في معدل إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج، بينما كانت أرقام السعودية والأردن سلبية، وهذا يعني أن الطريق الذي سارت عليه مصر وسورية كان هو الطريق الصحيح، بينما كان الطريق الذي انتهجته السعودية والأردن غير تنموي هذا مع العلم أن معدل نمو الناتج المحلي في الأردن والسعودية كان أعلى من مصر وسورية (تظهر الدراسات أن الارتفاع بالسعودية يعود لمساهمة العمل، بينما يعود في الأردن لمساهمة رأس المال ). ولقد قطعت مصر وسورية أشواطًا مهمّةً على طريق التصنيع لإحلال الواردات السهلة وكانا قد أصبحا على عثبة مرحلة تصدير السلع السهلة.

الملاحظةُ الثالثة: أنّ معدلات نمو الإنتاجية في مصر وسورية كانت ضئيلةً إذا قيست بمعدلات البلدان التي حققت إنجازاتٍ تنمويةً تاريخيّة، حيث تراوحت في تلك البلدان بين 3 و5. وسبب ذلك يعود إلى أن النظام السياسي في كل من سورية ومصر (النظام الناصري والنظام البعثي)، كان فيه تناقض مضر بعملية التنمية، فهو من ناحية، كان نظامًا ذا صبغةٍ قوميّةٍ تقدميّةٍ عقلانيّة، تدفع بعملية التنمية إلى الأمام. ومن ناحيةٍ أخرى، كان نظامًا قمعيًّا تسلّطيًّا لا يسمحُ بالمشاركة الشعبيّة الديمقراطيّة، وبشكلٍ يدفعُ بعمليّة التنمية إلى الوراء.

الملاحظةُ الرابعة: وهي أن أرقام نمو الإنتاجيّة في مصر وسورية كانت في تراجع، وهذا ما يبدو واضحًا في دراسة صندوق النقد الدولي:

جدول (3) دراسة صندوق النقد الدولي لإنتاجية عوامل الإنتاج (%).

 

1974-1985

1986-1996

مصر

1.7

0.3

سورية

2.6

-1.0

 

من الناحية التاريخيّة، نحن نعرف أن تناقص الأرقام في سورية ومصر عائد، لتراجع البعد التنموي وتقدم البعد اللاتنموي في نظامي البلدين السياسي، أي تراجع الصبغة التقدميّة التنمويّة واستفحال الأوضاع القمعيّة التسلطيّة الدكتاتوريّة. وهنا يبرز السؤال المحوريّ: لماذا حدث ذلك التراجع في النظام السياسي للبلدين؟

من الطبيعي أن الجواب الجاهز عند كثير من المثقفين العرب هو غياب الديمقراطية، لكن هذا في الواقع ليس جوابًا بقدر ما هو طرح للسؤال بشكلٍ آخر: أي ما هو سبب غياب الديمقراطيّة في النظام السياسي للبلدين. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ السجل التاريخي لتجارب التنمية الناجحة في البلدان الأخرى، تظهر أن الديمقراطيّة لم تكن السبب الضروري أو الكافي لنجاح العمليّة التنمويّة، فأكبر تجربة تنمويّة ناجحة في زمننا الراهن هي تجربة الصين وهي بلدٌ غيرُ ديمقراطي.

لقد أثبتت التجاربُ المختلفة أن الشرط الضروري لنجاح العملية التنموية هو القدرةُ على إقامة نظام له شرعيّةُ المقومات الثلاث لعملية التنمية بإفقٍ تحديثي، أي إقامة نظامٍ يرتكز على القومية والعلمنة والبيروقراطية العقلانية، وهذا يعني أن سبب التراجع الذي حصل في النظامين يعود إلى انهيار المقومات الثلاثة في النظامين.

بالطبع نحن نعرف أن التراجع حصل نتيجة تخلي نظامي مصر وسورية عن مبرر وجودهما، وأن التراجع لم يحصل دفعة واحدة، بل على مراحل، أي المراحل التي جردت النظامين من شرعيتهما، أي عندما تراجعا واستسلاما أمام أعداء التنمية، أي عندما تركا مهمة توصيل الملك إلى المقصلة انهمكا في نقل الرسائل بينه وبين الملكة، وكما هو معروف، فقد حصل ذلك على أربعة مراحل.

المرحلةُ الأولى: في العام 1961، عندما فشلت وحدة مصر وسورية وتم القضاء على أول محاولة حديثة لبناء الأمة- الدولة في العالم العربي.

المرحلةُ الثانية: حدثت بعد حرب 1967، عندما تصالح النظامان في مصر وسورية مع الرجعية العربية، وأصبح تمويلهما يعتمد عليها.

المرحلةُ الثالثة: حدثت بعد حرب 1973، عندما تصالح النظامان مع الولايات المتحدة الأمريكية وكان ذلك مقدمة لسيطرة الولايات المتحدة على سائر المنطقة.

والمرحلةُ الرابعة: حدثت عام 1979، عندما تصالح النظام في مصر مع الصهيونيّة، ثم ما تبع ذلك عام 1993 من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، ثم توقيع معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل.

هذه المراحل المتلاحقة، قضت بشكلٍ تامٍّ على أعمدة الحداثة الثلاث: القومية والعلمانية والبيروقراطية العقلانية.

فالصلح مع إسرائيل: كان قبولًا بوجود كيانٍ غيرِ عربيٍّ في بلاد الشام يحول دون قيام الأمة- الدولة. والصلح مع إسرائيل جمد التناقض التاريخي والأساسي في المنطقة، مما فتح الباب أمام التنافضات الثانوية، فأجج الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية، مما جعل المنطقة تربة خصبة لنشوء حركات التطرف الديني الظلامية، مما أضعف المناخ العلماني لحدود كبيرة. وفي مثل هذه الأجواء تحولت أجهزة الدولة إلى أجهزة تتحرك بتأثير الهواجس الأمنية فقط، وتبتعد بشكل كامل عن الأسلوب العقلاني.

وخلاصة القول: إنّ السبب الرئيس لفشل محاولات التنمية الاقتصادية في بلدان المشرق العربي، هو فشل الأنظمة التقدمية في مواجهة التحدي الصهيوني، مما أفقدها شرعيتها وقضى على المشروع النهضوي التنموي التحديثي.

والآن عندما ننظر إلى الوضع الاقتصادي الحالي في بلاد المشرق العربي، فإننا نرى:

  1. اقتصاد سورية ولبنان البلدان اللذان ما زالا متمسكان بخيار المقاومة، هما تحت الحصار تماماً كما هو اقتصاد غزة تحت الحصار، وكما كان اقتصاد الضفة والقطاع تحت الحصار في شتاء العام 2002.
  2. اقتصاد مصر والأردن يعانيان من ذات المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال، أي معدل بطالة عالية واعتماد على دخل المواطنين الذين يعملون في الخارج وعلى المساعدات الخارجية (قروض صندوق النقد الدولي والمساعدات الأمريكية والاوروبية والخليجية).

وإذا أردنا أن نأخذ صورة مختصرة عن الوضع في كل العالم العربي فهذا الجدول، جدول (4) المأخوذ من آخر تقرير للتنمية العربي كفيل بتقديم ذلك:

جدول (4) معدل نمو الدخل وإنتاجية عوامل

الإنتاج (TFP) 2010-2019

 

البلادالعربية

غير النفطية

البلاد العربية

النفطية

متوسط نمو دخل الفرد

-0.02

2.06

متوسط نمو عوامل الانتاج (TFP)

-2.86

-2.88

 

نلاحظُ أن كل شيء في الجدول سلبي ما عدا دخل البلاد النفطية. الأرقام السلبية في البلدان غير النفطية، مفهوم على أساس: أنها تضم ليبيا وسورية واليمن التي كانت في أوضاع حرب وحصار. أما الرقم السلبي لنمو عوامل الإنتاج في البلدان النفطية، فمهوم أيضًا: لأنها كانت دوماً كذلك، وهذا معناه أنه إذا كان سؤال التنمية في الضفة الغربية وغزة هو: هل يمكن إنجاز مهمات التنمية تحت الاحتلال؟ فإن سؤال التنمية في البلدان العربية الأخرى: هل يمكن إنجاز مهمات التنمية تحت التبعية؟

هذا يعني بالتأكيد أنه عندما تفشل الشعوب في مواجهة التحدي الرئيس الذي يواجهها، فإنها ستفشل في مواجهة أي تحدي أخر... هذه هي صورة الحاضر: فماذا عن المستقبل؟

(3)

أي حديث عن آفاق المستقبل يتطلّب أوّلًا تقييم الطريقة التي تصرف بها المنتصرون، أي كيف تصرف تحالف إسرائيل والولايات المنحدة ومن يخضع لهم من الأنظمة العربية، بعد أن تم لهم تحقيق الانتصار الكامل. كان من الواضح أن ما ركز عليه المنتصرون في البداية كان تثبيت الانتصار الذي حققوه عبر وسائل ثلاث: الأولى هي إقامة مؤسسات تتألف من البلدان العربية، إضافة إلى تركيا وإيران، تلغي الصبغة العربية للمنطقة، وتركز على ما عرف بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA). والثانية هي التركيز على الوضع الاقتصادي، حتى يصبح للصلح مع إسرائيل فوائد اقتصادية ملموسة. والثالثة قيادة المنطقة إلى الاندماج بالسوق العالمي بقيادة إسرائيل، وفق نظام "المحور والأضلاع" (Hub and Spooks)، حيث يتم ربط اقتصاد البلدان العربية ذات الطابع الزراعي والكثافة العمالية بالسوق العالمي، عبر إسرائيل الدولة الرائدة في صناعة التقنية العالية وتتمركز فيها فروع الشركات الكبرى والاستثمارات العالمية. ومن أجل تحقيق تلك الأهداف، تم عقد مؤتمرات القمم الاقتصادية في الدار البيضاء (1994) وعمان (1995) والقاهرة (1996) والدوحة (1997)، والتي كانت مهرجانات سنوية، تضم رجال الحكم ورجال الأعمال والأكاديميين للاحتفال بالسلام والرأسمالية. كما تم البدء بإقامة المناطق الصناعية المؤهلة (Qualified Industrial Zones /QIZ)، وهي مناطقُ صناعيّةٌ في الأردن ومصر، يكونُ في إمكانها تصدير سلعها إلى الولايات المتّحدة، معفاة من الضرائب الجمركية، شريطة أن تكون حوالي 10% من قيمتها المضافة مصنوع في إسرائيل. وعلى مستوى آخر تـم عقد مؤتمر من البلدان العربية وتركيا و إيران بتمويل من البنك الدولي، أسفرَ عن تأسيسِ منتدى البحوثِ الاقتصاديّة (Economic Research Forum) (ERF) وهو شبكةٌ إقليميّةٌ مكرسة لتعزيز البحوث الاقتصادية عالية الجودة، للمساهمة في التنمية المستدامة في الدول العربية وإيران وتركيا.  ولغة الأبحاث هي الإنكليزية والفرنسية، وغير مقبول استعمال اللغة العربية، لا في الأبحاثِ ولا في مداولات المؤتمرات السنوية للمنتدى. ويمكن القول: أن المحتوى الفكري لكل هذه المبادرات كان الأيديولوجيّة النيولبراليّة التي كانت سائدةً في تلك الأيام.

الازدهارُ الاقتصاديُّ الذي تحدثت عنه تلك المبادرات، على أنه النتيجة الطبيعية للسلام والعامل الذي سيعمل على توطيد السلام لم يتحقق، فالذي أغفلته كل تلك القمم وكل تلك المبادرات وكل تلك الأبحاث ذات "الجودة العالية"، هو حقيقةُ أن الاقتصاد الإسرائيلي لم يكن اقتصادًا عاديًّا، يخضع لقوانين العرض والطلب كاقتصاد بقية البلدان الأخرى، فهو اقتصادُ كيانٍ يُسخّر كل إمكاناته لأولويات التوسع الجغرافي والبشري ويعمل على تطويع آليات السوق، لخدمة تلك الأهداف. ولقد تمكّن عبر عقود من النجاح في ذلك؛ لأنّه يحصل على مساعداتٍ ماليةٍ هائلةٍ من الولايات المتحدة وأوروبا، كما يحصلُ على الدعم السياسي من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق إذا نظرنا إلى علاقة الاقتصاد الإسرائيلي باقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة من جهة، والاقتصاد الأردني من ناحية أخرى، فإننا نرى أم مسار تلك العلاقة كان على عكس ما كان متوقّعًا وفق النظرية الاقتصادية ووفق ما حصل مع علاقات بلدان أخرى مماثلة، ففي أكثر من دراسة أنجزها معهد ماس في السنوات الماضية، اتّضحَ أن مسار العلاقة  الاقتصادية بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي الذي كان من المفروض أن يكونَ باتجاه "التقارب" (Convergence)، كان في الواقع باتجاه "التباعد" (Divergence)، وهذا ما يظهر واضحًا من جدول (4). فتقريبًا خلال العقد الأول من الاحتلال كان مسار العلاقة باتجاه التقارب، ولكن بعد ذلك انقلب المسار إلى التباعد، والذي استمر في التزايد خلال العقود الثلاث الماضية.

أما الجدول (5)، فيظهر أن علاقة الاقتصاد الأردني بالإسرائيلي   لها مسار تباعدي، منذ توقيع معاهدة السلام، وما يبدو على أنه خروج عن ذلك المسار في العشرية الأولى من القرن، كان بفضل انتفاضة الأقصى، والتي تسببت في حدوث نمو سلبي في الاقتصاد الاسرائيلي في سنوات 2001، 2002، و2003.

جدول (4)

نسبة متوسط الدخل الحقيقي للفرد في الضفة والقطاع للفرد في إسرائيل

1967-1966

9%

1975-1976

13%

1985-1986

14%

1995-1996

10%

2005-2006

7%

2010-2011

7%

2020-2019

7%

جدول (5)

نسبة متوسط الدخل الحقيقي للفرد في الاردن للفرد في إسرائيل

1970-1979

13%

1980-1989

18%

1990-1999

11%

2000-2009

12%

2010-2021

10%

 

هذه الفترةُ التي كان فيها صوتُ الحديث عن فوائد السلام الاقتصاديّة عاليًا جدًّا، بينما كان صوتُ الإنجازات الاقتصاديّة على أرض الواقع خافتًا جدًّا، انتهت بانتفاضة الأقصى. وخلال السنوات العشرين التي مرّت على ذلك، كانت السمةُ العامةُ التي صبغت الوضع السياسي في إسرائيل هو الجنوحُ نحو اليمين بشكلٍ متسارع، حتى ما إن انتهت العشرية الثانية من القرن حتى كان ما يسمي عادة باليسار الإسرائيلي قد تلاشى تمامًا، وها نحنُ الآن نشهدُ موجةً جديدةً من عمليّة السلام يقودها اليمين الإسرائيلي ترتكز على أساسين: الأول: إهمال الجانب الفلسطيني كليًّا والتركيز على بلدان الخليج وبلدان المغرب العربي، والثاني: العمل على إضعاف الهوية العربية للمنطقة، ليس عبر الحديث عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل عبر إحياء التراث التوراتي الديني الذي تجسد في عقد اتفاقيات إبراهام بين الإمارات والبحرين وإسرائيل ثم انضمام المغرب و السودان .

من ناحيةٍ ظاهريّةٍ يبدو أنّ هذا الوضع يمثّلُ انتصارًا نهائيًّا وحاسمًا، للتحالف الذي قادته الولايات المتحدة منذ منتصف خمسينات القرن الماضي مع إسرائيل من ناحية، ومع المملكة العربية السعودية ومشايخ الخليج من ناحية ثانية. ولكن بقليل من التمعن يظهر أن في الواقع الحقيقي أشياء أخرى. فنحن الآن نعيش في أجواء حقيقتين من الصعب تجاهلهما، لأنّهما يؤدي دورًا محوريًّا في تشكيل طبيعة الأحداث السياسيّة والاقتصاديّة في المنطقة بشكلٍ يوميّ.

الحقيقةُ الأولى: هي أن الوضع الاقتصادي في بلدان المشرق العربي كما هو الآن غير قابل للاستمرار، فهو وضعٌ مأزومٌ ويزدادُ تأزّمًا، بمرور الأيام؛ لأنّ الحكومات القائمة هي جزءٌ من المشكلة وليست جزءًا من الحلّ. ومن المتوقع أن تشهد المنطقة في المستقبل القريب موجةً أخرى من الثورات التي أطلق عليها اسم الربيع العربي. ومن الممكن أن يكون مصير الموجة القادمة مختلفًا عن مصير السابقة، فلا يتم اختطافها من قبل الولايات المتحدة ودول الخليج وتجييرها لصالح إسرائيل.

الحقيقةُ الثانية: أنّ تحالف المنتصرين، أي تحالف الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وتحالف الولايات المتحدة مع السعودية من جهةٍ أخرى، أصبح في الواقع تحالفًا غير مستقرّ، ويعاني من عوامل بدأت تعمل على إضعافه، وذلك نتيجةً لحصول تحوّلاتٍ سياسيّةٍ مهمّةٍ في كلّ بلدٍ من البلدان الثلاثة لا تعملُ لصالح التحالف.

نستطيع أن نرى طبيعة هذه التغيرات من ملاحظة:

- لم يحصلْ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة منذ عام 1860، نزاعٌ يشكّكُ في شرعيّةِ انتخابات الرئاسة الأمريكية، كالذي حصل في انتخابات 2020، حيث ما زال هناك حتى اليوم، أي بعد مرور عامين على الانتخابات، قطاع عريض من المواطنين الأمريكيين لا يعترف بالرئيس جو بايدن رئيسًا شرعيًّا للبلاد.

- لم يحصل منذ عام 1948 وقيام دولة إسرائيل أن تمَّ إجراء خمس انتخابات برلمانية في فترة أربع سنوات، حتى يتم تأليف حكومة مؤيدة من غالبية في الكنيست، كما حصل في 2019-2022.

- لم يحدثْ منذ تأسيس المملكة العربيّة السعوديّة عام 1932 أن حدث نزاع على وراثة الملك، وهو ما زال حيًّا شملت اعتقالات واغتيالات وسجون وتعذيب في داخل الأسرة السعوديّة وخارجها، كالذي حصل وما زال يحصل منذ أن أصبح سلمان بن عبد العزيز ملكًا عام 2015.

اسمحوا لي هنا أن أتعرّض بشيء من التفصيل لهذه الأحداث السياسية، لاعتقادي بأنّها بالغةُ الأهميّة وفهمها يساعد على فهم طبيعة المرحلة القادمة.

عندما ندقق في أسباب هذا الاضطراب السياسي – الاقتصادي في البلدان الثلاثة، فإنّنا في الواقع نتعرّفُ على مثالٍ ساطعٍ لمقولة "مكر التاريخ"، فإذا كان الانتصارُ الذي حقّقه التحالف الذي قادته الولايات المتحدة مع إسرائيل ومع المملكة السعودية، قد تمكّن من هزيمة المشروع التنموي العربي، عبر هزيمة "القوميّة العربيّة"، فإنّ المشاكل التي تعاني منها الآن كل من الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية هو ضعف وتأكل الرابطة القومية، أو وضع "الأمة- الدولة" في كل منها.

بالنسبة للولايات المتحدة التي هي بلدُ مهاجرين، إلا أن ما صهر هؤلاء المهاجرين في بوتقةٍ واحدة (The Milting Pot) هو القوميّةُ الأمريكيّةُ التي تركز على أن أفراد الشعب الأمريكي يتشاركون في حلمٍ واحد (The American Dream) وطريقة حياة واحدة (American Way of Life  ) ولهم نفسُ الحقوق والواجبات. أمريكا هي البلد الوحيد في العالم الذي يأتي له المهاجر من أي بلد وبعد سنوات يتكلم عن واشنطن وجفرسون وهاملتون، على أنهم أبائه المؤسسون (The Founding Fathers).

في العقود الثلاثة الماضية حدث تناقض صارخ بين هذه الرابطة القومية القوية وبين حركة العولمة التي قادتها الولايات المتحدة، هذا التناقض أدى إلى إفقار الطبقة العاملة الأمريكية بشكل عام، مما حطم "الحلم الأمريكي" لقطاع كبير من المجتمع، كذلك أدى إلى تدفق موجات كبيرة من المهاجرين الذين احتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم وقاوموا عملية ألأمركة وأصبحوا يطالبون بمجتمع "متعدد الثقافات" (Multiculture)، هذا في الوقت الذي كانت العولمة على نطاق العالم قد مهدت الطريق لعالم "متعدد الأقطاب" يلغي وحدانية القطب الأمريكي.

هذا التناقضُ قاد إلى نشوء ظاهرة دونالد ترامب. ظاهرة انتحاب رئيس جمهوريّة لا يؤمن بقواعد الحكم المتعارف عليها في الولايات المتحدة، ولا يحترم كل مؤسسات المجتمع الأمريكي، من المؤسسة التنفيذية، إلى المؤسسة التشريعية، إلى المؤسسة القضائية، إلى المؤسسة الإعلامية، وهو بالطبع لم يظهر من فراغ، بل جاء معبّرًا عن شرائحَ واسعةٍ من المجتمع الأمريكي، أصبحت لا تحترم تلك المؤسسات. الشرائح التي تدهور وضعها الاقتصادي بشكلٍ حادٍّ والشرائح التي تقاوم قبول مجتمع متعدد الثقافات بحكم تعصبها العنصري، وهذا قاد إلى انقسام حاد في المجتمع الأمريكي يصفه كثير من المعلقين الأمريكيين على أنه الأخطر منذ الحرب الأهلية، الذي من الممكن له أن يتحول إلى صراعاتٍ يغلب عليها طابع العنف.

بالنسبة لإسرائيل، فمن المعروف أنه منذ تأسيسها وهناك تناقضٌ صارخٌ في معنى "الأمة- الدولة" بالنسبة لها، وهو تناقضٌ موجودٌ في طبيعة الحركة الصهيونية، فالاعتقاد الصهيوني بأن اليهود يشكلون دينًا وشعبًا واحدًا، يتعارضُ مع مفهوم القومية في سياق بناء "الأمة-الدولة". وفي عام 2018 أقر الكنيست قانون القومية وفيه تبنت إسرائيل بشكل قانوني أن نظامها السياسي مبنيٌّ على أساس "الدين- الدولة"، وليس "الأمة-الدولة"، فلقد جاء في ذلك القانون أن "الحق في ممارسة تقرير المصير القومي" في إسرائيل هو حكرٌ على اليهود فقط"، وبذلك تكون إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تشرع التمييز الاستيطان اليهودي كقيمة قومية" وفرض على الدولة "العمل على تشجيعه وتنميته". ويمكن القول: إن قانون القومية هذا العنصري بشكل قانوني، وأكثر من ذلك، فقانون القومية يشرّع أيضًا التوسّع، حيث "جاء مطابقًا للممارسات الصهيونية طوال القرن الماضي التي وصفها الدكتور فايز صايغ (شقيق الدكتور يوسف) قبل أكثر من نصف قرن عنما قال: يجب فهم الاستعمار الصهيوني على أنه "تصفية عنصرية"، وذلك لأنّ الاعتقاد الصهيوني بأن اليهود يشكّلون عرقًا وشعبًا واحدًا له "ثلاث نتائج طبيعية: الفصل العنصري الذاتي، التفرد العنصري، التفوق العنصري".

وفي الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة، نجحت عناصرُ يمينيّةٌ متطرّفةٌ فاشيّةٌ بشكلٍ أزعج أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة، حتى أنهم أخذوا يتباكون على "أن إسرائيل كما كانوا يعرفوها لم تعد موجودة".

بالطبع بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين: إسرائيل هي ما زالت كما نعرفها منذ عام 1948، لم تتغير ولم تتبدل، ولكن الجديد أن ممارساتها الآن، أصبحت مضرة، ليس بالفلسطينيين والعرب وحدهم، ولكن أخذت تضر بمصالح بعض من مواطنيها اليهود ومؤيديهم في الخارج.

بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فلقد كان النظام السياسي فيها قائماً على أساس "العائلة-الدولة"، وكان هذا النظام يعتمد على دعم الوهابية في الداخل والولايات المتحدة في الخارج، وكما هو معروف، فلقد كان النظام متناقضًا مع نفسه بشكلٍ فاضح، فمن ناحيةٍ كان نظامًا قمعيًّا تسلطّيًّا دمويًّا من مخلفات القرون الوسطى، ومن ناحيةٍ أخرى، كان يعمل على فتح المدارس والمستشفيات وإرسال آلاف الطلبة، لتلقي العلم في جامعات أوروبا والولايات المتحدة، أي أنه كان نظامًا يسعى لإقامة مجتمعٍ فيه اقتصادٌ حديثٌ وتقنيّةٌ متقدّمة، بينما علاقاته الاجتماعية والسياسية مجمدة في القرون الوسطى، وكطبيعة كل الأنظمة المتناقضة، فهي دومًا عرضه للهزات والانفجارات السياسية والاجتماعية، وكما هو معروفٌ ففي العقود الثلاث الماضية، حدث انفجاران في النظام انفجار بن لادن ضد الولايات المتحدة وانفجار الأمير محمد بن سلمان ضد الوهابية، ومما لا شكَّ فيه أن تأثير هذين الانفجارين ما زال يتفاعل ويضع مستقبل النظام السعودي أمام أخطر تحدٍّ واجهه منذ نشأته قبل أكثر من تسعة عقود. هذه التطوّرات التي تعملُ على إضعاف النسيج السياسي لكل دولةٍ من الدول الثلاثة على حدا، بدأت أيضًا في إضعاف الرابطة بينهم، ولقد ظهر ذلك واضحًا في الموقف من الانتخابات الأمريكية لعام 2020، ثم في الموقف من الحرب في أوكرانيا، وأخيرًا في الموقف من أزمة أسعار الطاقة، هذا لا يعني أن التحالف قد تحطم وانتهى. لا أنه ما زال موجودًا وقويًّا وفعّالًا، ولكن بلدانه أصبحت تعاني من اضطراباتٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ تعملُ على إضعافه.

من كل ما تقدم دعني، أختم حديثي بالتركيز على النقاط التالية:

1. في بلدان المشرق العربي يرتبطُ موضوعُ التنمية الاقتصادي، بموضوع مقاومة المشروع الصهيوني ارتباطًا عضويًّا، على أساس أن أعمدة الحداثة الثلاث: القومية والعلمانية والبيروقراطية العقلانية.. لا يمكن بناؤهم إلا في أجواء المقاومة. مقاومة المشروع الصهيوني ليس بهدف "تحقيق السلام العادل والشامل وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف"، فهذا الهدفُ متناقضٌ مع ذاته، فلا يمكنُ أن يكون هناك سلامٌ عادلٌ مع الصهيونيّة كما لا يمكن للصهيونية أن توافق على إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّة. لهدف الشرعي الوحيد هو هزيمة المشروع الصهيوني بشكلٍ كاملٍ ونهائيّ حتى يحصل الفلسطينيون في فلسطين وفي بلدان الشتات على حق تقرير المصير.

2. مقاومةُ إسرائيل وتحقيق التنمية يتطلب قيام أنطمة سياسيّة جديدة في بلدين أو ثلاثة من بلدان المشرق، تتمتع بالشرعية المبنية على أساس النظام السياسي التعددي الذي يخطو بشكل تدريجي نحو بناء "الدولة – الأمة"، ونحو تكريس المشاركة الديمقراطية للمواطنين، ويعمل على تحقيق التكامل الاقتصادي الموجود بشكل طبيعي في بلدان المشرق.

هل هذا مجردُ حلم؟

ربما.. ولكن هناك ثلاثة حقائق تجعل المراقب يعتقد أن في الموضوع شيء أكثر من الحلم.

الحقيقةُ الأولى: أنّ الصهيونيّة غير قادرة على تبني مشروعًا حقيقيًّا للسلام، وهذا الانزلاق المستمر تجاهَ الفاشية هو نتيجةٌ طبيعيّةٌ لذلك، وذلك هو نقطة ضعفها المركزية.

الحقيقةُ الثانية: هي أنّ الوضع الراهن في بلدان المشرق العربي غير قابل الاستمرار، وكل الدلائل تشير إلى أن موجة جديدة من ثورات الربيع العربي على الأبواب.

الحقيقةُ الثالثة: هي أنّ تحالف الأعداء الذي دعم المشروع الصهيوني طوال العقود الماضية، بدأت تبدو علية مظاهر التصدع.

الحقيقةُ الرابعة: هي أنّ المقاومة في لبنان وفلسطين لم تتوقف، بل إنّها استمرت وفي أصعب الظروف وتمكنت دومًا من التكيف مع الظروف وابتكار أساليب وطرق جديدة، ولقد كرست في الأونة الأخيرة أعمالًا بطوليّةً لا يمكن وصفها، إلا أنها من نسج الأساطير، ولا بد أن تقود هذه الأعمال البطولية إلى خلق مناخ سياسي جديد فيه وضوح للرؤية شبيه بالذي تمتع بها ذلك الجندي الفرنسي في صباح يوم الواحد وعشرين من كانون الثاني للعام 1793.

وفي هذا السياق، من الممكن أن نتذكر قول الشاعر العربي:

والليالي من الزمان حبالى    مثقلات يلدن كل جديد

* محاضرة ألقيت بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 - معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).