لم تكن عملية القدس البطولية بالأمس أول فعل فدائي للفلسطينيين ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، ولكن المؤكد أنها صنعت أثرًا نوعيًا في ذاكرتهم وذاكرة عدوهم، والأمر هنا لا يرتبط بفكرة الثأر، فمجزرة جيش العدو في مخيم جنين لم تكن عملًا عسكريًا أو ما يمت لذلك بصلة؛ محض جريمة ارتكبتها عصبة من الغزاة المجرمين ضد سكان المخيم؛ مجسدة هوية هذا العدو ومنظومته وكيانه ومشروعه وفكرته عن القتال؛ غارات على بيوتنا وأهلنا تهدف لترويعنا بالقتل، وإنهاء تمسك هذا الشعب بالدفاع عن بقائه في أرضه.
لا مشكلة في انتقام الفلسطينيين من عدوهم ومعاقبة المستوطنين الصهاينة وتدفيعهم ثمن جرائمهم، ولكن هذه العملية كما كل فعل للمقاومة في فلسطين؛ مهما بدا صغيرًا يتصل أساسًا بهدف واحد يجمع الفلسطينيون وهو: هزيمة مشروع الغزو الصهيوني واستعادة سيادتهم على مصيرهم وأرضهم، ومع ذلك فإن لسرعة رد فعل الفلسطينيين قيمته في ميزان الصراع مع العدو؛ فلقد حصلت منظومة أمن العدو على الجواب اللائق لجريمتها في جنين، وجاءت العملية لتقول بكل ووضوح: أن إرادة المقاومة لدى الفلسطينيين لم تمس، بل على العكس تمامًا؛ لقد أثمر تصعيد العدو لمزيد من التطور في نوعية العمليات التي ينفذها الفلسطينيون. صحيح أنه ليس في كل مرة يستطيع الفدائي الفلسطيني تنفيذ رد بهذا النجاح النوعي وهذا التقارب الزمني، ولكن هذه المرة كان تحويل بيانات جيش العدو وأوهام أقطاب حكومته لهراء في نظر جموع المستوطنين كما في نظر الفلسطينيين؛ أمر فعال جدًا في هذه الجولة من الصراع، والأهم كان وجود من هو مستعد للتضحية بروحه كي يرتق بعض من جرح الأمهات في مخيم جنين وفي كل بيت فلسطيني.
أهمية هذا الجانب المعنوي من صراع يدور بالحديد والدم والنار وعلى أرض الواقع لا في ندوة ثقافية أو في مساحة المجاز؛ تعود لطبيعة الفعل الفلسطيني ضد العدو في ساحة الضفة المحتلة، وكون هذا الفعل قد استند بالأساس في العقد الأخير لعمليات المنفذين الأفراد، الذين يفرزهم هذا المجتمع وقواه الحية، وشهدوا جرائم العدو وكانوا رسل وسلاح رد الشعب الفلسطيني عليها.
هذا النهر الدافق من الفدائيين، واحد تلو آخر، لحوالي عقد من الزمان لم ينقطع، ولم يجف عطاؤه، ولم يكف عن إحراق الكيان الصهيوني والتهام أعصاب منظومته الأمنية؛ رغم تقطيع أوصال البنى التنظيمية، ورهانات سياسات ومقولات تجفيف منابع الإرهاب وضرب حواضنه وهراء إعادة خلق الفلسطينيين الجدد.
نوع واحد من الفلسطينيين الجدد سيذكرهم التاريخ كعنوان لهذا العقد، هم فدائيون أفراد، تعلموا جيدًا في مدرسة هذا الشعب، وكانوا التنظيم بوعيه وعقيدته وبنيته مجتمعة في فرد أو بضعة أفراد، وجيش التحرير وجنوده وضباطه وقنوات إمداده وتسليحه، وهيئات إعلامه وبيانه، كل هذا وأكثر كأنه الفدائي الفلسطيني الجديد، الذي لم ينفصل عن ذاك القديم إلا بما تعلمه عن متاريس العدو الهادفة لهزيمته وكبح فعله، وبما حققه من تغلب ذكي على منظومة العدوان؛ فالمسافة بين المنفذ ورقاب المستوطنين قرار، لا شبكة اتصالات ليراقبها العدو، ولا هرم تنظيمي يلاحقه أمن العدو ويحطمه، فقط قرار اتخذته فلسطين في عقل المنفذ الفدائي فمضى لتحقيقه.
إن سؤال اليوم ليس حول هوية هؤلاء الفدائيين الذين حموا روح المقاومة في هذا الشعب، ولكن حول استعدادنا الجمعي، كأفراد وفصائل وقوى لنكون الدرع والبيئة والحاضنة وخط الانسحاب وممر الهجوم للفدائي، وقناة التسليح والإمداد لفعله، وشبكة الأمان والحماية لبيته وبيت أهله، ولصورته التي لا زالت حقبة أوسلو تنشب أظافرها في حوائط صمودنا ووعينا محاولة تمزيقها.
بقاء هذا المجتمع بكل مركباته لن يقوم على التصفيق لمنفذ العملية القادمة، ولكن على الاستعداد لفرش دربه، وتمهيد طريقه، بكل فعل مقاوم، وكل تحرك يؤذي العدو ويستنزفه، وبشطب كل كلمة وقرار كتب ليمحو ذكر وذاكرة الشعب المقاتل؛ شعب الشهيد خيري علقم؛ شعب فلسطين.