Menu

في تجديدِ الفكرِ القوميِّ العربيّ

ماجد الياسري

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

في عالمِ اليوم حيث يتسارعُ سيرُ التاريخ ويواجه العقلُ العربيُّ تحدّياتٍ جديدةً ونوعيّةً غيرَ مسبوقةٍ في عالمٍ يصغر متحوّلًا إلى قرية، ومتغيّراتٍ ديموغرافيّةٍ بتعاظم نسب الشباب في البنية المجتمعيّة، وتزايد نشاطاتهم الاحتجاجيّة في البلدان العربيّة، تُطرحُ أسئلةٌ مشروعةٌ منها: هل يؤدي الكثير من القديم فكرًا وممارسةً إلى نتائج مختلفة؟ ولماذا التجديد أصلًا؟ وما هي المقاربة التي يمكن اعتمادها وبالضرورة أن تكون نقديةً للخوض في مساراتٍ أو متاهاتٍ أحيانًا التي يمكن أن تجعل من مخرجات عمليّة المراجعة والتجديد لصيرورة القوميّة وتطوّرها ظاهرةً تاريخيّةً عاملَ قوّةٍ في تغيير الواقع العربيّ الحاليّ المأزوم؟

 وواجه العالمُ العربيُّ دولًا وشعوبًا قوى ضاغطةً من الخارج منها نتيجة العولمة الفكرية وانتشار الثقافات المتنوعة خاصة بين أوساط الشباب والجاليات العربية في بلدان المهجر التي تعد بالملايين، وثانيها تأثير العامل السياسي الاقتصادي الذي خلق أجواء ومسببات للتقارب الإقليمي العربي لمعالجة تحديات سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية. ويحدث كل ذلك في أطار الصراع الدولي الحالي المثير للجدل بين هيمنة القطب الواحد الذي هو استمرار لأيديولوجية المحافظين الجدد المتغطرسة التي رسمت استراتيجية الامن القومي الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة ومنها احتكار أسواق الطاقة وسلاسل التوريد والتكنولوجيا الحديثة وسياسة تغيير الأنظمة العربية عبر التدخل العسكري والاحتلال ودعم الهويات الفرعية الطائفية أو الاثنية على حساب الهوية الوطنية والقومية وتعزيز  الأمن الإسرائيلي والتسارع في تطبيق سياسة التطبيع الشرق أوسطية كبديل لحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها ديمقراطيا والتيار الدولي الآخر الذي تقوده الصين وروسيا نحو عالم متعدد الأقطاب وإنهاء هيمنة  الدولار في تسعير موارد الطاقة  والتعامل العادل مع إنجازات الثورة التكنولوجية والرقمية الهائلة التي تؤشر مع  بروز دور الذكاء الاصطناعي والروبوتات على متغيرات غير مسبوقة في تطور قوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية التي تنسج خلال عملية إنتاج الخيرات المادية.

من الجانب الآخر اتضحت مظاهر التحدي الذي يواجه شعوب البلدان العربية، حيث تتعمق سمات الخصوصية لكافة البلدان العربية والتمايز والتباين في مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي بينها وتغول ثقافة التعصب المتشددة التي تركز على المكونات الطائفية والاثنية وتلغي مفهوم الوطن والقومية إلى فرض نموذج "الدولة – المكون" كامتداد للعملية التاريخية التي مرت بها الشعوب العربية بين جدلية الوحدة والانفصال، منذ انتهاء الإمبراطورية العثمانية ومخرجات مؤتمر باريس في 1919، إلا أن تطورها عربيا يختلف عما جرى في أوروبا في أعقاب مرحلة النهضة، نتيجة صعود الطبقة البرجوازية لسببين رئيسين الأول أن أولى الحضارات في العالم قد ظهرت في منطقة الشرق الأوسط تميزت بهيمنة الدولة على قوة الإنتاج الرئيسية وهو الري ونظام ديني وإداري معقد والثاني مرتبط  بواقع الهيمنة الكولونيالية الذي أعقب السيطرة العثمانية  والذي خلق اقتصاديات تابعة ونمطا رأسماليا مشوها ريعيا في التنمية، خاصة في مجالات استخراج وتسويق الطاقة والذي كان موضع اهتمام بالدراسة والتحليل من قبل العديد من المفكرين الماركسيين العرب، وشهدت أيضا تشكل تيارات قومية كان لها دور فاعل في حركة التحرر الوطني العربية ضد الهيمنة والاستغلال الاستعماري.

وشهدت المرحلة السابقة انهيار الأنظمة العسكرية الداعمة للثقافة الطوباوية الشمولية الشعبوية عن الامة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج ذات الرسالة الخالدة والتي استخدمت في فترات لمحاربة قوى اليسار العربية ومصادرة حق الشعب العربي الفلسطيني في تحقيق حل ديمقراطي عادل على أرضه المغتصبة وفرضت قمعا ممنهجا ضد شعوبها وشنت حملات تصفية وإبادة إثنية ضد القوميات الأخرى كالشعب الكردي في العراق على سبيل المثال. وفي سياق الحرب الباردة التي سادت المشهد الدولي بعد خمسينيات القرن الماضي اهتمت الدوائر الإمبريالية ببعض التيارات القومية والإسلامية عبر عمليات اختراق واحتواء وتدجين هذه التيارات خاصة تلك التي أتبعت سياقات متطرفة كأساس أيديولوجي لسياساتها التنظيمية والتعبوية ومن ثم تغيير اتجاهات عملها بعد 2003 عبر العمل على الغاء وجود التيارات القومية عبر السير بتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير ودعم الاتجاهات الطائفية والصراعات الاثنية والتطبيع لتعزيز أمن إسرائيل.

ويتميز الفكر القومي العربي بتعدديته مثل جميع  التيارات الأخرى الإسلامية واليسارية والليبرالية، ومن هنا، فالتجديد يبدأ من تقبل هذا الواقع الموضوعي وتحويله إلى عامل قوة يسهم في إشاعة حوار ديمقراطي وعميق داخل التيار القومي وفي رسم تحالفاته السياسية والمجتمعية وتحديد  خارطة طريق لنشاطاته التنظيمية والفكرية والدعائية والتحريضية المستقبلية من أجل التغيير الشامل للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري في البلدان العربية عبر اتباع المقاربة الديمقراطية التي ترفض الشمولية والشعبوية وتدعو إلى إقامة أنظمة عربية ديمقراطية توفر الأمن والعدالة الاجتماعية لشعوبها مع تنسيق عربي فعال على المستويات الرسمية والشعبية. ومن أحد أهم مفرداتها البرنامجية الرئيسية هو التضامن ودعم السياقات التي يطرحها ممثلي الشعب العربي الفلسطيني بتياراته المختلفة من أجل دولة فلسطين الديمقراطية الكاملة السيادة على أراضيها المحتلة.

أما على الصعيد ال قطر ي فترسم التنظيمات القومية سياساتها على ضوء الخصوصيات السياسية والاقتصادية والثقافية والتركيبة القومية لكل بلد عربي وباعتماد الديمقراطية والشفافية كأساس في تخطيط وإدارة البرامج السياسية والاقتصادية والخدمية والاعتماد على الجماهير خاصة الشباب والنساء ومن أجل وطن كامل السيادة سياسيا واقتصاديا وشعوب مزدهرة تنعم بالرفاهية والسلام والحرية الثقافية وعلى أساس مبدأ المواطنة المتساوية كاملة الحقوق والعدالة الاجتماعية وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان.

لقد كشفت مسيرة التيارات القومية العربية بشكل خاص وجميع التيارات والحركات السياسية الأخرى التي استلمت السلطة في القرن الماضي فشل سياسات معاداة الديمقراطية كممارسة أو كثقافة ومنظومة قيم في تقدم المشروع العربي الوحدوي. كما ستكشف العقود القادمة من القرن الحالي  قدرة التنظيمات والنخب المؤمنة بحق الشعوب  العربية في تقرير مصيرها باتحاد اختياري طوعي كتجسيد للتراث التاريخي والتكوين النفسي المشترك، على مواجهة التحديات والعقبات التي ستقف أمامها والتي تحتاج إلى تحالف سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعتمد على القيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والمصالح المشتركة والرافضة للهيمنة الدينية أو الطائفية أو الاثنية. هذا المشروع القادر على توفير متطلبات التنمية المستدامة الشاملة المعتمد على التنسيق والتكامل بين البلدان لتحقيق متطلبات الأمن الوطني والقومي بكافة أشكاله ومنها دعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل حق تقرير المصير وقادر على تطوير برامج وآليات  لتنظيم وتفعيل الطاقات التي يمتلكها الملايين من الشباب والتي بعضها تقع حاليا على هامش العملية الإنتاجية وعبرت عن غضبها حول أزمة الأنظمة العربية الحالية بالتظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات السلمية  ولجأت بعد تصاعد أشكال القمع والتصفية الجسدية إلى الهجرة إلى الخارج بدلا من العيش في بلدانها الأم التي أخفقت في توفير الديمقراطية والرفاهية والعيش الكريم.

وبسبب الواقع المعقد للواقع السياسي والاقتصادي والثقافي للبلدان العربية يتعذر تشخيص نموذج واحد شامل للوحدة العربية المستقبلية كما كان الراي السائد التقليدي في القرن الماضي، حيث انهارت جميع صيغ الوحدة العربية بدأ في 1958 بين مصر وسوريا وميثاق 17 نيسان 1963 واتحاد الجمهوريات العربية عام 1971 وميثاق العمل الوطني بين العراق وسوريا في 1978 وكانت التدخلات السياسية والعسكرية وشن حملات إعلامية ضد بعضها البعض سببا رئيسيا لهذا الفشل، كما لم يتبلور شكلا فاعلا من العمل العربي المشترك أو مبادرات التضامن العربي بل كان الغالب هو التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية الأخرى وفرض أشكال من الوصاية على قرارات القوى الوطنية والديمقراطية فيها وبضمنها  القرار الوطني للشعب العربي الفلسطيني.

من المنظور التاريخي سيشهد النضال من أجل الوحدة العربية طابعا ارتقائيا معقدا من مراحل أدنى من التعاون والتنسيق إلى مجالات أوسع للعمل المشترك وصولا إلى درجات أعلى من البناء الوحدوي الذي قد يتخذ أشكالا من النظام الفيدرالي أو صيغ أخرى من الصعب توصيفها أو رسم هيكليتها أو تحديد بناءها القانوني والدستوري في المرحلة الحالية بل يبقى النقاش النظري مفتوحا ومرافقا لنضج مسيرة التيارات القومية العربية الذي بالضرورة أن يكون مستقلا وخارج دوائر التأثير الإقليمية والدولية.

ومن الجدير بالإشارة هنا إلى أن السيناريوهات الثلاث التي هي خلاصة  تقرير "استشراف مستقبل الوطن العربي" الذي أعده مركز دراسات الوحدة العربية حول صيغ العمل النهضوي العربي الذي نشر في شباط 2010 بحاجة إلى التدقيق ومراجعة ما فيه من صياغات فكرية ونظرية.