لا أعلمُ ما هو مصيرُ حكومة بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم عند صدور هذا المقال، وذلك في أعقاب قرار المحكمة العليا بإلغاء تعيين آرييه درعي وزيرًا للداخليّة والصحّة وتهديد حركة شاس بالانسحاب. ومع ذلك، فكلُّ ما يرد في المقال، يصلح، من وجهة نظري، لمواجهة أيّ حكومةٍ في دولة الاحتلال؛ فبينما بلغ الاستقطاب داخل إسرائيل أشده، إلا أن الموقف منا، دمنا وحقوقنا ووجودنا، ما زال محلَّ إجماعهم الصهيوني!
حين شرعتُ في الكتابة حولَ آليّات المواجهة ووسائلها، بحثتُ طويلًا، واطّلعتُ على العديد من المقالات وأوراق العمل واستمعت لمواقف قادة سياسيّين وزعماء حزبيّين، وجدت كلامًا معروفًا، لا جديدَ فيه، فقلتُ في نفسي مستدركًا: ومن قال إنّ مواجهة الفاشية والعنصرية والاحتلال تحتاج آليّاتٍ جديدةً غير مفكّر فيها؟ ومن قال أصلًا أنّ المشكلة تكمنُ في الآليات؟ كلّ ما نحتاجه حقًّا طرقًا مختلفةً للتفكير والتخطيط، وليس تبديل الأدوات والوسائل فحسب. قد لا نغيّر في الوسائل ولكن علينا أن نعيد النظر في علاقة الوسائل بالغايات؛ إذن، سؤالنا ليس ماذا نفعل فقط؟ بل، لماذا نفعل أحيانًا؟ وكيف نفعل؟ ومتى نفعل؟ ومن الذي يقرر طبيعة الفعل ومداه وجدواه؟
للأسف غالبًا ما تنطوي ردود فعلنا على أي حدثٍ أو موقفٍ من لدن عدوّنا على شحنةٍ عاليةٍ من الانفعالية والغضب والرغبة في الانتقام السريع؛ فلا نخضعُ أفعالنا لحسابات الربح والخسارة، ولا نتريث قليلًا لنفكّر ونتأمّل لتوخّي العواقب أو لتعظيم النتائج أو لتلافي الخطأ. نستسهلُ الحلول ذات البريق الرنان ونعبّر عن رغبةٍ طاغيةٍ في حلِّ كلِّ المشاكل دفعةً واحدة. واللافت، أنّنا حين نجترح الحلول نظريًّا وفي الخطب، عوضًا عن محاولات تجريبها وتطبيقها وتصويبها، تصبحُ مادةً لتراشق الاتّهامات فيما بيننا، والحطّ من شأن بعض أشكال الفعل لصالح أشكالٍ أخرى ليس لنجاعتها في مواجهة المحتلّ، وإنّما لأنّها تمنح فاعلها والداعي إليها والمحرّض عليها ميزةً تفاضليّةً لا أكثر.
كلّ الأحوال، هناك من وما يجب وتجب مواجهته قطعًا. هناك حكومةٌ يمينيّةٌ فاشيّةٌ تحملُ برنامجًا أطلقت عليه "حسم الصراع" بالاستناد إلى أوهامٍ توراتيّةٍ ومسوّغاتٍ عقديّةٍ وإحساسٍ بالنشوة والتفوّق وبأنّ أحدًا لن يحاسب أو يهتم. وقد يكون شعارنا درء المفاسد، وليس كسب المنافع في هذه المرحلة، فالعاصفة شديدة والأخطار محدقة، والعالم مشغولٌ بأزماته والإقليم سادر في غيه وتطبيعه. وقد لا تكون المواجهة إلا بالحيلة وحسن التدبر، بتفويت الفرص على العدو، ومواجهة عدوٍ شرسٍ لا تعني أوتوماتيكيًّا استخدام أدواتٍ عنيفةٍ بالضرورة ما لم تكن مفيدة. في جميع الأحوال علينا أن نأتيه من مأمن، من حيث لا يتوقّع، ذلك أنّ أخطر المواجهات تلك التي يتوقّعها العدوُّ بسهولة، فيتجهّز لها، ويردّها ويضاعف الخسارة.
وقبل أن أتناول بعض الآليّات والوسائل التي يقترحها البعض للمواجهة، سوف أتوقّفُ قليلًا عند بعض الإشكاليّات أو الملاحظات المتعلّقة بسلوك الفلسطينيّين الكفاحي تجاهَ من اغتصب أرضهم وشرّدهم منها وأذاقهم صنوف العذاب طوال قرنٍ من الزمان. وأوّل الملاحظات انفصال الوسيلة عن الغاية إلى حدٍّ كبير؛ حتّى ليبدو في كثيرٍ من الأحيان أنّنا نقاتلُ لمجرّد القتال. وثاني الملاحظات استهانة الكثيرين بالحكمة والتروّي واعتبارهما من باب الجبن أو التخاذل، ومن ثَمَّ غلبة الانفعال دومًا على الأفعال التي يأتي معظمها ارتجاليًّا أو دون هدفٍ محدّد. وثالث القضايا اعتبار مسائل الاعتقال والاستشهاد ووسائل المقاومة مقدّسات لا يجوز الاقتراب منها بالنقد أو المراجعة. ورابع الإشكاليّات كثرة استعمال الشعارات والتجريدات النظريّة دون محاولةٍ لتطبيقها فعليًّا أو حتّى تقديم واقتراح إجراءات وخطوات محدّدة (مثال: لا أحد يشرح كيف يمكن أن نعزّز الصمود، بينما يتفاقم التفاوت الطبقي ونستمرُّ في تقليص مساحة الحريّة، ونمعنُ في تفعيل عوامل التقويض الذاتي). خامس القضايا، خليطٌ من ارتباكاتٍ فكريّةٍ ونقصٍ في الخبرات أو سطحيّة التحليلات، من قبيل التعاطي الخاطئ مع فقه الأولويّات والإمكانيّات، أو الحنين المرضي للماضي، أو الغلو في انتقاد الذات بتبادليّةٍ مقيتةٍ ومؤسّفة (فتح لا تنتقد نفسها، بل تمعن في إبراز تقصيرات حماس، وحماس تفعلُ نفس الشيء، اليسارُ ينتقدُ الجميع ولا ينتقد ذاته، وهكذا). أخيرًا لدينا إجماعٌ يتمحورُ حول التقليل من شأن الشرعيّة الدوليّة. وهنا سوف أتوقّفُ بعض الشيء لأشرحَ ما المقصودُ من ذلك؛ باعتبار أن ساحة المجتمع الدولي هي الساحة الأهم في مقارعة ومواجهة اليمين العنصري والفاشي، مهما قللنا من شأنها أو تغاضينا عن حقائق الأمور.
يعدُّ مفهوم "الشرعيّة الدوليّة"، بما هي توافقات دوليّة تعكسُ موازين القوّة والرغبة في الهيمنة والدفاع عن المصالح، من أكثر المفاهيم التباسًا ومراوغةً وخصوصًا إزاءَ المسألة الفلسطينيّة. لم يخلُ موقفنا منها دومًا من بعضٍ - وأحيانًا كثيرٍ - من الريبة والتشكيك، واتّهامها بالانحياز والتنكّر أو الكيل بمكيالين، وخصوصًا مع هيمنة الولايات المتّحدة على معظم مؤسّساتها أو قدرتها على إبطال مفعول أي قرارٍ يصدرُ عنها.
يرى البعض أنّ الشرعيّة الدوليّة، وإن رسّخت وجود إسرائيل وتقاعست عن تطبيق قراراتها، غير أنّها اعترفت للفلسطينيين بالحدّ الأدنى من حقوقهم، وحالت دون تمكين إسرائيل من الإمعان حتّى النهاية في التنكّر لهذه الحقوق. الشرعيّة الدوليّة، وإن كانت لا تتطابق بالكامل مع الحقوق الطبيعيّة والتاريخيّة للشعب الفلسطيني، غير أنّها تشكّلُ أساسًا صالحًا للحيلولة دون اندثار قضيّته، وضامنا لوجوده السياسي والحقوقي ضمن المنظومة الدوليّة ورادعًا لشهوة إسرائيل وأطماعها العدوانيّة.
أما على صعيد اقتراحات الردّ على سياسة حكومة نتنياهو وبرنامجها وتهديدات بعض أعضائها، فلعل أفضل ما سمعت أو قرأت ألخّصه في بعض النقاط:
أن يُترك كلُّ تجمّعٍ من تجمّعات الفلسطينيّين حرًّا في تحديد واختيار آليات وأشكال مواجهته، بناء على معطيات واقعه وخصوصياته، وفي الأثناء يجري تطوير ردٍّ جماعيٍّ تكامليٍّ بصورةٍ تشاركيّة، يبدأُ الأمرُ بوضع تصوّر "تخيليّة سياسيّة" يمكن أن تتحوّل في مضمار ومعترك الواقع وانشغالها في حقل التصادم مع الاحتلال إلى استراتيجيّةٍ شاملة.
وكما قال نظير مجلي: الأفضل والأكثر فائدةً ونجاعةً وشجاعةً، مجابهةُ هذه الحكومة بطريقةٍ مهنيّةٍ ذكيّة، حكيمة، ويقصد دون ارتجالٍ أو استعجالٍ أو انفعالٍ مبالغٍ فيه. ولعلّه من الحكمة في المراحل الأولى أن نصمت ونراقب عن كثبٍ لعلّهم يختنقون بتناقضاتهم؛ ونحرمهم من فرصة الاختباء وراءنا والتوحّد على دمنا فليس ثمّة ما يجمع بين غانتس وبن غفير سوى الرغبة في قتلنا، وما عدا ذلك فهما أقرب لنمط العلاقة بين قابيل وهابيل. نعم أفضل ما نفعل اليوم أن ندع إسرائيل تواجه تناقضاتها واختناقاتها، دون أن نمدّ لها حبل النجاة. وإذا لم يكن بمقدورنا دعم توليد مقاومةٍ مدنيّةٍ حقيقيّةٍ داخل إسرائيل، فعلى الأقلّ لا نمنح اليمين الفاشي سببًا لتقويضها وإفشالها.
يكمنُ جوهر المشروع الصهيوني اليوم في مواصلة نزع الملكيّة (الاستيلاء على الأراضي)، ونزع الشرعيّة بطمس معالم الجريمة والحيلولة دون الوصول إلى قلب وعقل العالم وضميره، فلا يكون الرد والحال كذلك إلا بتعزيز الصمود والبقاء في مواجهة الاقتلاع الوجودي، ونزع الشرعية عن الاحتلال وفضح ممارساته، عبر ممارسةٍ مدنيّةٍ تكشفُ للعالم مجدّدًا أنّنا حيال جانٍ وضحيّة، وأنّنا أصحابُ حقٍّ لا إرهابيين!
مواجهةُ مخطّطاتِ الصهيونيّة الدنيّة والاستيطانيّة في الضفّة الغربيّة، عبرَ تشكيل قيادةٍ موحّدةٍ وهياكل قياديّة لا مركزيّة في المحافظات ورفض التعامل المدني والاقتصادي مع الاحتلال. توسيع ساحة الاشتباك والصدام الأفقي والرأسي، على أن يرافق ذلك ويرفده توسّع في القاعدة الشعبيّة والجماهيريّة المنخرطة أو المشتبكة، وتأكيد الجدوى السياسيّة ارتباطًا بأهدافٍ محدّدة. فتحُ نقاشٍ فصائليٍّ ومجتمعيّ، جديٍّ ومعمّق: هل السلطةُ فعلًا ملزمةٌ بالتعامل مع حكومة نتنياهو بحكم الأمر الواقع كما يقول العالول؟ وكيف يستقيمُ أمرُ التعامل معها وملاحقتها سياسيًّا وقانونيًّا في الوقت ذاته؟ وكيف يمكنُ تدبّر سبل حياة الفلسطينيين في الضفة دون هذا التعامل؟
أختمُ بجردة لأكثر الاقتراحات التي قدّمها سياسيّون وصحافيّون وأكاديميّون ونشطاء:
داخليًّا:
تطويرُ عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ (إعادة صياغة وصيانة الإرادة الجماعية، إصلاح المنظمة، إعادة صياغة الميثاق الوطني والمشروع السياسي والوطني)، استعادة الوحدة الوطنيّة، تطوير استراتيجيّة كفاحيّة، إجراء انتخابات (التجديد الديموقراطي)، بلورة رؤيّة وطنيّة موحّدة (مشروع وطني وديمقراطي)، إحياء وتفعيل دور اللجنة التنفيذيّة وعدم إبقائها مجرّد هيئة استشاريّة، تغيير وظيفة ودور السلطة، تطبيق كامل لتوصيات المجلس المركزي، انتفاضة فلسطينية ثالثة، وإبقاء خيار المقاومة المسلحة للدفاع عن النفس فقط، مشاركة الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر في المواجهة مع تقسيم منطقي للأدوار، الانسحاب من "أوسلو" والالتزامات اللاحقة، وخصوصًا وقف التنسيق الأمني، تشجيع اقتصادٍ منتجٍ يساعدُ على الصمود، بدلًا من تشجيع الاستهلاك، تعزيز دور منظّمات حقوق الإنسان في فضح الانتهاكات الإسرائيليّة وملاحقتها قانونيًّا.
دوليًّا وإقليميًّا:
التدويل، أي اللجوء إلى المحاكم الدوليّة والكفاح الدبلوماسي، تشكيل جبهة فلسطينيّة عربيّة عالميّة لعزل ومقاطعة حكومة اليمين، الاستفادة من الفرص التي قد تنشأ جراء انفجار الجغرافيا السياسية في أكثر من مكان في العالم واهتزاز موازين القوّة في النظام العالمي، تعميق التناقضات أو الخلافات بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن مهما صغرت، تفنيد ونسف الرواية الإسرائيليّة بطرقٍ يتقبّلها العالم، تحفيز حركات مقاطعة إسرائيل ومناهضة التطبيع، تعميق الحرج العربي الرسمي وليس تقديم مبرّراتٍ لرفع هذا الحرج، وخاصّةً فيما يتعلّقُ بانتهاكات الأماكن المقدسّة، سحب مبادرة السلام العربيّة ووقف الاعتراف بإسرائيل، مطالبة العالم بإعلان إسرائيل نظام أبارتهايد كامل، طلب الحماية الدوليّة... وغير ذلك من الاقتراحات!
بالتأكيد من العبث الاعتقاد أن بمقدورنا أن نفعل كلّ ما سبق، فالمحدّدات كثيرة، والمعيقات كبيرة، لكن لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، فلا بدَّ أوّلًا من نفض غبار الكسل والجبن والعجز والعمل على بثّ روح الكفاح والأمل.
ربّما تكون البداية من إعادة صياغة هيكل القيادة، أو تبني برنامج كفاحي مختلف، أو بلورة إرادةٍ جماعيّةٍ ورؤيةٍ موحّدة، من محكمة الجنايات الدوليّة أو من فروش بيت دجن، المؤكّد لا بديل عن النهوض ورفض التعامل مع الأمر الواقع الاحتلالي ومغادرة مربع الأوهام التي هيمنت طويلًا على عقولنا وأورثتنا مزيدًا من الضياع والضعف!