Menu

الحربُ في أوكرانيا بعدَ عام حصادٌ وتوقّعات

طارق أبو بسام

نشر في العدد 47 من مجلة الهدف الرقمية

كاتبٌ سياسيّ/ التشيك

قبلَ عامٍ من الآن، انطلقت الحربُ الروسيّةُ الأوكرانيّةُ التي قد تتحوّل إلى حربٍ عالميّةٍ ثالثة، حيث كان المشهدُ العالميُّ مختلفًا تمام الاختلاف عن المشهد الذي نراه اليوم. كان يفترض أن يكون عام ٢٠٢٢ عام الانتعاش الاقتصادي العالمي بعد الآثار المدمّرة التي لحقتْ به في أعقاب جائحة كورونا، وجاءت الحرب في أوكرانيا، لتدخل العالم في أزماتٍ اقتصاديّةٍ كبرى، مثل ارتفاع نسبة التضخم والبطالة وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، إضافةً إلى تراجع نسبة النمو في الاقتصاد العالمي، وليس هذ فقط، وإنّما الخشية من وقوع حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ باتت تتزايدُ في كلّ يومٍ احتمالات حدوثها، وبدأت تطلّ برأسها، خاصّةً بعد الإصرار المتواصل من قبل الولايات المتّحدة، ودول الناتو والغرب بشكلٍ عام، على مواصلة هذه الحرب وتقديم كلّ الدعم المالي الذي بلغ المليارات وتسليح دولة أوكرانيا بأحدث أنواع الأسلحة من صواريخ ودبابات ودعمها بكلّ الإمكانيات السياسة والإعلاميّة، ظنًّا منهم أن هذا الدعم سيؤدي إلى هزيمة روسيا، في رهانٍ خاسر، حيث تبيّن أن كل تصعيدٍ من قبل الغرب يتم مواجهته بصمودٍ وتحدٍّ أكبر من روسيا، وتصميم على الانتصار الذي لا خيار سواه كما أكّد ذلك القادة الروس، وفي مقدّمتهم الرئيس بوتين.

لا شكَّ أنّ هذه الحرب شكّلت في بدايتها وانطلاقتها السريعة صدمةً كبرى لأوكرانيا وحلفائها، حيث وصلت القوّاتُ الروسيّةُ إلى مشارف العاصمة وسيطرت على العديد من المدن ومساحات شاسعة، وبدا أن هذه الحرب ستنتهي خلال أسابيع. بعد ذلك حصلت مجموعة من التطورات في هذه الحرب لصالح أوكرانيا، التي جاءت بفعل شراسة المواجهة والدعم الكبير من الغرب، والتقديرات الخاطئة للقيادة الروسية، واستطاعت القوات الأوكرانية أن توجّه مجموعةً من الضربات النوعيّة الموجعة للقوّات الروسيّة أهمّها: إغراق الطراد موسكفا وهو أهمّ أسلحة البحريّة الروسيّة - ضرب جسر كيرتش في جزيرة القرم - الانسحاب من خاركوف وجوارها - الانسحاب من خيرسون.

لا شك أن تأثير هذه الضربات وشراسة أوكرانيا في القتال جعلت روسيا تعيد حساباتها العسكرية وخططها الاستراتيجية وتعالج الثغرات، وأقدمت على تغييراتٍ كبيرةٍ في صفوف قيادتها. وبدأت الانتقال لسياسةٍ أكثر حزمًا في المواجهة من خلال التعبئة الجزئية في صفوف الجيش ومن خلال توجيه ضرباتٍ قويةٍ للبنية التحتية، وخاصّةً في مجال الطاقة وطرق المواصلات.

وتشيرُ كلّ المعطيات إلى أن هذه المعركة لن تتوقّف قريبًا، ربما حتى نهاية عهد بايدن أو أكثر، خاصة بعد أن توقفت المفاوضات في أبريل من العام الماضي، واستحالة استئنافها في الوضع القائم حاليًا. ولن يكون ممكنًا أن يتم التوصل إلى تسويةٍ حتى يستطيع أحد الطرفين فرض شروطه على الآخر وهزيمته، والاحتمال الأكبر أنّ روسيا ستكون هذا الطرف لما تملكه من قوّةٍ هائلةٍ وقدرةٍ عظيمةٍ على الصمود والتضحية وتجربةٍ طويلةٍ من حروبها السابقة مع الأعداء.

في هذه المقالة سأحاول التركيز على الحصاد والتوقعات، وما الأهداف التي حدّدها كلّ طرف؟ وماذا حقّق منها حتّى الآن؟ وما التوقّعات للفترة القادمة؟ وإلى أين تسير الأمور؟

الحصاد السياسي والعسكري:

استطاعت روسيا من خلال هذه العملية الخاصة تحقيق مجموعة من المكاسب العسكرية والسياسية رغم شراسة الجيش الاوكراني وتماسكه، نجملها فيما يلي:

_ تخلّصت من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو على الأقل لسنواتٍ طويلةٍ قادمةٍ كونها لم تعد قادرةً على تلبية شروط العضوية فيه.

_ أبعدت الخطر العسكري عن حدودها كونها استطاعت تحرير أغلبية أراضي مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك، إضافةً إلى تحرير مناطق عدّة في خاركوف وخيرسون وزاباروجيا.

_ استطاعت تدمير أكثر من 70- 75% من الجيش الأوكراني وأسلحته.

_ استطاعت أن تقضي على أعداد كبيرة من القوات النازية كما حصل في مدينتي ماريوبل وسوليدار وبعض المناطق الأخرى.

_ قامت بتدمير جزءٍ كبيرٍ من البنية التحتية لأوكرانيا.

أما على الصعيد العسكري كانت الحصيلة حسب بيان وزارة الدفاع الروسية مؤخّرًا:

_ تدمير ٣٨٤ طائرة حربية وتدمير وإسقاط ٢٠٧ مروحيات، وتدمير وإسقاط ٣٠٨٨ طائرة دون طيار.

_ القضاء على ٤٠٣ منظومة صواريخ مضادة للطائرات.

_ تدمير ٧٨٢٦ دبابة ومدرعة.

_ تدمير ١٠١٥ راجمة صواريخ

_ تدمير ٤٠٦١ قطعة مدفعية وهاون.

_ تحطيم وتدمير ٨٣٢٦ مركبة وآلية عسكرية من أنواع مختلفة.

هذا إضافةٌ إلى مقتل عشرات الآلاف من الجنود تصل إلى أكثر من ١٠٠٠٠٠ في بعض التقديرات وإيقاع أعداد كبيرة من الجرحى تفوق هذا العدد بكثير.

نعم لقد فقدت أوكرانيا وخسرت حتى الآن الجزء الأكبر من إمكاناتها العسكرية والاقتصادية لكنها ما زالت تقاوم بفعل الإمكانيات غير المسبوقة التي تدعمها بها الدول الغربية. وهنا يبرز السؤال إلى متى يستمر ذلك؟

مقابل ذلك خسرت روسيا أعدادًا كبيرةً من جنودها ومعداتها، لكنّها تبقى أقل بكثيرٍ مما خسرته أوكرانيا ولا مجال للمقارنة، وهي دون شكّ أكثر قدرة على تعويض خسائرها البشرية ومن السلاح.

ومع ذلك ما زالت أمريكا ودول الغرب تعمل على إطالة أمد هذه الحرب وعدم وضع حد لها، ومن المعلوم أنها كانت تحضر لها منذ عام ٢٠١٤ وقبل بدء العملية الروسية الخاصة بسنواتٍ عدة، وهذا ما اشار له كل من المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق هولاند عندما أعلنوا: أن الموافقة على اتفاقيات منسك جاءت في إطار الاستعداد لخوض المعركة ضد روسيا، وليس من أجل تحقيق السلام.

الغرب لم يكترث سوى لمصالحه فقط ويريد من إطالة الحرب استنزافًا لروسيا وتدميرًا لاقتصادها من خلال العقوبات التي فرضت عليها بشكلٍ لم يسبق له مثيلٌ، وصلت إلى أكثر من ١٥٠٠٠ عقوبةً طالت المجالات كافةً، كما أراد الغرب من خلال ذلك رفع كلفة الثمن الذي تدفعه روسيا وعدم السماح لها بالظهور دولةً عظمى تقف في مواجهة الغرب ومشاريعه، وأرادوا إفقاد الجيش الروسي سمعته وهيبته وإظهار ضعفه أمام أوكرانيا، وإلى جانب ذلك أرادوا إثارة الفوضى داخل روسيا من أجل إضعاف شعبية الرئيس بوتين، لكنهم فشلوا في ذلك، رغم أن الحرب الدائرة اليوم تؤكّد كل معطياتها أنّها تدور بين روسيا وحلفائها من جانب وبين دول الغرب مجتمعة (أكثر من ٥٠ دولة).

لقد حقّقت روسيا جزءًا كبيرًا من أهدافها حتّى الآن، وتسير قدمًا من أجل تحقيق ما بقي منها، وهي بالتأكيد ستكون المنتصرة كما أثبتت ذلك وقائع التاريخ، وكما تدلّل المعطيات على الأرض.

أما من حيث السيناريوهات والتوقعات:

- السيناريو الأول: وقف الحرب والذهاب إلى التفاوض وهذا السيناريو ليس واقعيًّا؛ الآن في ظل الظروف والمعطيات القائمة كون كل طرف يتوقع فوزه وهزيمة خصمه في هذه الحرب.

- السيناريو الثاني: استمرار الصراع بوسيلةٍ منخفضةٍ على قاعدة أن كل واحد منهم يريد إنهاك الآخر، وفرض الشروط عليه، وهذا الاحتمال تم تجريبه طوال العام الماضي ولم ينجح.

- السيناريو الثالث: أن يتم تصعيد كبير في الحرب واللجوء إلى استخدام أسلحة أكثر فتكًا ومعارك أكثر شراسةً وتدميرًا، قد تصل إلى استخدام سياسة الأرض المحروقة من قبل روسيا واستخدام أسلحة غير تقليدية (ومنها النووي) هذا الاحتمال الذي تجنبته روسيا طوال الفترة الماضية وقد تلجأ إليه مضطرّةً إذا شعرت حاجتها لذلك، خاصّةً إذا وصلت أنّها أمام معركة مصير ووجود، وهنا من المفيد التذكير بما قاله بوتين في الأشهر الأولى من الحرب: أن العالم دون روسيا لا قيمة له، ما يؤشّر إلى إمكانية استخدام السلاح النووي، وهذا السيناريو بعيدٌ، لكنّه غيرُ مستبعد.

لقد تغير العالم كثيرًا خلال هذا العام من الحرب، وهو يتغير في كل يوم، وهناك نوعان من المتغيرات طويلة وقصيرة الأجل. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أهمّها:

الطويلة الأجل:

١_ انتهاء عالم وهيمنة القطب الواحد

لم تعد الولايات المتحدة المتحكمة الوحيدة في هذا العالم، وباتت تتراجع مقابل صعود الصين وروسيا ودول أخرى، وهذا يجعلنا أمام عالمٍ جديد.. عالم متعدد الأقطاب.

٢_ سنكون أمام لحظةٍ تاريخيةٍ ليست أقل من يالطا، حيث تم تقسيم العالم أثر الحرب العالمية الثانية، وهذا يجعلنا أمام إعادة رسم خرائط العالم من جديد.

٣_ ظهور وتفاقم الخلافات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، وما بين الدول الأوربية ذاتها قد تصل إلى حالة ابتعاد عن أمريكا من ناحية وحدوث تصدع داخلها كل منها من ناحية ثانية، ما يعكس نفسه على الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وعلى الولايات المتحدة نفسها.

٤_ أن تقوم روسيا بالسيطرة على مدينة أوديسا وخاركوف وعدم الاكتفاء بالمقاطعات الأربعة التي أعلنت ضمها لروسيا وقد لا تتوقف عند ذلك، وهذا ما سيجيب عليه المستقبل وتطور الأحداث على المدى الأطول، ونكون أمام تقسيمٍ واقعيٍ لأوكرانيا.

٥_ انتهاء المؤسسات الدولية القائمة التي نعرفها اليوم مثل الأمم المتحدة وتفرعاتها وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية... الخ.

٦_ تقوية وتدعيم التحالف بين روسيا والصين و إيران مع عددٍ من الدول الأخرى.

_ القصيرة الأجل وهي كثيرة ومتعددة منها:

١_ تفاقم أزمة الطاقة ما يؤدي إلى زيادةٍ كبيرةٍ جدًّا في الأسعار قد تتضاعف وانعكاسات ذلك على الاقتصاد العالمي.

٢_ ضرب الأمن الغذائي على الصعيد العالمي وهذا ما رأيناه في أزمة القمح والحبوب والأسمدة.

٣_ تشديد سياسة العقوبات الوحشية غير المسبوقة وانعكاساتها على الدول الأوروبية كما ظهر جليًّا في موضوع النفط والغاز. روسيا لن تكون المتضرر الوحيد من هذه السياسة وربما تعود الأضرار على أوروبا بشكلٍ أكبر، وهذا ما يحصل اليوم.

٤_ ارتفاعٌ كبيرٌ في نسبة التضخم وزيادة كبيرة جدًّا في الأسعار، مع كلّ ما يحمله ذلك من عدم استقرار وبروز حالات التوتر.

٥_ تباطؤ النمو الاقتصادي والدخول في حالة ركود قد تصل إلى حالة كساد كما حصل في الثلاثينات من القرن الماضي.

٦_ سقوط سياسة الحياد الإيجابي كما حصل مع السويد وفنلندا.

٧_ بداية التمرّد من قبل عددٍ من الدول في العالم على القرار الأمريكي، وعدم الانصياع له كما حصل مع السعودية والإمارات في عدم الاستجابة لطلبات أمريكا وقراراتها في سابقة لم تحصل سابقًا ومن الطبيعي أن تتوسّع هذه الدائرة لاحقًا.

٨_ بروز بعض الخلافات والتمايز في الموقف بين دول أوروبا والولايات المتحدة كونها الأكثر تضرّرًا مما يجري وتريد الحفاظ على مصالحها وقد يزداد هذا الخلاف في المستقبل.

٩_ إنهاء هيمنة الدولار على السوق والاقتصاد العالمي، وقد بدأ ذلك من خلال تنويع العملة والتبادل التجاري بين عددٍ كبيرٍ من الدول بالعملة المحلية، كما هو الحال بين روسيا والصين والهند وإيران وغيرهم.

١٠_ زيادة الإنفاق العسكري من قبل بعض الدول وتغير عقيدتها العسكرية مثل اليابان وألمانيا.

١١_ تدعيم وتقوية التحالف بين روسيا والصين وإيران مع عددٍ من الدول الأخرى في العالم المناهضة لسياسة الولايات المتحدة.