اعتاد الفلسطينيون وغيرهم من العرب؛ تخيل سيناريوهات مختلفة لمنطقتهم وحياتهم بدون "إسرائيل"، وغالبًا ما كان هذا المخيال يشمل المنطقة لا فلسطين وحدها فحسب. بلدان عربية متصلة يغيب عنها دور الكيان الصهيوني كمتراس معادي يقطع الجغرافيا العربية، ومجال أرحب للحركة والتنقل والتبادل، وبالتأكيد لم يشمل هذا الخيال حرب أو عدوان؛ منطلقًا من الأمل والتفاؤل وأيضًا التشخيص الخاطئ للواقع. هنا ليس موضوعنا أن نحاكم هذا الخيال الذي ما زال يقوم بدور ايجابي في اِذكاء نضال الشعب الفلسطيني وأنصاره من العرب ضد العدو الصهيوني، ولكن بالأساس النظر للدور المركزي الذي قامت به القوى الإمبريالية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة ضد شعوب المنطقة، وفي مقدمة ذلك دورها الأساسي في تحويل الغزو الصهيوني لفلسطين، من مجرد مشروع هامشي؛ يدور في عقول بضعة من الصهاينة المتعصبين، إلى كيان مسلح بالقنابل النووية، يعادي المنطقة ويجثم على صدر العرب وفلسطين.
بشكل أو بآخر يمكن القول: أنه لو لم تجد القوى الإمبريالية في هؤلاء الصهاينة ضالتها؛ لأوجدت واستخدمت غيرهم كعنوان لمشروع مثل هذا، ولو لم يكن هناك الكيان الصهيوني اليوم؛ لأنشأت القوى الإمبريالية ما يماثله، وأكثر من ذلك أن هذه القوى ما زالت تعمل على استحداث كيانات معادية لشعوب المنطقة، سواء بتحويلها لسياسات تلك الدول والحكومات التي تهيمن عليها باتجاه معادي لحقوق الشعوب وتطلعات الأمة العربية، أو بجرها للتحالف مع الكيان الصهيوني، أو بدعم النزعات الانعزالية ومشاريعها التي يجري تحريكها ودعمها أمريكيًا وإمبرياليًا.
لقد حاولت الولايات المتحدة ككتلة قائدة للمعسكر الإمبريالي تأسيس كيانات انعزالية عدوانية مماثلة، في لبنان و سوريا والعراق، وما زالت تسعى بهذا الاتجاه في العديد من بلدان المنطقة، كما أنها جيرت بالفعل ولسنوات طويلة سياسات دول الخليج العربي ضد أي مشروع تحرري عربي، بل وما زالت قادرة على جر هذه الدول للانخراط العميق في مشروع العدوان على المنطقة وشعوبها المختلفة، واتخاذها قاعدةً وممولًا ضد كل من تمرد على الهيمنة الإمبريالية، ليس بدءًا بهجومها على المشروع الناصري، أو تجارب الوحدة العربية، أو المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وليس انتهاءً بدورها في التحريض والهجوم والحشد ضد إيران.
إن آمال العرب وشعوب هذه المنطقة بحياة أفضل، لن تتحقق بمعركة فاصلة مع الكيان الصهيوني، بل إن هزيمة الكيان الصهيوني لن تكون إلا جزءًا من تراجع شامل وهزيمة للهيمنة الأمريكية والإمبريالية في المنطقة، وبالمثل أيضًا إن هزيمة هذه الهجمة الإمبريالية غير ممكنة؛ دون كسر الذراع الصهيوني في كل يوم وتكبيده خسائر فادحة واستنزافه.
إن اتصال مصير شعوب هذه المنطقة لا يتصل بعوامل التاريخ والحضارة والعيش المشترك فحسب، ولكن أيضًا وجود العدو المشترك، الذي يعمم استهدافه على مجموع شعوبها، وما معركة فلسطين إلا عنوانًا للمعركة في وجه الإمبريالية وعنوانًا أساسيًا لمواجهتها وهزيمتها ودفعها للانسحاب من المنطقة، بأدواتها المباشرة وغير المباشرة.
وإذا كان الفلسطينيون اليوم؛ مطالبون بتنظيم ذاتهم، وتصعيد كفاحهم وحشد كل طاقاتهم في وجه العدو الصهيوني، فإن هذا الأمر لا يعنيهم وحدهم؛ فالعرب وشعوب المنطقة المهددة؛ مطالبين بإمدادهم ودعم صمودهم وتغذية كفاحهم، وأكثر من ذلك: إن مصير هذه الشعوب ومستقبلها يتوقف على تصعيدها للنضال في وجه الاستعمار والإمبريالية بأدواتهما المختلفة، وكل الأطراف والقوى الجدية المعنية بهذه المواجهة؛ ملزمة بتجاوز كل تلك الحواجز والمسافات التي تفصلها، أو تعيق اتصالها، وتنسق نضالتها باتجاه بناء شبكة نضالية قادرة على استنزاف قوى العدوان، بما يتجاوز حتى مفهوم التحالف بين الدول والكيانات، للتحالف بين المكونات الشعبية والمجتمعية الناهضة بمهمات المقاومة بأشكالها كافة.