منذ أن أعيد الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني أواخر القرن 20، بوصفه مقولةً تحليليّةً ومعياريّةً لتفسير الأحداث التي وقعت آنذاك، والتنبؤ بمساراتها واتّجاهاتها، والاهتمام بهذا التجريد النظريّ يعلو ويخبو؛ ارتباطًا بالأحداث الكبرى التي طرأت على العالم. رافق الاهتمام بهذا المفهوم صعود العولمة، وبروز الحركات الاجتماعيّة المناهضة لها، هيمنة مقولات النيوليبراليّة "الديموقراطيّة والسوق"، على الفكر الإنساني، كما ارتبط المفهوم بما سمّي "انتفاضات الربيع العربيّ" وأزمة كورونا والأزمة المالية 2008/2009، وصعود الشعبويّة وتطوّر وسائل التواصل الاجتماعي، حتّى وصلت ممارسات قمع المجتمعات المدنيّة وإسكاتها في أكثر من 80% من دول العالم ذرى غير مسبوقةٍ فيما عرف بتقليص مساحة الفضاء المدني (حريّة التعبير، حريّة التجمّع السلمي، حريّة تشكيل الجمعيّات). وفي بلادنا شهدت هذه الممارسات تصعيدًا كبيرًا بلغ حدّ وسم منظّمات حقوق الإنسان ونشطائها بالإرهاب، وحظر عمل 7 جمعيّاتٍ أهليّةٍ؛ استنادًا لما يسمى بقانون الإرهاب الإسرائيلي 2016.
إذن؛ يعودُ الاهتمام بالمجتمع المدني إلى صدارة المشهد العالمي في زماننا هذا ليس بوصفه مقولةً نظريّة، يختلف حولها الدراسون والخبراء، بل بوصفه فضاءً حقيقيًّا للفعل المدني، يتعرّض للتقليص والتهديد من قبل جهاتٍ عدّة.
لعقودٍ طويلةٍ ظلّ مفهوم "المجتمع المدني" محلَّ خلافٍ نظريٍّ شديد، إلى أن شاع بين المهتمين معنى مشترك ومتفق عليه إلى حدٍّ كبير، ينظر إلى المجتمع المدني بوصفه فضاءً عامًّا، يقع بين الدولة والسوق والعائلة وتتّسم مكوّناته، متعدّدة الأشكال والأحجام والأدوار، بالاستقلاليّة والطوعيّة والمؤسساتيّة.
وفي كلّ عودةٍ لهذا المفهوم محاولاتٌ متعدّدةٌ لإعادة فحص الدور والوظيفة والعلاقة مع الدولة ونسق المعونة الخارجية في ظلّ النيوليبراليّة، وأيضًا منظومات الحوكمة (بين الديموقراطية والاستبداد)، والمسألة التنموية.
لقد بينت الأزمات والأحداث التي مرَّ بها عالمنا في السنوات الأخيرة مدى أهميّة منظّمات المجتمع المدني ودورها في ضمان الحرية والازدهار والعدالة، ومن ثَمَّ ضرورة إشراكها في النقاش البناء، والعمل الجماعيّ من أجل الصالح العام، كما كان لهذه الأزمات تأثيراتٌ ضارّةٌ على المجتمعات المدنيّة بما في ذلك تضيق المساحات وزيادة الطلب والملاحقات الأمنيّة. يمكن رصد الاتجاهات التالية في حركة وحركية المجتمع المدني عالميًّا؛ إذ بات مكوّنًا رئيسًا من مكوّنات الجغرافيا السياسيّة المتفجّرة في أكثر من مكان: (1) عودة المطالبة بالعدالة والمساوة بشدّةٍ جرّاء أزمتي الطاقة والغذاء. (2) عودة الاستبداد والقمع، ومن ثَمَّ تراجع الديموقراطيّة. (3) ومع ذلك، ثمّة أملٌ فالتغييرُ الإيجابيّ ما زال ممكنًا، ويمكنُ إحراز تقدّمٍ في تحدي الاستبعاد والاستبداد والفساد (4) افتضاح أمر المؤسّسات الدوليّة وانعدام كفاءتها وكيلها بمكيالين، كما كشفت حرب أوكرانيا الحاجة إلى إعادة هيكلة الحوكمة العالمية بما يخدم تطلّعات الشعوب في الأمن والسلم والتنمية والازدهار، وإعادة تعريف دور المجتمعات المدنيّة.
لم يكن الشرقُ الأوسطُ وشمال إفريقيا بعيديْنِ يومًا عمّا يحدث في العالم، بل ربما شكّلا مركزًا لصراعات القوى العالميّة والإقليميّة (حيث تلتقي المصالح وتتعارض). على مدى العقد الماضي، شهد الإقليمُ عودةَ روسيا، إطلاق مبادرة الحزام والطريق الصينيّة، تقلّص وجود الولايات المتّحدة في المنطقة، الحروب الأهليّة والإقليميّة في ليبيا وسوريا واليمن، إعادة تموضع إسرائيل من خلال اتفاقيات التطبيع؛ استمرار التوتّرات مع إيران بشأن الانتشار النووي والتوسّع الإقليمي؛ غزوات تركيا ودول الخليج الجيوسياسيّة في بلاد الشام وأفريقيا. في غضون ذلك، عدّ البعض أنّ الأحداث التي وقعت منذ عام 2011، في جميع أنحاء المنطقة تشيرُ إلى صحوة المجتمع المدني في مواجهة الاستبداد السياسي في تكرار لما حدث في أوروبا الشرقيّة عام 1989، لكن بدا لاحقًا أن الأمرين مختلفان؛ فالتغييرُ في أوروبا الشرقيّة لم يكن بفضل المجتمع المدني، كما أنّ المجتمع المدني التقليدي لم يسهم كثيرًا في انتفاضات العرب.
إذا كانت دراسات "المجتمع المدني" الجديدة تعارض الافتراضات الليبراليّة لدوره في التحوّل الديموقراطي، وأنّه ليس فقط لا يشكّلُ تحدّيًا للاستبداد، ولكنّه يعدُّ آليةً تعيدُ إنتاج الأنماط الاستبدادية، إلا أنّ منظّمات المجتمع المدني وتكويناته في السياق الفلسطيني، بوصفه سياقًا تحرّريًّا، بنائيًّا، ما زالت تشكّلُ رافعةً أساسيّةً للصمود والمواجهة والتمسّك بالأرض والدفاع عن الحقوق، ولهذا السبب يستهدفها الاحتلالُ كما يستهدف باقي كيانات الشعب السياسية والاجتماعيّة والكفاحيّة.
وعلى العكس ممّا يحدثُ في كثيرٍ من دول المنطقة، فإنّ الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الفلسطيني لم تفقد دورها كمحفّزاتٍ للتغيير الشامل (الذي هو جوهرُ المسألة التنموية وركنها الأساس الحرية)، حتّى مع بروز مصادرَ جديدةٍ للتمرّد (المجموعات المسلّحة، الحراكات الشبابيّة، جماعات المصالح...).
ومع العودة المتكررة لاستخدام المفهوم، واصل المعنيّون في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ومنذ أربعة عقود نقاش أغلب القضايا المرتبطة بفكرة المجتمع المدني؛ انطلاقًا من طبيعة المرحلة التي يمرُّ بها الشعب الفلسطيني. من بين هذه القضايا: التحرّر والسيادة وحقوق الإنسان والتنمية والتطوّع والصمود والتكافل وغير ذلك.
في الواقع – تاريخيًّا - نبعت الحاجة لتكوينات المجتمع المدني فلسطينيًّا من حقيقة أنّنا نعيش 3 عمليات تاريخيّة معقّدة ومتداخلة في الوقت ذاته: التحرّر والاستقلال (السيادة: دور وطني)، بناء الأمّة (الهُويّة والإجماع: دور ديموقراطي)، بناء الدولة (المأسسة والتنمية: دور تنمويّ). ومنذ البدايات الأولى كان للحركات الاجتماعيّة، وتاليًا للمنظّمات الأهليّة، وأيضًا الحراكات الشبابيّة أدوارًا وطنيّةً وسياسيّةً وديموقراطيّةً وتنمويّةً وإنسانيّة. وبات المشروعُ الوطنيُّ يحملُ مضامينَ مجتمعيّةً وتنمويّةً بما هو من حيث الجوهر مشروع الاستقلال والتحرّر والسيادة وتقرير المصير.
لكلّ ما سبق ليس غريبًا أن يستهدف الاحتلال هذه المنظّمات، بينما تواصل إسرائيل عدوانها اليومي من نزع الملكيّة وممارسة العنصريّة والاضطهاد إلى القتل والحصار والاعتقال، فهي تلاحقُ وتضطهدُ كلَّ من يعارض نظام الفصل العنصري، ويدافع عن حقوق الفلسطينيين من الأشخاص والمنظّمات.
في الواقع، إسرائيل تستهدفُ بالقمع والقتل والملاحقة والاعتقال، كلّ من يعارض سياستها ويفضح ممارساتها، وخصوصًا أولئك الذين يعملون على جبهتين: (1) جبهة تعزيز البقاء والصمود على الأرض وصيانة الهُويّة بشقّيها؛ السياسي والثقافي. (2) الدفاع عن حقوق الإنسان وملاحقة مجرمي الحرب في المنابر الدوليّة ذات الصلة، ومحاولة كسب التأييد والدعم وطلبًا للعدالة، وهو ما تعدّه إسرائيل تهديدًا استراتيجيًّا لها.
ربّما يكونُ هذا العام (والأعوام القليلة الماضية) الأبرز في الملاحقة والتحريض، لكن الممارسات العدائيّة ضدّ المجتمع المدني بدأت منذ النكبة؛ إسرائيل لاحقت واغتالت واعتقلت وطاردت كُتّابًا وشعراء ونشطاء ومتطوعين ومدافعين عن حقوق الإنسان وقادة سياسيين وصحفيين. وفي سنوات الاحتلال (1967) لاحقت سلطات الاحتلال الحركة الطوعية الفلسطينية، والنقابات والمنظّمات الأهليّة؛ بمنع انتخاباتها الداخليّة، واعتقال أعضائها، وحظر نشاطاتها وتقييد حركتها.
فيما تبقى من سطورٍ سوف أتوقّفُ قليلًا عند بعض إسهامات مكوّنات المجتمع المدني في المسألة التنموية فلسطينيًّا باعتبارها مسألةَ تحرّرٍ وبناءٍ معًا:
(1) بالرغم من الانتشار الواسع لمقولة إنّه "لا تنمية في ظلّ الاحتلال"؛ أدّت المنظّماتُ الأهليّةُ الفلسطينيّة دورًا بارزًا في تحقيق تنميةٍ مجتمعيّةٍ حقيقيّةٍ متّكئةٍ على فكرتي "الصمود" و"الانعتاق"، وذلك على طريق تأسيس بنى اقتصاديّة واجتماعيّة تسهمُ في امتلاك الفلسطينيين لمصائرهم ومواردهم. منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين، أسهمت منظّمات العمل الأهلي في بلورة رؤى تنموية ملائمة للسياق. فقد ظهرت مقاربات "التنمية من أجل الصمود" و"التنمية من أجل الصمود والمقاومة" و"التنمية الانعتاقيّة". غني عن البيان أن مصطلح "الصمود" المستخدم في هذه المقاربات ظلَّ يحملُ دلالاتٍ وطنيّةً وسياسيّةً أكثر منها اجتماعيّةٌ واقتصاديّة، وإن لم يخلُ الأمرُ بالطبع من تطبيقات المفهوم في هذه المجالات. واكبت تدخلات منظّمات العمل الأهلي التفكير التنموي في العالم من ناحية، ومعطيات الواقع الفلسطيني المتغيّر من ناحيةٍ ثانية. ركّزت التدخّلات على مضامين التمكين والحماية والمحافظة على البيئة والاستدامة والنوع الاجتماعي والعدالة الاجتماعيّة، وأخيرًا النهج الحقوقي ومقاربة "الحدّ من مخاطر الكوارث".
(2) منذ الانتفاضة الأولى (1987) واجهت منظّمات المجتمع المدني الفلسطيني ونشطاء حقوق الإنسان، محاولات إسرائيل في الإسكات والإرهاب المعرفي وطمس الرواية الفلسطينيّة، بتكثيف العمل على جبهة المجتمع الدولي، لإبراز الطابع العنصري للاحتلال وممارساته، والكشف عن الجرائم ضدّ الإنسانيّة بإقامة الدليل عليها، في دربان، وفي محكمة العدل الدوليّة، وفي أروقة الأمم المتحدة ولجانها المختلفة، وأيضًا في حملات المقاطعة. ومع نشأة السلطة الفلسطينية، اكتسب معنى الصمود، وبناء المنعة مضامين جديدة تتعلق بالمأسسة والدمقرطة والنهوض التنموي واستكمال التحرّر الوطني. ولذلك، لم تعد المنظّماتُ مجرّدَ قنواتٍ للتعبئة الاجتماعية، وتقديم الخدمات في مواجهة الاحتلال فحسب، وإنّما باتت بوصفها معارضةً مدنيّةً ديمقراطيّةً تقدّمُ رؤيةً تقدميّةً بديلًا. وكي تتمكّن من الاضطلاع بمهامها الجديدة المرتبطة بالمفهوم المتغيّر للصمود، أدخلت هذه المنظّمات تحسيناتٍ وتطويراتٍ كبيرةٍ على مستوى بناء النظم، واكتساب المهارات الفنية والإدارية، والتخطيط الاستراتيجي، واستخدام تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، تطوير هياكل الحكم والإدارة.
(3) طوال الوقت تعمل المنظّماتُ على "وصل" ما انقطع بين الفلسطينيين؛ سواءً بسبب النكبة وما تلاها، أو بسبب الانقسام السياسي، أو بسبب فجوات واختلال علاقات القوة والثروة، عبر برامجها المختلفة وباستخدام التكنولوجيا المتطورة، تعزيز الجانب الثقافي والتراثي في الهُويّة، وأيضًا المساهمة في عمليّات بناء الإجماع والتوافق السياسي، وبناء المواطن الفعّال، وتعزيز المشاركة في عمليّة صنع القرار، وحوار السياسات ومحاربة الفساد. لقد جمعت بين أنشطة تقديم الخدمة، وتلك المرتبطة بالحكم، مراقبة تنفيذ السياسات وإدارة الخدمات العمومية، تفعيل دور المجالس المحليّة والبلدية في عملية التنمية، وفي دعم المشاركة المدنية. ومع كل الضغوط والمغريات لم تفقد المنظمات طابعها الجماهيري وتقطع صلاتها بالقواعد الشعبيّة تمامًا، كما يسجّل نجاحها مع بقية الفاعلين السياسيين في عدم تمكين السلطة ومؤسساتها الأمنيّة، خصوصًا من إفراغ الحيّز العام تمامًا من مضمونه الفعلي، عبر مواصلة العمل الجماعي والحوار العقلاني والتفاوض.
أخيرًا، يجدرُ القول إنّنا بحاجةٍ إلى مجتمعٍ مدنيٍّ أكثر "صمودًا" وقدرةً على البقاء والاستمرار والمقاومة والمساهمة الفاعلة في الاستجابة للتحديات التي تواجهنا؛ وهي: تعزيز الصمود والمواجهة مع إثبات الجدارة والأهلية الوطنية، حماية الهوية، المحافظة على التماسك الاجتماعي والتفاعل بين تجمعات الفلسطينيين المختلفة، ودائمًا مواجهة السلوك العنصري الاستيطاني لدولة الاحتلال من جانب، وحالة العجز وانعدام القدرة الناجمة عن التجزئة والتفتيت الذاتي، من جانبٍ ثان.