Menu

راشيل كوري.. الاحتلال لا يقتل الفلسطينيين وحدهم

ثائر أبو عياش

في خطاب داخل مدرستها وهي صغيرة تقول راشيل، حيث كانت في الصف الخامس الابتدائي، ولم يكن عمرها يبلغ آنذاك العشر سنوات: "أنا هنا من أجل الأطفال الأخرين، أنا هنا لأن الأطفال في كل أنحاء العالم يعانون، وعلينا أن نفهم أن الأطفال في دول العالم الثالث يفكرون، ويهتمون، ويبتسمون، ويبكون مثلنا تماماً وعلينا أن نفهم أنهم مثلنا ونحن مثلهم، إن حلمي هو القضاء على الجوع في العام 2000، حلمي هو أن نعطي الفقراء فرصة، إذا نظرنا للمستقبل ورأينا الضوء الذي يشرق من بعيد¹".

كان هذا الخطاب بمثابة وصية قاتلت راشيل طويلاً لأجلها، ودفعت جسدها تحت جرافة الاحتلال ثمناً لترجمة تلك الكلمات وهي تدافع عن البيوت التي تأوي أطفال فلسطين، خصوصاً أنها عندما قررت أن تأتي إلى فلسطين قال لها والدها: " لماذا لا تذهبي إلى الهند بدلاً من فلسطين؟ فلن يلومك أحد إن لم تذهبي"، فأجابته: " أعلم أن لا أحد سيلومني، ولكن باستطاعتي فعلها، وسأحاول²"، كأنها بهذا الرد تترجم ما قاله جيفارا: " ليس هناك متسع من الوقت فإما أن تتوقف عند حدود الزمن، وإما أن تكبر يوماً بحجم الزمن وتكتب تاريخك بالدماء فتصبح عظيماً من العظماء".

شاهدت راشيل كيف يقوم الاحتلال بقتل أطفال فلسطين، ويطلق عليهم الرصاص، ووصفت ذلك قائلة "هذا بلا شك، أصعب المواقف التي شهدتها بحياتي"، حيث تعلم راشيل أن هؤلاء الأطفال يستحقون العيش كما باقي أطفال العالم، وأكثر ترجمت بوجودها في فلسطين كلماتها وهي تطالب بالعدالة الإنسانية للأطفال، وهذه العدالة يجب أن تبدأ في فلسطين اولاً، فلسطين أبداً، بل كأنها تقول: " لا تكفي مشاعر الحزن والقلق، يجب أن نعيش مع هؤلاء الأطفال ونشعر بالخوف ونحن بجانبهم عند القصف والهدم، وعلينا أكثر أن نقاتل معهم".

ليس هناك فرق في الجسد، أو العمر... لدى الفكر الإرهابي الصهيوني القائم على مبدأ "قم وأقتل اولاً"، حيث الدبابة الصهيونية التي قتلت الطفل "فارس عودة" بتاريخ 8 نوفمبر 2000 إبان الانتفاضة الثانية، هي نفسها التي قتلت المتضامنة الأمريكية "راشيل كوري" بتاريخ 16 آذار 2003، فقد استشهد الطفل عودة برصاصة من قناص صهيوني كان يتواجد داخل الدبابة، أما كوري فقد سحقتها جنازير البلدوزر الصهيوني حتى الموت، حيث كان موتها بالسحق تحت الدبابة هو أشد أنواع التضامن مع فلسطين.

 كان الجندي الذي يقود الجرافة يعلم أن كوري قد أصبحت تحتها، ولكنه لم يتوقف عن التقدم على جسدها على الرغم من صراخ الناس عليه بالتوقف، ولكنه تعمد القتل، حيث وجوده هنا قائم لهذا السبب، لأن كل شيء يجب أن يقتل في سبيل أن يبقى الاحتلال موجود.

جاءت راشيل من أمريكا إلى مخيم رفح في قطاع غزة للتضامن مع اللاجئين الفلسطينيين الذين تهدم بيوتهم على حدود قطاع غزة تحديداً، وتصدت راشيل ومن معها للاحتلال لمنع دبابات الاحتلال من هدم البيوت، وصرخت عبر مكبرات الصوت "أنها متضامنة دولية وطالبت الاحتلال بالخروج من المخيم".

انخرطت راشيل في القضية الفلسطينية بشكل عميق، حيث كانت تجوب الشوارع وتلعب مع الأطفال، وأكثر تذهب إلى بيوت الاطفال وتطلب أن تأكل معهم من طعام البيت، بل وعاشت مع الشعب الفلسطيني وخصوصاً في قطاع غزة لحظات الجوع، والحصار، والدمار، والقصف، واستشهاد الأطفال، حيث لم تكن مجرد متضامنة سلام بل هي أمريكية الجنسية، فلسطينية الانتماء، وهذا يعني ممارسة الإنسانية أينما يتطلب ذلك، حيث كان استشهاد كوري هو التعبير عما قاله الثائر الأممي جيفارا: " أينما وجد الظلم فذلك موطني".

في عام 2003 وقبل استشهاد كوري بأيام قرر الأطفال في قطاع غزة العمل على محكمة صورية يحاكم من خلالها مجرمي الحرب، وطلب الأطفال من راشيل أن تكون شاهدة أمريكية داخل المحكمة على ما يجري في قطاع غزة، حيث ذهبت إلى بيت طفل اسمه "زياد أبو رمضان"، وكان رئيس المحكمة طفل اسمه "عبد المجيد النمس"، وجلست حتى منتصف الليل تقوم بإعداد اللائحة، والتي وصلت حتى خمسة عشر صفحة، وقامت باليوم التالي بتقديمها داخل المحكمة وهي تبكي.

إن هذه القصة تحمل معها الرسالة التي كانت راشيل تدافع عنها، حيث وعلى الرغم من المحكمة كانت صورية من قبل الأطفال إلا أن راشيل قامت بالعمل بشكل حقيقي عند تقديم اللائحة كأنها تطلب من المجتمع الدولي محاسبة من يقوم بالجرائم في فلسطين وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية.

لم تكن كوري الوحيدة من خارج فلسطين التي وقفت مع حقوق الشعب الفلسطيني، فمثلاً قاتلت الفتاة اليابانية الملقبة بالملكة الحمراء أو إمبراطورة الرعب " فوساكو شيغينوبو" في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد تأسيسها الجيش الأحمر الياباني، وأمضت ما يقارب العشرون عاماً في السجون اليابانية، ولم تكن تلك السنوات إلا ثمناً للحرية الأبدية لفلسطين وللعدالة في العالم.

يقول غسان كنفاني :" ليس المهم أن يموت الإنسان قبل أن يحقق فكرته النبيلة بل المهم أن يجد فكرة نبيلة قبل أن يموت"، ولقد وجدت راشيل فكرتها منذ أن كانت طفلة، حيث مارست راشيل الثالوث المقدس الخاص بها، فقد آمنت، وناضلت، في سبيل فكرتها على أرض فلسطين دفاعاً عن الأطفال، واستشهدت، وها نحن نقول لها ما قالته الشاعرة المصرية "فاطمة ناعوت" في قصديتها التي حملت عنوان " اسمك راشيل كوري":

مثلنا أنتِ يا بنت

لكننا لم نقف أمام جرّافة لتسحقَنا

كي نتكلمَ مع الله

أو لنوقفَ مدفعًا

يريد أن يخطفَ طفلا

من ضحكته³.

في ذكرى راشيل كوري يمكن القول: أن الاحتلال لم يقتل الفلسطينيين وحدهم.

مراجع:

¹. من هي راشيل كوري. خطابها في الصف الخامس الابتدائي، https://www.youtube.com/watch?v=hGg0djVaP5E.

². اغتيال سفيرة السلام راشيل كوريي. كنت هناك، https://www.youtube.com/watch?v=GuGCIQVuZ30.

³. اسمي راشيل كوري. مسرحية من يوميات غزية، مجلة رمان، https://www.rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=5138.