Menu

الأيديولوجيّةُ الصهيونيّةُ أيديولوجيّةُ قادةِ رأس المال الغربي

حاتم استانبولي

نشر في العدد (47) من مجلة الهدف الرقمية

بعد الحرب العالميّة الثانية أُوكلت للأمم المتّحدة، التي تأسّست عام ١٩٤٥، ومقرها الرئيسي في نيويورك، مهمّةُ الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وإلى تنمية العلاقات الودية بين الدول على أساس الاحترام المتبادل ومبدأ حقّ تقرير المصير للشعوب والمساواة، واحترام حقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة للجميع دون تمييزٍ على أساس الجنس أو اللغة أو العرق أو الدين.

صيغت هذه المبادئُ في ميثاق الأمم المتّحدة، وأوكلت مهمّةُ الحفاظ عليها إلى أجهزة الأمم المتّحدة الستة الجمعية العامة (قراراتها غير ملزمة) ومجلس الأمن الدولي (قراراته تحمل الطابع الملزم) ومجلس الوصاية الاقتصادي ومحكمة العدل الدولية والأمانة العامة، بالإضافة إلى عدّة وكالات مالية واقتصادية وصحية وتعليمية تابعة لها، تعملُ على تنفيذ إجراءاتها، من أهمّها البنك الدولي والمحكمة الجنائيّة الدوليّة ومنظّمة الصحّة العالميّة. ومنذ تأسيس الأمم المتّحدة وإعلان ميثاقها، حكَمَها توازنٌ داخليٌّ كان مائلًا لصالح قوى التقدم والحرية، فرضه ميزان القوى الداخلي بين القوتين الرئيسيتين لنظامين سادا بعد الحرب العالمية الثانية النظام الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي ومعه مجموعة دول عدم الانحياز، والنظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

ففي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية تمكّنت العديد من الشعوب من نيل حرّيتها وانتصرت عدة ثورات واندحر الاستعمار من العديد من الدول الإفريقيّة وخسرت الولايات المتّحدة حربها في فيتنام وانتصرت ثورة كوبا والجزائر، واتّخذت العديد من القرارات الأمميّة إن كان في الجمعية العامة أو مجلس الأمن لدعم الحركات التحرريّة في العالم، وكان من أبرز القرارات قرار رقم ٣٣٧٩ في ١٠ نوفمبر ١٩٧٥ اعتبار الأيديولوجية الصهيونيّة شكلًا من أشكال العنصرية، وطالب جميع الدول بمقاومتها باعتبارها خطرًا على السلم الدولي.

وفي ديسمبر ١٩٧٧ تبنّت الأمم المتّحدة قرارًا بإعلان ٢٩ نوفمبر من كلّ عامٍ يومًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يصادف الذكرى السنوية لقرار ١٨١ (قرار التقسيم)، واتخذت العديد من القرارات ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا الذي كان يحظى برعايةٍ إسرائيليّةٍ وبريطانيّةٍ ودعم أمريكا. إنّ الثلاثية (دول المنظومة الاشتراكيّة ودول المنظومة الرأسمالية ومجموعة دول عدم الانحياز) التي أدّت دورًا مهمًّا في مؤسسات الأمم المتحدة لإحداث التوازن النسبي في العلاقات الدولية مكّنت العديد من حركات التحرر والشعوب في نيل حريتها والتخلص من الاستعمار.

بعد تفكك المنظومة الاشتراكية ودول عدم الانحياز فرضت الولايات المتحدة هيمنتها التامة على المنظومة الدولية، وبدأت تمارس سطوتها السياسية والقانونية بحيث أصبحت قرارات واشنطن (الكونغرس الأمريكي والبيت الأبيض) تطغى على قرارات الأمم المتحدة. إنّ سيطرة الإدارة الأمريكيّة على النظام المالي العالمي من خلال تحكمها في نظام سويفت للتحويلات المالية، واعتبار الدولار الأمريكي معيارًا لقيمة العملات العالمية الأخرى، كل ذلك مكّنها من استخدامها لفرض العقوبات الاقتصادية والمالية على الدول والشركات والأفراد الذين يعلنون مواقف مناهضة للسياسة الأمريكية.

والمدقّق بالأحداث ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي يلاحظ أن حركة الولايات المتحدة المتناسقة مع إسرائيل وحلفائها داخل الأمم المتحدة كان أولى أولوياتها إلغاء القرار الأممي ٣٣٧٩، وهذا يوضح أن الأيديولوجية الصهيونيّة أيديولوجية السياسيين المتنفذين في حكومات الدول الغربية ومراكزها المالية والاقتصادية التي أدّت دورًا في تقويض التطلّعات المشروعة لاكتمال استقلالهم الاقتصادي والاجتماعي.

لقد تأكّد بالملوس أن الاستقلال السياسي للدول لم يكتمل بالاستقلال الاقتصادي، بل تحوّل الاستعمار من شكلٍ إلى آخر وربط نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية كافةً بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الذي أصبح يفرض شروطه على الحكومات حتى وصلت إلى المناهج التعليمية وطرق عيش شعوبهم، بحيث أصبحت الأيديولوجية الصهيونية الناظم لسياسات الدول الغربية، ومعيار الالتزام به هو الدفاع عن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية لدولة الاحتلال الإحلالي الإسرائيلي. هذا السلوك الذي مورس بوضوحٍ وفجاجةٍ تامةٍ في هيئات الأمم المتحدة، عبر الدفاع الأعمى والمستميت عن الممارسات الإجرامية للاحتلال الإحلالي الإسرائيلي جعل الأمم المتحدة وهيئاتها تقفُ عاجزةً عن ممارسة بنود ميثاقها. فالدفاع عن المصالح الأيديولوجية الصهيونية الذي تقوده الحكومة الأمريكية بدعمٍ من الكونغرس الأمريكي وتشريعاته التي تدافع عن إسرائيل المعبر الرسمي والقانوني للأيديولوجية الصهيونية وصل إلى مرحلة خوض الحروب العبثية وغير القانونية في العراق وأفغانستان تحت ذرائع كشفت الأيام عدم صحتها وأكدت أن الذريعة الوحيدة الصحيحة هي تهديد العراق للمصالح الصهيونية الإسرائيلية.

إنّ الدفاع عن المصالح الصهيونية الإسرائيلية في غزو الولايات المتحدة للعراق والدمار والضحايا المدنيين و٥٠٠ ألف طفل عراقي قضوا نتيجة الحصار والعدوان دفع وزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت وبكلّ صلافة للدفاع عن مشروعية قتل ٥٠٠ ألف طفل عراقي ثمنًا للدفاع عن المصالح الأيديولوجية الصهيونية لإسرائيل الإحلالية، عندما أجابت على سؤال الصحفية ليزي شتائل في برنامج ٦٠ دقيقة (موجود على اليوتيوب): هل قتل ٥٠٠ ألف طفل عراقي ثمنًا يستحقّه غزو العراق؟ أجابت بكلّ وقاحةٍ نعم! وهذا يؤكّدُ بوضوحٍ أنّ الفكر الصهيونيّ ليس مقتصرًا على الرأسماليين اليهود، إنّما عبر التدقيق هي سجل معظم السياسيين الغربيين، وخاصّةً في الولايات المتّحدة يوضح انتماءهم للأيديولوجيّة الصهيونيّة التي تحملُ في جوهرها الطابع العنصري والتمييز وتبرر القتل الجماعي والطرد والتهجير لكلّ من يعادي الفكر الصهيوني ومعظم رؤساء الولايات المتّحدة هم صهاينةٌ ويفتخرون بِصهيونيتهم سواءً أكانوا جمهوريين أو ديمقراطيين وأبرزهم الرئيس جو بايدن الذي كرّر انتماءه للعقيدة الصهيونيّة في تموز ٢٠٢٢ أثناء زيارته إلى إسرائيل وصرّح أنه يفتخر بِصهيونيّته.

إنّ صهيونية معظم القادة السياسيين الغربيين الذين يدعمون الممارسات العدوانية الصهيونية في فلسطين كانت الأساس لتقويض عمل المنظمات الدولية التي تمارس ازدواجية المعايير في نظرتها للمشكلات ذاتها؛ حيث تبرر العدوانية الإسرائيلية الصهيونية في إسرائيل ولا تدقق في الجوهر العنصري والإرهابي لِلممارسات الإجرامية التي مارستها المنظمات الصهيونية شتيرن والهاجانا  بحق الفلسطينيين منذ عام ١٩٢٢ تحت أنظار الانتداب البريطاني الذي رعى هذه الممارسات العدوانية وبعد قيام دولة اسرائيل أصبحت هذه الممارسات الإرهابية تكتسب طابع إرهاب الدولة التي تجيز تهجير وقتل الفلسطينيين واعتقالهم وطردهم من أرضهم من جانب.

ومن جانبٍ آخر نراها تقفُ بكلّ ما تملك من إمكانيّاتٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ واقتصاديّةٍ وإعلاميّةٍ وماليّة ضدّ ما تسمّيه عدوانًا واحتلالًا، روسيا لِأُوكرانيا التي رئيسها يعلن أن موطنه الثاني هو إسرائيل لكن عقيدته الأولى هي الفكرة الصهيونية هذا الاعتقاد الذي منح على أثره إعفاء من الخدمة العسكرية في ظل حربه القائمة لكل اليهود الأوكرانيين الذين غادروا الأراضي الأوكرانية إلى إسرائيل وبالتأكيد هو سيلحق بهم بعد التضحية بآخر أوكراني أرثوذكسي!

وفي أحدث موقفين لكل من وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو ونائبة وزير الخارجية الأمريكي الحالي فيكتوريا نولاند. الأول مايك بومبيو صرح حسب الغارديان البريطانية في ١٧-٠٢-٢٠٢٣أنه لا يعتبر إسرائيل دولة محتلّة وينظر إلى الرئيس عباس إرهابيًّا، في حين صرحت فيكتوريا نولاند أنها سترشح نتنياهو لجائزة نوبل للسلام.

أما عن الاعتراضات الأوروبية أو الأمريكية حول توسيع إسرائيل لِمستوطناتها، فإنها كلامٌ إنشائيٌّ مكرّر لا معنى له، خاصّة أن مندوب الولايات المتحدة في مجلس الأمن اعترض على طرح المسألة فيه.

العقيدة الصهيونية هي بالجوهر عقيدة رأس المال اليهودي الصهيوني التي عملت على مدار عشرات السنين للاندماج رأس المال المالي ومراكزهِ حتى أصبحت هي العقيدة الرأسمالية النقيضة لكل حركات التحرر الوطني وضد التطلعات الوطنية للدول الصاعدة التي ترى تطورها المستقل البعيد عن سيطرة مراكز رأس المال، وهذه العقيدة هي في الجوهر مع الحكومات والديكتاتوريات العائلية والعسكرية إذا ما خضعت لسياساتها، فهي كانت مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وكانت دائما ضد تطلعات الشعوب في الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الإنسانية.

وما يجري اليوم من صراع في أوكرانيا في جوهرهِ صراعٌ لِإعادة التوازن ما بين الدول والقوى الوطنية المناهضة لِهيمنة العقيدة الصهيونية وبين القادة الغربيين وفي مقدمتهم قادة البيت الأبيض الذين يحملون العقيدة الصهيونية التي أصبحت عقيدة رأس المال الغربي الذي يريد أن يفرض هيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية على دول وشعوب العالم. واستمرار الصراع في أوكرانيا يكشف جوهر العقلية العنصرية الصهيونية لمعظم القادة الغربيين الذي ناظِمَهُم الأيديولوجية الصهيونية ومِعيارَهُم الموقف الإيجابي من إسرائيل العدوانية وكل يوم تتكشف صهيونية هؤلاء وتتعمق الهوة بين الأيديولوجية الصهيونية وأيديولوجية قوى التحرر الوطني والدول الوطنية الصاعدة.