فوجئت دول العالم والمراقبون لتطورات الحرب في أوكرانيا، بقرار محكمة الجنايات الدولية القاضي باعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومفوضة شؤون الطفولة الروسية بتهمة ارتكاب جرائم حرب على خلفية الحرب في أوكرانيا، وتحت زعم ترحيل قسري لأطفال من أوكرانيا إلى روسيا.
فهذا القرار كما وصرح أكثر من مسؤول روسي مثل " ماريا زخاروفا ، وديمتري بيسكوف والسفير الروسي في الأمم المتحدة "فاسيلي نيبينزيا"، ورئيس مجلس الدوما الروسي "فياتشيسلاف فولودين" باطل قانوناً ولا معنى له بالنسبة لروسيا، لأن روسيا ليست عضواً في محكمة الجنايات الدولية، شأنها شأن الولايات المتحدة والصين وأوكرانيا وليست عضواً في نظام روما الأساسي للمحكمة، ولا تتحمل أي التزامات بموجبه، ولا تتعاون روسيا مع هذه الهيئة، وستكون " الوصفات " المحتملة للاعتقال الصادرة عن المحكمة الدولية ،باطلة قانوناً بالنسبة لموسكو"، ومن ثم فإن القرار في التحليل النهائي كما قال نائب رئيس مجلس الأمن القومي " ديمتري ميدفيدف" "لا يساوي في قيمته ورقة التواليت بعد استخدامها".
فقرار المحكمة بالإضافة إلى أنه باطل قانوناً، فإنه مسيس بامتياز، وتقف ورائه الولايات المتحدة وبقية دول الغرب الاستعماري، التي انبرى رؤسائها من بايدن إلى ماكرون إلى شولتز، بالإضافة للرئيس الأوكراني زيلينسكي، إلى التصفيق له والاعلان عن دعمه بشكل ساذج، رغم إدراكهم أن تطبيقه من سابع المستحيلات، نظراً لما تمثله روسيا ورئيسها من وزن دولي وحضور كاسح، وما تنطوي عمليتها الخاصة في أوكرانيا من شرعية الحفاظ على الأمن القومي الروسي، ونظراً لما تمتلكه روسيا من إمكانات اقتصادية وعسكرية هائلة، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنها القوة النووية الأولى في العالم بحكم امتلاكها (6500) رأس نووي وآلاف الصواريخ الفرط صوتية، التي تتجاوز سرعتها ثلاثة عشر ضعف سرعة الصوت.
فهذا القرار، أثار استهجان أوساط عديدة في الرأي العام العالمي، من دول وكيانات حقوقية وأحزاب سياسية ونقابات مهنية، ومنظمات لحقوق الانسان، واتحادات صحفية وثقافية، لأنه يعكس ازدواجية فاقعة جداً في المعايير، وراحت هذه الأوساط تطرح أسئلةً حادة من نوع: أين كانت هذه المحكمة من جرائم الحرب، التي ارتكبتها إدارة الرئيس بوش وذيله البريطاني "توني بلير" في العراق، التي أودت بحياة مليوني مواطن عراقي وأدت إلى تشريد مئات الألوف من العراقيين، رغم انكشاف كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق التي اعترف بها وزير الخارجية الأمريكية آنذاك كولون بأول، رغم أن الحرب على العراق عام 1991 وحصاره على مدى (13) تم خارج إطار مجلس الأمن؟! وأين كانت هذه المحكمة من مجرمي الكيان الصهيوني، الذين ارتكبوا على مدى عدة عقود ولا زالوا يرتكبون مجازر ومحارق واغتيالات دموية في فلسطين، وعلى رأسها مجزرة صبرا وشاتيلا ومجزرة مخيم تل الزعتر؟ وأين كانت هذه المحكمة من تقرير غولدستون بشأن العدوان على غزة عام (2008-2009)، ومن المجازر التي ترتكب يومياً في الضفة الغربية؟ وأين كانت هذه المحكمة من المجازر التي ارتكبها حلف الناتو في صربيا؟ وأين كانت هذه المحكمة من المجازر التي ارتكبها حلف الناتو في ليبيا وإعدام الرئيس معمر القذافي خارج إطار القانون؟ وقائمة الأسئلة تطول ولا حصر لها.
لقد بات معلوماً لدى القاصي والداني، أن هذه المحكمة ومعظم المؤسسات التي يطلق عليها "مسمى دولية" مثل "منظمة حظر الأسلحة الكيماوية " و"الوكالة الدولية للطاقة الذرية" ، لا تعدو كونها مجرد أدوات بيد الدول الغربية، تطلق التهم والأكاذيب جزافاً فقط ضد الدول الرافضة للهيمنة الأمريكية والغربية، وتطالب بفرض العقوبات عليها، وفي الذاكرة التقارير الكاذبة، التي روجتها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية ضد سورية والتقارير الكاذبة التي يروجها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية "رافائيل غروسي" ضد إيران، في حين يغض النظر عن امتلاك الكيان الصهيوني لما يزيد عن ( 400) رأس نووي، ويعتمد على هذا الكيان في معلوماته الزائفة ضد إيران.
قرار المحكمة – أداة الغرب الاستعماري - رغم إدراك الولايات المتحدة باستحالة تطبيقه إلا أنه في السياق السياسي والإعلامي، يستهدف عزل روسيا دولياً، بعد فشل حزم العقوبات غير المسبوقة في التاريخ في عزلها وتركيعها، ويستهدف شيطنة الرئيس الروسي، وخلق حالة من العزلة بينه وبين عموم الشعب في الاتحاد الروسي، وتوظيف بعض الليبراليين الروس المعترضين على العملية الخاصة في أوكرانيا، لرفع صوتهم ضد الرئيس بوتين وسياساته ، ما حدا بالرئيس أن يوقع مرسوماً بمعاقبة من يعمل على تشويه سمعة العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، بالسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً، وغرامات مالية تبلغ 5 ملايين روبل (66 ألف دولار تقريباً).
وهذه الأهداف غير قابلة للتحقق أيضاً، في ضوء أن قوى وازنة في العالم وعلى رأسها الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا ودول التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إضافة إلى دول في أوروبا " صربيا وهنغاريا" ترفض عزل روسيا، سواء من زاوية مصلحية أو من زاوية مبدئية، وتؤيد علناً أو ضمناً عمليتها الخاصة في أوكرانيا، وترفض شراء البضاعة الفاسدة، الصادرة عن الإدارة الأمريكية وأداتها "محكمة الجنايات الدولية".
ويبقى السؤال: ما هي العوامل التي دفعت الإدارة الأمريكية، لاستصدار هذا القرار من محكمة الجنايات الدولية؟
في التقدير الموضوعي تتمثل هذه العوامل فيما يلي:
1-فشل الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي بعد مرور عام على الحرب في أوكرانيا في تحقيق أهدافها، في تركيع روسيا اقتصاديا عبر مسلسل العقوبات، إذ أن هذه العقوبات أصابت الدول الأوربية في مقتل، عبر ارتفاع أسعار الطاقة ومختلف السلع وارتفاع منسوب التضخم إلى معدلات غير مسبوقة، إثر خفض روسيا إمدادات الغاز لألمانيا وبقية الدول الأوربية، في الوقت الذي صمد فيه الاقتصاد الروسي بما في ذلك تحقيق الروبل قفزات قياسية في مواجهة العملات الغربية.
2- فشل حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، في تحقيق اهدافه العسكرية بهزيمة الجيش الروسي، كخطوة على طريق هزيمة روسيا وتفكيكها، إذ أنه رغم دعم الغرب لنظام زيلنسكي في أوكرانيا وللمتطرفين النازيين، بعشرات المليارات من الدولارات ومشاركته الضمنية في الحرب، وتزويده بكل أنواع القذائف المضادة للدروع وبالصواريخ المضادة للطائرات، وبالدروع والمدافع العملاقة، وبمختلف الذخائر لدرجة أن مخازن الولايات المتحدة والدول الغربية فرغت من محتوياتها، وبالمعلومات الاستخبارية، ورغم تدريبه لآلاف الجنود الأوكرانيين على الأسلحة المتطورة، ومده نظام زيلينسكي بآلاف الجنود تحت عنوان "التطوع"، إلا أن معطيات المعارك على الأرض في فصل الشتاء كانت لمصلحة الجيش الروسي. فالجيش الروسي بعد أن تجاوز تراجعه من مدينة خاركيف في سبتمبر ( أيلول) 2022 وانسحابه من مدينة خيرسون" في نوفمبر (تشرين ثاني ) 2022، تمكن باقتدار في هجوم الشتاء من تحرير منطقة "سوليدار" والعديد من البلدات في جمهورية "دونيتسك" الشعبية في فبراير (شباط ) الماضي، وها هو على وشك الاطباق على مدينة " باخموت" الاستراتيجية، التي تحولت حسب العديد من المراقبين العسكريين، إلى مفرمة للحم الجنود الأوكرانيين والبولنديين والمرتزقة من أمريكيين وبريطانيين، الذي قدروا خسائر الجيش الأوكراني ومن معه ب (11) ألف قتيل.
كما أن القوات الروسية في طريقها لتطويق مدينة "كوليدار" وتمكنت – حسب العديد من المراقبين – من تثبيت خط دفاعي محكم في المناطق المسيطر عليها، ناهيك عن حدوث تقدمات مهمة في محور زاباروجيا جنوباً وكريمينايا شمالاً، الأمر الذي عكس تغيّراً جذرياً في تكتيك الحرب بعد قرابة عام على انطلاقها.
وهذه التطورات، باتت تؤكد أن ميزان القوى على الأرض، بات يميل لمصلحة الجيش الروسي، في مواجهة الجيش الأوكراني والقوميين المتطرفين، وقوات "الناتو" المنتشرة في أوكرانيا تحت عنوان مدربين ومستشارين ومتطوعين، وأن الجيش الروسي بات قادراً على حسم المعركة لمصلحته، لتحرير ما تبقى من مدن في عموم إقليم "الدونباس" في فصل الربيع، كخطوة على طريق زحفه للعمق الأوكراني، لفرض شروط روسيا السياسية وعلى رأسها تحييد أوكرانيا ومنع انضمامها لحلف الناتو.
3- وفشل حلف الناتو في تحقيق أهدافه سالفة الذكر، يعني بداية النهاية للهيمنة الأمريكية وفتح الباب أمام عالم متعدد الأقطاب، وفق نظام دولي جديد، وفق ما توافقت عليه روسيا والصين وأطراف حلف البريكس وإيران.
وهذه العوامل مجتمعة، تفسر حالة الاحباط واليأس التي دفعت الادارة الأمريكية، لاستصدار القرار من محكمة الجنايات الدولية، خاصةً بعد حادث سقوط طائرة التجسس الأمريكية قرب شبه جزيرة القرم في البحر الأسود، فهذه الإدارة وهي تعيش صراع البقاء على رأس النظام الدولي، باتت تتخبط سياسياً وعسكرياً، وتجر ورائها دول القطيع التابعة في الاتحاد الأوروبي.
والخشية هنا في ظل أزمتها المستفحلة، أن تدفع الأمور باتجاه سياسة حافة الهاوية، بل باتجاه الهاوية نفسها، وهو ما حذر منه الرئيس الصربي "الكسندر فوتشيتش"، بأن قرار محكمة الجنايات الدولية بتوقيف الرئيس بوتين، قد يفتح المجال باتجاه حرب عالمية ثالثة.
