في خطابه عن "حال الاتحاد" أمام الكونجرس الأمريكي في فبراير الماضي أكد الرئيس جو بايدن أن "المنافسة وليس المواجهة" مع الصين هي السياسة الأمريكية المعتمدة، وقبل ذلك حرص بايدن، في لقائه مع الرئيس الصيني شي جينج بينج على هامش قمة بالى لدول "مجموعة العشرين" (14/11/2022) على تأكيد هذا المعنى ذاته: "المنافسة وليس المواجهة" لكن الواقع الحقيقي بين البلدين يقول عكس ذلك، على الأقل من المنظور الأمريكي. فالولايات المتحدة، وعلى لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن أكدت، أن "الصين هي البلد الوحيد الذي يسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي، ولديه القدرة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والدبلوماسية على تحقيق ذلك"، مشيراً إلى أن "رؤية بكين (لما تريده من نظام عالمي جديد) ستبعدنا عن (القيم العالمية) التي أدامت كثيراً من التقدم العالمي خلال الـ 75 عاماً الماضية". والمقصود هنا بـ "القيم العالمية" هي فلسفة "الليبرالية الغربية السائدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية". أي أن الصين باتت تمثل في الإدراك الاستراتيجي الأمريكي تهديدين الأول إستراتيجي يهدف إلى زعزعة التفرد الأمريكي بقيادة العالم والسيطرة عليه، والثاني قيمي، يسعى إلى استبدال منظومة القيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الغربية، بمنظومة قيم أخرى تدعمها الصين، أو تسعى على الأقل، إلى تهميش تلك المنظومة من القيم الغربية كقيم يجب أن تكون لها "السطوة" و"التفرد" أيضاً لدى معظم دول العالم.
الإدراك ذاته كشفه مسئولو الاستخبارات الأمريكية الذين أكدوا أن الصين "تشكل أكبر تهديد للأمن القومي الأمريكي"، محذرين من محاولاتها التعاون مع روسيا في حرب أوكرانيا. وردت هذه التأكيدات خلال جلسة استماع عقدتها لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي، بمشاركة مديرة الاستخبارات الوطنية أفريل هاينز، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آى إيه) ويليام بيرنز، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف . بى. آى) كريستوفر راى. وقالت هاينز "باختصار يمثل الحزب الشيوعي الصيني التهديد الرئيسي والأكثر تداعيات على الأمن القومي للولايات المتحدة والقيادة (الأمريكية) على مستوى العالم"، مؤكدة أن "السنوات القليلة المقبلة حاسمة مع اشتداد المنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، لاسيما فيما يتعلق بكيفية تطور العالم، وما يمكن كبح ومنع صعود الاستبداد". وأضافت "الحزب الشيوعي الصيني يزداد اقتناعه يوماً بعد يوم، بأنه لا يمكنه تحقيق رؤية الرئيس الصيني شي جينج بينج للنظام العالمي المأمول إلا على حساب قوة الولايات المتحدة على الساحة الدولية".
أما ويليام بيرنز رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية فركز على الخطر من منظور توقع دعم الصين لروسيا بما وصفه "أسلحة فتاكة" لتعديل ميزان القوى لصالح روسيا في الحرب الأوكرانية، وكرر المعنى ذاته في حديث مع شبكة "سي.بي. إس نيوز" الأمريكية (24/2/2023) بقوله "نحن على ثقة أن القيادة الصينية تدرس توفير أسلحة فتاكة" الأمر نفسه ورد على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن في مؤتمر ميونيخ للأمن (18/2/2023) عقب لقائه مع نظيره الصيني وانج بي عندما حذر بلينكن الوزير الصيني تكرار حادثة "المنطاد الصيني" الذي اسقطته الولايات المتحدة مقابل الشواطئ الأمريكية، وحذره أيضاً من "تداعيات وعواقب" ستطال الصين إذا تبين أنها قدمت "دعماً مادياً" إلى روسيا في حربها في أوكرانيا.
الملفت أيضاً أن هذا الإدراك الأمريكي للصين كمصدر استراتيجي للتهديد نجحت الولايات المتحدة في إملائه على حلفائها الغربيين في حلف شمال الأطلس (الناتو) على نحو ما ورد على لسان ينس ستولتنبرج الأمين العام للحلف خلال مؤتمر صحفي في بروكسل، حيث أعلن أن وزراء دفاع الحلف اتفقوا في اجتماعهم ببروكسل (15/2/2023) على "مفهوم جديد للتخطيط العسكري للحلف يأخذ في الاعتبار التهديدات من الصين".
وقال في مؤتمر صحفي عقب اجتماع وزراء الدفاع المشار إليه أن "الحلفاء اتفقوا على مفهوم جديد للتخطيط الدفاعي للناتو.. هذا يعكس حقيقة جديدة مفادها أننا نعيش في عالم أكثر خطورة يؤكده السلوك العدواني لروسيا، وخطر الإرهاب، والتحديات من الصين".
من هناك جاء تحذير الجنرال الأمريكي مايكل مينيهان المنتمي إلى سلاح الجو الأمريكي من خطر "نشوب حرب مع الصين عام 2025 على الأرجح بسبب تايوان"، مبررا توقعه بأن "عام 2024 الذي سيشهد الانتخابات التايوانية سيمنح الرئيس الصيني سبباً للتحرك" واعتبر أن السباق الرئاسي للوصول إلى البيت الأبيض والمقرر إجراؤه في العام نفسه سيوفر أيضاً للصين فرصة وجود "أمريكا مشتتة". كل ذلك يؤكد أن الأمر لم يعد مجرد منافسة على مصالح أو أدوار بل تحول إلى صراع حقيقي بسبب إدراك الولايات المتحدة أن الصين أضحت قادرة على التهديد، وأن الصين يمكن أن تكرر تجربة روسيا مع أوكرانيا في تايوان، ناهيك عن الخطر المتفاقم يوما بعد يوم بسبب تزايد القدرات العسكرية الكورية الشمالية قوة، ومخاوف حلفاء الولايات المتحدة في منطقة شمال شرق آسيا خاصة كوريا الجنوبية واليابان لهذا الخطر.
فالأمريكيون لم يفتهم ذلك المشهد الصيني المثير جداً للاهتمام والتوجس، وهو المشهد الذى صفق فيه المندوبون الحاضرون في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني (أكتوبر 2022) عندما وصل الرئيس شي جينج بينج في خطاب الافتتاح إلى مقره يؤكد فيها أن بكين "لن تتخلى عن القوة كاحتمال لإعادة تايوان إلى البر الصيني"، ولم يفت الأمريكيون قيام الحزب الشيوعي الصيني بوضع بنداً في الدستور يعارض استقلال تايوان، ولعل هذا ما حفز الرئيس الأمريكي جو بايدن للإجابة بـ "نعم" رداً على سؤال من شبكة (سي.بي.اس" الأمريكية (18/9/2022) عما إذا كانت القوات الأمريكية ستدافع عن تايوان التي تعتبرها الصين "جزءاً من الوطن الصيني". وعندما طلب منه توضيح ما إذا كان يقصد أنه، على عكس الوضع في أوكرانيا، ستقوم القوات الأمريكية بالدفاع عن تايوان في حال حدوث غزو صيني قال بايدن "نعم". إجابة خطيرة تؤكدها الزيارة المنتظرة للرئيس الجديد لمجلس النواب الأمريكي "كيفن مكارثي" لتايوان في الربيع المقبل تكراراً للزيارة المماثلة التي قامت بها نانسي بيلوسي الرئيسة السابقة لمجلس النواب (2/8/2022) .
تأتى المواجهة المحتملة أيضاً مع كوريا الشمالية حليفة الصين لتفاقم من مخاطر المواجهة المحتملة، كما كشفتها مخرجات الاجتماع الثلاثي الأمريكي- الياباني- الكوري الجنوبي منتصف أكتوبر الماضي، لكن الأخطر منه هو ما أعلن عنه (13/3/2022) من تفاصيل من جانب زعماء الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا لتزويد استراليا بغواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية لمواجهة طموحات الصين في المحيطين الهندي والهادي. فقد أكد بيان مشترك أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الاسترالي أنتوني اليانيزى ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك صدقوا على خطط من أجل ما يسمى "مشروع أوكوس" الذي أعلن عنه لأول مرة عام 2021 في قاعدة سان دييجو البحرية بولاية كاليفورنيا الأمريكية.
تحرك هجومي – احتوائي أمريكي للصين فكيف سيكون الرد الصيني على هذه التحديات؟ هل تملك الصين القدرة على التمرد؟