Menu

أوروبا.. تحدّياتٌ داخليّةٌ وفوضى عالمٍ متغيّر

محمد صوان

نشهدُ اليوم نظامًا عالميًّا شديدَ التعقيد في تركيبته من حيث ازدياد عناصر القوّة عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعلميًّا، وصياغة توازناتٍ جديدةٍ للقوى الدوليّة، وقد يتقدّم عنصرُ قوّةٍ على آخر في مجالٍ معيّن، ويتراجعُ في مجالٍ آخر، فمثلًا لم تعد القوّة العسكريّة هي المهيمنة... إنّه نظامُ ما بعد الأحاديّة القطبيّة، الذي شرعت ملامحه النهائيّة بالتشكّل، في حين لم تتبلّور كلّيًّا قواعد وأنماط التفاعل بين فرقاء هذا النظام.

تحدّيات عالم اليوم:

ثمّة تحدّياتٌ تفرضُ نفسها على الأجندة العالمية، وهي ليست محصورةً بالتهديد العسكريّ فحسب، فهذا العنصرُ ينتمي إلى الأمس القريب والبعيد أيضًا، أمّا تحدّياتُ اليوم فتستدعي مقارباتٍ مغايرةً تقومُ على تعاونٍ جماعيٍّ متعدّدِ الأطراف؛ إذ إنّها تطال مصالح الجميع ولو في أوقاتٍ متنوّعة، ومن هذه التحدّيات الضاغطة على الوقائع الراهنة، قضيّة التغيير المناخي، ومشاكل الاحتباس الحراري، وانحياز "الصفائح التكتونيّة" المؤدّية إلى الزلازل والبراكين فوق سطح الكرة الأرضيّة في أكثر من مكانٍ في عالم اليوم.

لا يزال التغيير المناخي أحد أبرز أسباب غياب الأمن الغذائي وزيادة معدلات المجاعة والتصحّر، وهي أمورٌ تؤدّي كلّها إلى صراعاتٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّة، وأخرى هُويّاتيّة، وفي كلّ بلدٍ بذاته؛ بسبب قلّة الموارد، وتدفعُ نحو التغيير الديمغرافي والهجرة الجماعيّة بما تحمله هذه الأخيرة من ارتداداتٍ على الدول المصدّرة للهجرة وتلك المستقبلة لها، إلى جانب ما تحدثه هذه الهجرة "غير الشرعية" من توتّراتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ ذات تداعياتٍ سياسيّةٍ تغذّي التطرّف والشعبويّة والخوف من الآخر.

ظاهرةٌ أخرى تمثّلُ تحدّيًا عالميًّا، هي موجات ارتفاع أسعار الضروريات المعيشية القياسيّة التي أعقبت الحرب الروسية – الأوكرانية، وارتفاع أسعار الطاقة، والمواد الغذائية في ظلّ اقتصادياتٍ لم تتعافَ كليًّا من التداعيات الاقتصادية لـ "كوفيد 19" على الرغم من مدفوعات الدعم الكبيرة التي سارعت الحكوماتُ بتقديمها في محاولةٍ للتخفيف من حدّة الأزمة على المواطنين، فقد قامت وتواصلت الاحتجاجات والإضرابات في معظم العواصم الأوربيّة، بل تطوّرت فيما قد يتسبّب في قلاقل سياسيّةٍ خلال الفترة القادمة.

لقد توالت الموجات الاحتجاجيّة والإضرابات في أنحاء "القارة العجوز أوروبا" رافعةً مطالب اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة، من بينها إيجادُ تسويةٍ سياسيّةٍ للأزمة الأوكرانيّة، وزيادة الموازنات الحكوميّة لمعالجة أزمة غلاء المعيشة بالرغم من الاستجابة النسبيّة لبعض تلك الاحتجاجات والمطالب، غير أنّ معدّلات التضخّم المتصاعدة أفقدت زيادة الأجور جدواها؛ الأمرُ الذي فاقم وتيرة الاحتجاجات والإضرابات.

الخصوصيّةُ الأوروبيّةُ لإدارة الأزمة:

أزماتٌ جديدةٌ يُنْظَر إليها في أوروبا خلال العام الحالي، تتطلّبُ جهودًا إضافيّةً لمعالجتها، واستمرار روح التعاون في خضم الحرب الأوكرانيّة – الروسيّة، مع تطوّر معارك "الجغرافيا" على مجتمعاتها.

ربّما يكون انتصار روسيا في هذه الحرب مأساةً بالنسبة لأوكرانيا، لكنّه خطرٌ داهمٌ على أوروبا، مما يستدعي مواجهة ظروفٍ مغايرةٍ تمامًا، تستكملُ عبرها أوروبا مسألة الخروج من الانكماش الاقتصادي، والأزمات الحياتية المتوالية "أزمة الغاز والطاقة والغذاء، وقانون الحمائية الأمريكي".

كلّها أزماتٌ يستفيد منها أقصى اليمين الأوروبي الشعبوي، ويحاول استثمارها للوصول إلى السلطة في نسق خطابٍ قوميٍّ، وأحيانًا عنصريّ، يقف في مواجهته المتشبثين بالاتحاد الأوروبي للحفاظ على نموذجهم، بالرغم من النزعة "فوق الوطنيّة" التي يبديها التيّار الآخر.. فالسيادةُ والحدود مترابطتان، ولا يمكنُ أن تتمتّع بالديمقراطيّة وتطبيق القانون والسيادة، في حال فتحت حدودها للتجارة والصناعة والهجرة أمام الدول الأخرى، وبذلك تفقد خصوصيّتها الوطنيّة.

السؤال المقلق اليوم بالنسبة للأوروبيين: ما الذي سيكونُ عليه موقف الاتحاد الأوروبي، لو تأزّمت الأمور أكثر فأكثر بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة من جهة، والصين وروسيا من جهةٍ أخرى؟!

إلى أن يتوضّح مآل الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة المتفاقمة، تدورُ عجلات اليمين الشعبوي بأقصى سرعة، ولا أحد يعلم على ماذا سترسو الظاهرة اليمينية الشعبوية.. فبين الاستراتيجيّة والهُويّة، تريد حكومات الاتّحاد الأوروبي أن تظهر أنّها قادرةٌ على تطبيق إصلاحاتٍ تحدُّ من تطرّف الخطاب الشعبوي، ومن ثَمَّ إيهام المكوّنات الجديدة "بإعادة التوهّج إلى العالم" عبر تقديم المساعدات الاجتماعيّة "قرابة 400 مليار يورو" للتخفيف من عبء الأزمات، لكن لن يطول الوقت حتى تتكشف أزمة تلو الأخرى، لتطال الأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة "فالدولةُ ليست سوى صندوقٍ مغلقٍ للهيمنة، يقف وراءها منظومةٌ من المؤسّسات" حسب المفكّر الإيطالي غرامشي.

ترتفعُ وتيرة المجادلات والحوارات في البرلمانات الأوروبيّة بشأن مشاريع قوانين الهجرة، والتركيز على استقطاب اليد العاملة، وبرنامج التنمية، وخطط إنعاش القطاعات العامة التي دخلت نفقًا مظلمًا، كذلك القطاعات الأخرى التي تلامس انهياراتٍ في مرحلةٍ خارجةٍ عن المألوف، والإحساس في أوروبا اليوم أنّها ضحيّة كل أنواع التلاعب التي تحمل معها شتى المخاطر.

تشهدُ أوروبا اليوم انخفاضًا في الناتج المحلّي الإجمالي "قرابة 4،6%" والركود المتنامي بسبب أزمة الديون السيادية، فتمتزج النيوليبرالية بالتشكيك بالرأسمال الرمزي المتوفّر على الدوام، وأيضًا بكراهية الأجانب، والسؤال مرّة أخرى عن مدى تجسيد التعاون بين دول الاتّحاد الأوروبي في المرحلة المقبلة، خصوصًا إذا ما انتهت الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة؟!

أوروبا معنيةٌ بالبحث عن حلولٍ ودراسةِ آلية التعاون مع روسيا من أجل إعادة البناء وتكريس قوةٍ اقتصاديةٍ مشتركةٍ بين دولها؛ إذ من المحتمل التفاوض لاحقًا على "تقسيم الأراضي الأوكرانية".. ولا يمكن هنا تجاهل روسيا، حتى لو افترضنا هزيمتها.

هناك قضايا أخرى في الواجهة، منها: استراتيجية أوروبا للعيش من دون نفط، والفوز بمعركة التحول البيئي، وحسن استخدام الطاقة النووية، ومستقبل العلاقات التجارية مع الصين.. لكن أكثر ما يقلق أوروبا هم الأوروبيون أنفسهم في حياتهم اليومية، وقد أنهكتهم التحديات، مما يؤدي إلى نفاذ صبرهم في معركتهم ضد التضخم، والتخوف من تقدم اليمين الشعبوي وهيمنته على مؤسسات المجتمع المدني المتتالية، بالتدريج.

اليسار واليمين يتناوبان على السلطة: 

رافق فوز الائتلاف اليميني الإيطالي بزعامة حزب "أخوّة إيطاليا" اليميني مؤشّرًا رئيسيًّا ليس في إيطاليا وحسب بل في أوروبا أيضًا، لجهة التحوّل في مزاج  المقترعين في المدن والمناطق البعيدة، وعدم انتظام الحياة السياسية والاقتصادية والديمقراطية التمثيليّة؛ إنّها بنيةُ النظام السياسي الأوروبي ككل التي تعاني شقوقًا، بحيث بات اليسار واليمين يتناوبان على السلطة من منصاتٍ متباعدةٍ عن الناس وهمومهم وفقرهم، مجتمعات تعاني من الانقسام العمودي بين النخب في المدن الكبيرة، وبنيةٍ تراكميّةٍ من انهياراتٍ اقتصاديّةٍ وأعباءٍ اجتماعيّةٍ أدّت إلى الارتباك والغضب الشعبي، والقسمة العضويّة بين الأصوات وتداخلها بين اليمين واليسار... فالسلطةُ لم تعد منفصلةً بمشكلاتها، بفعل العولمة والمنظّمات والنقابات والتكنولوجيا والأسواق خلال "أزمة كورونا" ثمّ الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، مرورًا بمشكلات الهجرة والهُويّة.

لا تخلو صحيفة أوروبيّة يوميًّا من الإشارة إلى قوارب المهاجرين الهاربين من سوء المعيشة والحياة في بلدانهم إلى شواطئ القارة الأوروبية بحثًا عن "حلم الحرية والديمقراطية" فيواجهون الحياة القاسية والتفاوت الاجتماعي الهشّ، برفض إعطائهم حق اللجوء، وعمليّات الرقابة والتفتيش وموجبات المغادرة.. مشقة الحياة المتطرّفة تتطلّبُ تصويتًا متطرّفًا.. لكن، ليست كل الأصوات الذاهبة إلى اليمين الشعبوي منحازةً لبرنامجه.. وليست كل الأحزاب الأوروبية موافقةً على مركزية بروكسل وقراراتها بوصفها تنتقص من السيادة الوطنية.

يشيرُ هذا كلّه إلى مراحلَ انتخابيّةٍ وأوضاعٍ معيشيةٍ سيئةٍ غير مستقرّةٍ على جبهتي اليمين واليسار، ولا تملك الأحزاب والتيارات السياسية على اختلافها حلولًا سحريّةً لمشكلاتٍ متفاقمة، فأوروبا ليست في مأمن، إنّه المغزى السياسي لما يجري، لحظة افتراق بين الديمقراطية والمساواة والعقلانيّة، فيستسلم الجمهور إلى التحريض العنصري ومخاطره، وتقلب "الطربيزة" على الحكومات كأسهل الحلول الشعبوية، فتدير مجتمعات عديدة ظهرها إلى منظومة القيم الأخلاقية والتاريخية نموذجًا للتعايش والتسامح والمساواة، ويتردد فيها صدى حجم مأساة اللاجئين والمهاجرين.

لم تعد الأيديولوجيات الحزبية، ذات اليمين وذات اليسار، تتحكم بالحالات السياسية التي تشهد تناقضات صارخة، ولم يعد بمقدورها التسبب بتغييرات سياسية جذرية.. تحتاج الدول الأوروبية إلى خطة طريق منهجية وواقعية للخروج من أزماتها، منعاً لطاهرة التشظي الكبير للرأي العام الذي بات يعتقد أن وجه أوروبا يتغير مع استنفاذ الديمقراطية التمثيلية لوسائلها، ومن ثَمَّ تستجيب المجتمعات الأوروبية لهذا النوع من الشعبوية المفضية إلى الفاشية التي انتهت منذ مدّةٍ تاريخيّة.

خلاصة القول: يتّسم النظامُ العالمي الحالي بكثيرٍ من الرخاوة، وتواجه الشعوب إشكالية الصدام بين الاندماج العالمي الذي تدفعُ نحوه مسارات العولمة كلّها، وبين مقاومة المنحى المتوحّش لهذا الاندماج الذي يؤدّي إلى تفكّك جدران وإقامتها بين الدول، وأيضًا ضمن المجتمعات الأوروبيّة.

إنّها إشكاليّةٌ شديدةُ التعقيد، لكنّها حاملةٌ لاحتمالات حدوثِ تطوّراتٍ إيجابيّةٍ نحو تناغمٍ بين تيارات العولمة من جهة، واحترام الخصوصيّات الوطنيّة من جهةٍ أخرى، أو نحو صدامٍ ومزيدٍ من التفكّك والتشظّي والفوضى في عالم اليوم.

نحن اليوم على مفترق طرقٍ يشهدُهُ تطوّر النظام العالمي الجديد الآخذ في التشكّل على الرغم من التحدّيات الهائلة والمتنوّعة التي تواجهنا.