أثناء كتابة هذه السطور دخلت حركةُ احتجاجات اليهود في كل من تل أبيب وحيفا و القدس ، أسبوعها الحادي عشر، وربّما ستواصل بعدما انتقلت من الاعتراض على نتنياهو ومطالبته بالامتثال للقضاء، إلى رفض كلّ توجّهات حكومة ائتلاف اليمين القومي الديني وإجراءاتها الأكثر فاشية في تاريخ "الدولة الصهيونية".
وكما جاء في المبدأ التوجيهي الأوّل لخطاب نتنياهو أمام الكنيست: "أن الحقوق القومية اليهودية هي في جميع أنحاء أرض إسرائيل التوراتية، بما في ذلك يهودا والسامرة وأورشليم" مشدّدًا على إنهاء الكيانية الوطنية الفلسطينية، فوظيفة الحكومة بحسب ما يسمى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، هي: "حماية أمن إسرائيل فقط"!
يمين صلب... ويمين ناعم!
مجتمعٌ كالمجتمع الصهيوني، يعيش حالة كبتٍ وإنكار، لا يوجد ما يشبهه في عالم اليوم، فهو منذ عقود متخصص بتضليل الرأي العام، وتحويل جدول الأعمال نحو موضوعات ثانوية عبر القفز على القضية الأساس الإشكالية "هوية الدولة وصورتها ومستقبلها" وتجاهل الوحش الكبير الموجود في الغرفة الثانية... وحش الاحتلال الذي لا يتحدث عنه أي من التيارين المتصارعين على السلطة.
مع نتنياهو أو من دونه لا تستطيع "إسرائيل" أن تعد نفسها دولة ديمقراطية ما دام هناك أكثر من ثمانية ملايين لاجئ خارج وطنهم الأصلي، وما يساويهم خاضعين لسيطرتها، ويواجهون حصارًا عنصريًّا وإرهاب دولة منظم، إنّها من أكثر الأنظمة التوتاليتارية وحشية في عالم اليوم. لكن "إسرائيل" تدّعي أنها "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" وهذا احتيالٌ مطلق، فهي دولةٌ ليبراليّةٌ مع اليهود فقط، وتطهيريةٌ عنصريةٌ ضد الشعب الفلسطيني، ثلاثة نماذج في دولة واحدة، واحد فقط بينها يمكن أن يعدّ ليبراليًّا، أما المزج بين الثلاثة، فيكشف زيف هذه الديمقراطية في ظل ثلاثة نماذج لثلاثة مجتمعات مختلفة.
على المجتمع الدولي التوقف عن اعتبار "إسرائيل دولة ديمقراطية" كونها وحشًا بثلاثة رؤوس.. كما يتعين على اليهود الكف عن الادعاء أنهم يعيشون في مجتمعٍ ديمقراطي، بل عليهم الاعتراف بأنهم أصحاب امتيازات فقط!
فوق سماء "الدولة" تربص غيمة ثقيلة.. والجدال حول "هوية الدولة" أصبح مشوّهًا.. وتحوّل إلى جدل بين يمينٍ متطرّفٍ وآخر معتدل متنكر في هيئة "حزب وسط"... لقد اتضح طبيعة ما أُطلق عليه "معسكر السلام"، على الأقل لمن كان متوهّمًا بوجوده، في أعقاب فشل اجتماع "كامب ديفيد2 عام 2000 "وبعد إعلان إيهود باراك "بعدم وجود شريك فلسطيني".
يبدو أن مستقبل الحوار داخل" إسرائيل" أصبح غير مشجع وعقيم، خاصة مع بروز جيل جديد أغلبيته من "اليهود المسيانيين الفاشيست" جيل شاب جاهل ومتطرف أكثر من الجيل الذي سبقه.
إن عملية التهميش ونزع الشرعية التي تعرض لها ما يسمى "اليسار في إسرائيل"، حوّلت كلمة اليسار إلى مفردةٍ مسيئة، حيث "حل اليساري محل المثلي، لعنةً مشتركة"، بحسب جريدة هآرتس يوم 22/2/23.
كذلك كلمة السلام التي اختفت من القاموس الصهيوني الديني، ولم يعد أحد يدعو لها، ولم يعد أحد يجرؤ على الحديث عنها. اليوم يتحدثون عن المقاربة بين الحروب، وإذا تحدثت عن السلام تصبح مهرّجًا. ربما هناك يسار في "إسرائيل" إلا أنه ضئيل الحجم، مهزوم وغير شرعي ومحكوم بالمطلق للرؤية الصهيونية الأم.
الشيء الأبرز واللافت للانتباه هو تسارع التحول تجاه اليمين القومي الديني ونزع الشرعية عن كل من يتجاوز هذه الحدود، وهذا الأمر لم يبدأ مع الانتخابات الأخيرة، إنّما وصل خلالها إلى ذروة جديدة. لم يظهر بين المرشحَيْن لرئاسة الحكومة، سواء نتنياهو أم لابيد، أي فارق فعلي عند الحديث عن مستقبل دولة الاحتلال.. الاثنان بالقدر نفسه، لا يؤمنان بتسويةٍ عادلةٍ مع الشعب الفلسطيني، فمن مجموع "120" عضو كنيست، هناك نحو "90" على الأقل، يؤيدون استمرار الوضع القائم، أي استمرار الاحتلال وقهر الفلسطينيين، وهذا لم يبدأ مع نتنياهو فحسب.
أقصى ما يمكن أن يقوله يائير لابيد قبل المظاهرات والاحتجاجات وبعدهما هو أنه: "سيستأنف عملية السلام" وليس هناك كلام فارغ أكثر من ذلك.. ولا حتى للواهمين بأن في أجندته حديث عن عن حل دولتين أو دولة، أو عن اتفاق ما، أو تجميد الاستيطان، أو إخلاء المستوطنات... فضلًا عن ذلك، فإن لابيد تعهّد بالبقاء في غور الأردن إلى ما لانهاية، والمضي قدمًا في بناء المزيد من المستوطنات ومصادرة الأراضي وضم القدس بشقّيها، هناك تتحدد التخوم بين جميع الفرقاء في "إسرائيل"، فجميعهم في سلةٍ واحدة: الرؤية الصهيونيّة ومشروعها الجامع لهم من يمين ويسار.
فعندما يكون الهدف من استئناف أطول مفاوضات في التاريخ، هو فقط من أجل المفاوضات.. مع شرط البقاء على كامل الأرض الفلسطينية، فإنه يصبح واضحًا تمامًا أن مَن راهن على اعتبار "اليسار" أملاً له في "إسرائيل" يبشّرنا اليوم بموت الفرصة الأخيرة لـما سمي برؤية "حل الدولتين" تمامًا مثلما دفن نتنياهو هذا الحل رسميًّا!
لكن الحل لم يمت، لأنه لم يولد أبدًا، فبعد "75" سنة على النكبة و "55" سنة على هزيمة حزيران، حان الوقت للاعتراف بأنه لم يأتِ سياسي إسرائيلي إلى موقع مسؤول وتحدث عن إنهاء الاحتلال، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، بل لم يخطر ببال أحد منهم – ولا حتى في حلمه – أن يعترف بحق هذا الشعب بإقامة دولة طبيعية متساوية بالحقوق مع جيرانها! لقد ظهرت في "إسرائيل" حكومات متوالية ديْدنها إدامة الاحتلال إلى ما لا نهاية، وليس إنهائه.
هكذا ينتقل القرار الحاسم إلى يد الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة بداية، ثم إلى المجتمع الدولي، مثلما حدث مع جنوب إفريقيا في الماضي، فالمقاومة وحدها ستحدث الفرق والتغيير. فحتى اللحظة ليس لدى "إسرائيل" ما يرغمها على تغيير سياساتها، المقاومة بكل أشكالها فقط تستطيع فرض المعادلة التي تدفع بموجبها "إسرائيل" ثمن الاحتلال وجرائمه، حتى لو افترضنا ظهور "دوكليرك إسرائيلي ومانديلا فلسطيني" فلن يكون لديهما أدوات ضغط وطنية محلية وأممية دولية لمواجهة "إسرائيل" المتحصنة بمشروعها الاستعماري الاستيطاني الإحلالي العنصري.
الحسم بيد الشعب الفلسطيني ومقاومته:
الدبلوماسية الفلسطينية مفيدة إعلاميًّا لاستنفار الرأي العام العالمي، وهي ذات تأثير في مجرى عملية التراكم النضالي والفوز بالنقاط، إلا أن الدبلوماسية وحدها غير كافية لردع عتاة المستوطنين الذين أصبحوا قادة "الدولة الصهيونية" وفي ظل قيادتهم المتطرفة في أيديولوجيتها ومواقفها، ستفتح المواجهات على مصراعيها بين أصحاب البلاد الأصليين الفلسطينيين من جهة - الذين بلغ عددهم داخل فلسطين التاريخية نحو سبعة ملايين نسمة - وبين الإسرائيليين المصنفين قوميين متدينين وليبراليين وإصلاحيين من جهة أخرى.
لقد صعدت في الفترة الأخيرة تصريحات غاضبة من أركان "المعارضة اليمينية العلمانية" الصهيونية، أبرزها تصريحات يائير لابيد وغانتس الداعية إلى إسقاط الحكومة بسبب مشاريعها حول "القضاء والتعليم" ووصفت ممارساتها "بالفاشية والنازية" وانطلقت التظاهرات في شوارع القدس وحيفا وتل أبيب وشارك فيها عدد من الضباط والوزراء السابقين، وهناك دعوات لمقاطعة التلاميذ للدراسة وإعلان العصيان المدني.
يتابع الشعب الفلسطيني هذه التطورات عن كثب، وظهرت بعض الدعوات الخيالية من بعض النخب الفلسطينية للمشاركة في الجهود الرامية لإسقاط حكومة ائتلاف اليمين القومي الديني الحالية ودعم "المعارضة". لكن السؤال هنا: ماذا بعد إسقاطها؟ وهل أحزاب المعارضة أقل صهيونية وعنصرية؟ وهل بينها حزب واحد يدعو إلى التسوية العادلة مع الشعب الفلسطيني وتمكينه من حقه في تقرير مصيره؟
هذا الصراع والاستقطاب الداخلي قديم على هوية الدولة الصهيونية بين المتدينين والعلمانيين. لقد كان مستتراً على مدى سبعة عقود، غير أنه طفى على السطح في العقد الأخير، فرغم إقرار "قانون أساس القومية" إلا أن تعريف من هو اليهودي ما زال لا يملك إجابة، أما ما يجمع هؤلاء الصهاينة فهو قمع وقهر الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه والتغوّل في نكران حقوقه، لذلك تبدو الدعوات إلى المشاركة الفلسطينية في إسقاط حكومة نتنياهو- بن غفير- سموتريتش، طوباوية بل إنها تصب في مصلحة الحكومة الحالية. وربما تُستغل لحرف الأنظار عن الصراع الداخلي وتوجيهه صوب الشعب الفلسطيني ومقاومته، بوصفه العدو المشترك "لكل الصهاينة" ومربط الإجماع لديهم، وهذا لا يعني بالطبع أن فلسطينيي الداخل المحتل، غير مطالبين بالنضال ضدها، بل هذا الوضع الناشئ يملي عليهم المضي قدمًا بكل أشكال النضال المتاحة المناهضة للمشروع الصهيوني، وكشف الوجه الحقيقي البشع للحركة الصهيونية ومشروعها الاستعماري الكولونيالي وممارساتها العنصرية الفاشية.
خلاصة القول:
آن الأوان لإحداث تحوّلٍ جذريٍّ في مجرى الصراع، وإنهاء الانقسام والتوصل إلى استراتيجيةٍ وطنيةٍ وقوميةٍ جامعةٍ تتمحور حول مشروع الدولة الديمقراطية الفلسطينية على كامل فلسطين التاريخية، فبالرغم من أن بعض القوى والفصائل ما زالت تعتقد أن "حل الدولتين" هو الهدف استناداً إلى مبررات واهية أهمها: الحفاظ على الاعتراف الدولي، متناسين أن الصراع كان وما يزال على كامل الأرض وحق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجّر منها شعبنا عام 1948.. لم يفت الأوان لإحداث التحوّل الجذري في جوهر الصراع، بالرغم من المصاعب والتضحيات، فالمصاعب الآنية لا تعني أن الأحداث لن تفضي إليها وتذللها مستقبلًا، بل ربما يفضي كل ما يحدث من تطورات إلى تفكك الدولة الصهيونية وفق النموذج الجنوب إفريقي.