"إنسان غالي وصديق، حبيبي كان علاء، شخص محترم وخلوق وصاحب مبدأ"، يقول صديقه حمزة ظاهر والذي يعمل في مهنة الحلاقة ويعمل الشهيد علاء في بقالة صغيرة تقيه برد الشتاء وحر الصيف قبالة صالون ظاهر.
يضيف صديق الشهيد: "عندما جاء خبر استشهادهم وقع كالصاعقة علينا جميعاً في بلدة سعير المعروفة بتاريخها النضالي المشرف، شعر علاء الذي تناثر في صالون الحلاقة لم اجمعه بعد، كان يقوم بقص شعره عندي، أول مرة اسمع منه جملة (بدي حلاقة عريس)، لم تساعدني كل القصص والأقاويل لتحليل جملته تلك ولكني قابلتها بالضحك وطلبت منه الجلوس والانتظار لحين الانتهاء".
ويكمل صديق الشهيد علاء بكل حسرة وآلم: "ابني خليل لم يتجاوز الثلاثة أعوام بكى مثلي حين علم باستشهاد علاء، فقد ذهب ابني ليشتري أكياس الشيبس منه قبل استشهاده بساعتين، فرفض الشهيد ان يأخذ منه ثمن الأغراض والحاجيات التي اشتراها منه، سَلم عليه وقبله وقال له (ان شاء الله بتكبر وبكون منتهي الاحتلال)، ربما كان وداعنا بطريقة مختلفة، إلا أنني لم أكن اشك بنية علاء بالانتقام، لم أتوقع أنه سيستشهد ولم أشك حتى بأنه يفكر بتنفيذ عملية طعن، لكنه كعادة الشهداء يذهب إلى المجد دون صور تذكارية أو شنطة سفر".
شقيق الشهيد علاء الأكبر منه يروي لـ "بوابة الهدف" بحسرة ولوعة وألم الفقدان الظاهر خلال حديثه، وفي ذات الوقت مفتخرا بقرار شقيقه، يقول: "مذهولا بهم كانوا وسيبقون منارات تحلق في سماء فلسطين و القدس ، الشهادة شيء صعب الوصول إليه، صعب أن أكون مثلهم، هم أبطال وذهبوا نحو الموقع العسكري وهم يعلمون ان الرصاص والموت في انتظارهم وهذا بحد ذاته بطولة، والاستشهاد لأجل قضية عادلة واضحة كالشمس أيضاً أرقى أشكال الإنسانية ".
يقول والد الشهيد مهند كوازبة: "مهند اسم على مسمى، تربّى على المفاهيم الوطنية والنضالية، حين كان يزورني في سجون الاحتلال اللعين على مدار عامين ونصف كان طفلاً لا يتجاوز العاشرة، كان يقول لي في يوم الزيارة (أنا بدي اقتلهم الجنود ليش أخذوك منا)، انه عمل بطولي ودفاعاً عن شرف الأمة المشغولة بالفتنة والطائفية، شباب فلسطين هم المدافعين عن بوابة الأرض للسماء ونحن متيقنون تماماً ان فلسطين لن تتحرر إلا بالدم، وحين سمعت كغيري خبر الشهداء الثلاثة قرب مستوطنة "غوش عتصيون" شعرت ان ابني من بينهم، ابتسم وخرج وهو يلوّح لي بيده طالباً مني ومن أمه السماح والسلام."
الوالد كان يتحدث والجميع يغرق في الصمت، الصمت الناتج عن مقابلة الموت بالحياة، الحياة التي تتجلى في قناعة الأب باستشهاد فلذة كبده، لكنه لا يخفي الفراغ الكبير الذي سيخلفه الشهيد مهند في غيابه كونه متزوج منذ ثلاث سنوات وتربطه علاقة محبة وعاطفة كبيرة بزوجته.
زوجة الشهيد مهند تحمل صورته وتضمّها، تارةً تبكي وأخرى تصمت، وبين الصمت والكلام صلوات السماح والرحمة التي تنهار من شفتيها على مهند، ذهب دون ان يودّعها، لكنه ترك لها مئات القصص والروايات التي جمعتهم، وستعتاش عليها حتى النهاية.
"أحمد كوازبه هادىء ومتزن وغامض، غادرنا مقاعد الدراسة مبكراً للتغلب على الظروف الاقتصادية الصعبة للعائلة، التحقنا بصفوف العمال في الداخل الفلسطيني المحتل، قمنا ببناء بيت من طابقين ونستعد للزواج منتصف العام الحالي، أحلامه بسيطة مثله، ان يرى أرضه ومقدساتها من غير احتلال، ان يرسم ابتسامة على وجه طفل بأخذ صورة له" كلمات عدنان الشقيق الأكبر للشهيد أحمد، يشعل سيجارة ويروي بابتسامة تنغّصها الدموع: "كان دائماً يمازح أمي منذ بداية الانتفاضة ويقول لها انه سيذهب لتنفيذ عملية طعن ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، وكانت أمي تقابله بالرفض فيدير لها ابتسامته ويغادر المنزل، لكنه اليوم غادرنا إلى الأبد ونطلب من الله ان نلتقي به في جنة الخلود".
كانت قوات الاحتلال قد قطعت التيار الكهربائي عن البلدة كعقاب جماعي لها، يرتدّ العقاب في كل مرة على المحتل نفسه، هذا المحتل لم يفهم الدرس بعد، الشهيد خليل شلالدة ابن الـ (15) عام لم توقفه تلك العقابات، دم أخيه الشهيد محمود لم يجف بعد، كل ذلك كان دافعاً للرد على الاحتلال مجدداً بعملية طعن جندي في بيت عينون شمال بلدته سعير.
"انهمر عليه الرصاص كالمطر ليمزق جسده الصغير "يقول والده الذي كان عاملاً في مدينة رام الله "عدت مساء هذا اليوم إلى البيت، سلّم علي مرتين وقبلني كثيراً وخرج، دماء أخيه الشهيد محمود لم تجف بعد، وهذا قدرنا كشعب فلسطيني أن نقارع المحتل وحدنا، الله يرضى عليهم والشهداء جميعهم يرفعون الرأس".
والد الشهيد رائد جرادات كان حاضراً في مقبرة الشهداء أثناء حفر قبور للشهداء الأربعة الجدد، كان يجلس يتسامر مع ابنه الشهيد رائد، يقرأ له ما تيسر من القرآن، طلب من ابنه ومن الشهداء (إياد وفادي وعبد الله ومحمود وأحمد) الذين قدمتهم البلدة في هذه الانتفاضة ان يكرموا الشهداء ويعدوا لهم طعام العشاء غدا ويوفروا لهم سبل التدفئة، فالشهداء ربما أتعبتهم ثلاجات البرد ليلة أمس، وبحاجة لدفء التراب ودفء الموقف أكثر.
عشاء السماء للأرض، والمطر الكثيف الواقع منها، لم يمنع أو يحد من حركة الناس وطلعات العابرين، صباحاً خرجوا إلى إكمال عرس الشهداء الأربعة، حيث سلّم الاحتلال الشهداء الأربعة إلى الهلال الأحمر الفلسطيني على أحد حواجز الموت، ومن ثم نقلتهم سيارات الإسعاف الفلسطينية إلى مستشفى الأهلي في مدينة الخليل، وكان مئات المواطنين في انتظارهم.
المطر الكثيف لم يمنع الشبان الثائر من حمل الشهداء على الأكتاف والسير بهم نحو قسم الطوارئ في المستشفى الأهلي لتشريح الجثامين ومعاينتها من قبل لجان فلسطينية مختصة، وتبين أنهم أُعدموا بدمٍ بارد واخترقت أجساد الشهداء الأربعة أكثر من خمس وعشرين رصاصة.
شُيّعت جثامينهم في جنازة عسكرية، حُملوا وشُيّعوا بالبنادق واستشهدوا عزلاً إلا من إيمانهم بعدالة قضيتهم.
وصلت الجموع إلى البلدة مع اقتراب اذان الظهر، بعد ان أوقفها الاحتلال ساعة من الزمن يحاول منعها من دخول بلدتهم التي تشتعل ناراً تحت أقدام الغزاة، لكن الجموع تمكّنوا من الدخول، حُملت الجثامين على الأكتاف مسافة تزيد عن ثلاثة كيلومترات ولم يتعب أحد، تقدّم ذويهم الموكب الملائكي المهيب، تفرّق الشهداء قليلاً من الوقت كل يودع أمه والبيت الذي احتضنه في رحلة الشتاء والصيف، وبعدها التقوا بما يقارب خمس وعشرين ألف مواطن رغم الحصار والمنع الأمني المشدد للبلدة ولكنهم لا يشعرون، سلّموا عليهم وأدّوا لهم التحية وصلّوا عليهم، حُملوا على أكتاف رفاقهم الذين لم يرحلوا بعد، وهتفوا لهم ولفلسطينهم وقدسهم ولعنوا الحكومات العربية وعاهدوهم بأن تبقى وصاياهم أيقونات حتى القدس والنصر المبين.