بما أن الشعب الفلسطيني مكون عضوي من مكونات الأمة العربية، يتحتم عليه وعلى قضيته السياسية ونضالاته بكافة أشكالها أن يتفاعلان ويتأثران بما يحدث في الوطن العربي والإقليم، وأن يواكب التحولات الكونية الاجتماعية والاقتصادية سواء التي تتم في سياق التطور الطبيعي أو نتيجة للصراع بين قوى عالمية على النفوذ، للسيطرة على مصادر الثروات والطاقة، وعلى الأسواق العالمية لتصريف إنتاجها. ولكن التأثير المباشر على الوجود وعلى القضية الفلسطينية يأتي من خطط ومشاريع الحركة الصهيونية وكيانها الاستيطاني الاستعماري الاقتلاعي، الذي هو في جوهره مشروع رأسمالي إمبريالي استراتيجي، لم يكن بالإمكان تحقيقه وتنفيذه بدون توفير وتأمين منصة انطلاقه أي الأرض. لذا، الصراع مع الحركة الصهيونية وكيانها كان ولا يزال يدور على الأرض ومن أجل السيطرة عليها، أي نزع ملكيتها التاريخية من شعبها الأصلي، الفلسطيني، ونقلها، "كملكية" إلهية، إلى "شعب" وهمي - افتراضي لم تنجح الصهيونية في خلقه أو صنعه، رغم الإمكانيات الهائلة التي وضعت تحت تصرفها لتحقيق هذا الهدف وإقامتها لمختبرات تزوير التاريخ وتغيير معالم الأرض والجغرافيا، ورغم كل أنواع البطش والقتل والتهجير وملاحقة أصحاب الأرض داخل فلسطين وفي مخيمات اللجوء ومناطق الشتات، الذين يثبتون بجدارة أنهم شعب واحد ويمتلكون طاقة متجددة لا تنضب من أجل تحرير أرضهم والعودة إليها.
رغم هذه الحقيقة، التي يراها ويجهر بها باحثون "إسرائيليون" ويهود، يلفت الانتباه استمرار الشكوك والقلق والتساؤلات لفئات شعبية فلسطينية مختلفة وخاصة الشبابية، عن جدوى النضال في الظروف السائدة، وعن إمكانية هزيمة كيان يمتلك إمكانيات مختلفة هائلة وخاصة النووية، والذي لديه استعداد لاستخدامها بلا تردد لتحقيق أهدافه وغاياته، ليس فقط بدون أي رادع، بل بتواطؤ وتعاون سلطة أوسلو، أداة الاحتلال، أو ما يسمى "القيادة الفلسطينية"، وانخراط أنظمة عربية أخرى في علاقات مباشرة مع كيان العدو علنًا بلا خوف أو رادع كحليف "لإسرائيل" في قمع المناضلين والمقاتلين وتقييد حرية الفلسطينيين في بلدانهم بهدف كبح جماح النضال الفلسطيني وتقطيع أوصاله. ساعد ذلك على توفير غطاء لمزيد من الدعم الدولي الرسمي غير المسبوق للكيان الصهيوني، حيث تم خرق مواقف وسياسات جهات وقفت تاريخيًا إلى جانب القضية الفلسطينية، فرضتها الإمبريالية التي ما زالت تهيمن على معظم المؤسسات الدولية الرسمية وخاصة التابعة للأمم المتحدة.
إن رصد التساؤلات المختلفة في الأوساط الشعبية الفلسطينية يظهر أن هنالك نقص هائل في أدوات الوصول إلى عمق الوعي الشعبي القادرة على رصده واستقطابه، والتي عليها أن تذهب إلى أبعد من "القشرة" المعنوية العاطفيه، نجد أن هذه التساؤلات تحمل في طياتها حرصًا على أن لا تذهب التضحيات في مهب الريح، كما حدث في الماضي، وتقرع أجراس عدم الثقة بجدارة وإمكانيات ومؤهلات وصدق وأمانة "القيادة"، وتحذر أيضا قوى المقاومة كي لا تلدغ من ذات الجحر مرتين، بل وتعبر عن حيرة وارتباك أصحابها في عدم التمييز بين "قيادة المقاومة" التي هي القيادة الحقيقية والشرعية، " وقيادة سلطة " أوسلو التي تأسست كأداة ووكيل لكيان العدو في إدارة شؤونه الاحتلالية. لا شك أن البعض يتساءل "ببراءة" وحسن نية وآخرين بتعمد وتلبس، وما يزيد من ارتباك أصحاب النوايا الحسنة، وارتباك الإنسان "البسيط" هو اعتراف قوى المقاومة "بقيادة السلطة" كقيادة وممثل للشعب الفلسطيني، ويدعون أنه لا "يمكن" استثنائها أو استبعادها من أي عمل أو محاولة لإنجاز "الوحدة الوطنية" تفاديًا لمزيد من "الانقسام" وللحفاظ على وحدانية التمثيل. إن موقف قوى المقاومة هذا يؤدي إلى تحييد هذه الفئة الشعبية الوازنة وإخراجها من دائرة الفعل وزجها في أتون ردة الفعل، كمشجعة تارة ومنددة تارة أخرى، مما يقدم أكبر خدمة للفريق اليميني المستسلم، صاحب مشروع التعايش مع الصهيونية ومع كيانها في فلسطين.
مما لا شك فيه، هناك من يتحمل المسؤولية في اِيصال هذه الفئات إلى هذا الوضع، وعليه أن يتحملها بجرأة وقناعة. وفي مقدمة هؤلاء قيادات قوى المقاومة التي تعتبر الطليعة المتميزة في أحزابها وحركاتها وهي التي تخاطب الجماهير وتعمل على تعبئتها وتأطيرها من أجل تحقيق التواصل النضالي والقتالي والحفاظ على آليات تحقيق تراكم الإنجازات، على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية. أيضا قواعد قوى المقاومة لها نصيبها من المسؤولية، لأنها تستطيع، إن هي أدركت حقوقها وواجباتها، من خلال مؤتمراتها وآليات تنظيمية أخرى، وبسبب التصاقها بالواقع الجماهيري ومزاجه وتوجهاته أن تمنع "انحراف قياداتها" وتفرض البرنامج الثوري الذي يلبي متطلبات المرحلة. مثلا، إن حجة قوى المقاومة وخاصة اليسارية الثورية الرافضة لنهج وسياسات اليمين الفلسطيني المستسلم أنها لا "تستطيع أن تتخذ مواقف لا تتفهمها الجماهير" ولا شك هذا جيد وصحيح، ولكنها على ما يبدو لا تدرك اللحظة التاريخية الضرورية لتحريك وتطوير مواقفها بما يتناسب ويتلائم مع تطور وتحرك المزاج والمواقف الجماهيريه. هذه النقلة النوعية السياسية الثورية تعبر عنها في هذه المرحله جماهير شعبنا في الضفة المحتلة والتي تتناسب مواقفها طرديًا مع تصاعد النضال المسلح الدائر الآن ومع حجم التضحيات المقدمه والتي أخذت تؤثر جذريًا على كل ساحات النضال "وتقودها".
إن من لا يدرك من قوى المقاومة هذه الحقيقة سيعاني من عقاب الجماهير الشعبية التي يمكن أن تضع، قيادات القوى السياسية، وربما أحزاب وحركات بأكملها، خلفها وتمضي، لآفاق ومرحله لم تكن محسوبة سابقًا.
كما نجد إشعاعات وبوادر هذه المرحلة في وضوح الرؤية للكتلة الجماهيرية التاريخية، الحية - الفاعلة، وطلائعها المقاتلة في حسم موقفها من "قيادة السلطة" الأوسلوية ونهجها ونزولها للشارع للهتاف ضدها وضد خيانتها وتنسيفها الأمني الإجرامي ومطالبتها بالرحيل هي ورئيسها عباس لفتح آفاق التحرير والعودة. هذه المواقف المتقدمة، لا تنسجم ولا تتماشى مع مواقف وشعارات القوى السياسية التي من المفترض أنها هي الحاضنة الطبيعية لهذه الكتلة، لأن هذه القوى التي ترفض نهج وسياسات اليمين والاتفاقيات التي وقعها مع العدو وتعمل على إسقاطها، وتنخرط في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال من أجل إنجاز مرحلة التحرير الوطني، نجدها ما زالت "تراهن" على إمكانية حدوث "تحول دراماتيكي" على مواقف "الرئيس" عباس وسلطته تصل إلى حد "إلغاء" ما يطلب منه وطنيا لإنهاء "الانقسام" وإجراء إصلاحات في مؤسسات "المنظمة" من أجل تحقيق "الوحدة الوطنية". هذا الوهم يؤكد على وجود "أزمة ثورية" عميقة ومتعفنة، تكمن في عدم رغبة بعض قوى المقاومه، أو تردد بعضها الآخر، في حسم مسألة تحديد موقع القوى الطبقية البرجوازية الفلسطينية التي قبلت باتفاقيات أوسلو وملحقاتها وما زالت متمسكه بها ومتمسكه بآفاقها ونتائجها، في خارطة التحالفات مع الصهيونية والإمبريالية من جهة، وموقعها في النضال الوطني والقومي من جهة أخرى. أيضًا يمكن إدراك "الأزمة الثورية" في تناقض التحليل "الصائب" لطبيعة المرحلة مع الحلول الاصلاحية البرغماتية والسطحية "لأزمة" الوضع الفلسطيني التي لا تستجيب لمتطلبات وضرورات المرحلة وتبقي أصحابها في مواقع ردات الفعل والمراوحة الضارة السلبية. نعم هذه هي طبيعة أزمة قوى المقاومة بكل مكوناتها ومرجعياتها الفكرية، فما العمل؟ وما المطلوب للخروج من الدائرة المغلقة؟
في البداية، لا بدّ ما أمكن من إعطاء تعريف لمصطلح الأزمة الذي وبلا شك يعتبر من أكثر المصطلحات مطاطية وتشعبًا، لذلك لا يوجد تعريف واحد كمرجعية أكاديمية. ولكن من خلال دراستي لمختلف الأزمات، أعتقد أنّ الأزمة العامة، بغض النظر عن المكان والزمان الذي تحصل فيه، تحدث عندما يحصل التناقض المركزي: بين احتياجات التطور الموضوعية الملحة والوسائل والأدوات الضرورية لتحقيق هذا التطور، إما بسبب ندرة هذه الوسائل أو هزالتها، ولذلك لا تستطيع أو لا تريد الاستجابة لمتطلبات التطور لاستمرار الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل متواصل.
ويعتبر تحقيق الاستعمار الإمبريالي لمشروعه في فلسطين، الذي لعبت فيه الحركة الصهيونية الدور الأساسي والرئيسي، من خلال إقامة كيان لها تحت ستار "الوطن القومي لليهود"، التحول الأساسي والجذري في حياة الشعب الفلسطيني وفي طبيعة حركة تحريره الوطني، التي نشأت مبكرًا منذ بدايات القرن العشرين، أي مع بداية الاستعمار البريطاني، ولكنها انتهت مع قيام الكيان الصهيوني الاستعماري على 78% في المائة من مساحتها التاريخية. موضوعيا، أغلقت مرحلة تاريخية من أكثر مراحل التاريخ الفلسطيني مأساوية، تمثلت بفشل الحركة الوطنية في تحقيق أهدافها، بسبب عدة عوامل منها الموضوعية ومنها الذاتية، حددها الشهيد غسان كنفاني في دراسة استثنائية وثقها في كراسة الشهيرة "ثورة 1936-1939".
لقد اندثرت كافة الأحزاب والحركات والهيئات السياسية والعشائرية والدينية التي تكونت منها الحركة الوطنية في تلك المرحلة، دون أن يقدم أي منها على تقييم ما جرى ولماذا جرى بهذه الطريقة لا بغيرها، عدا القليل الذي صدر عن "الحزب الشيوعي الفلسطيني" الذي حل نفسه واندمج أعضاؤه الفلسطينيون "بالشيوعيين" الذين جاءوا على ظهر السفن الصهيونية الاستعمارية وشكلوا معا "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" (راكاح) ومن تبقى منهم في الضفة الفلسطينية شكل مع الشيوعيين الأردنيين "الحزب الشيوعي الأردني". ولأن هذه القوى لم تكن مستعدة أو قادرة على العمل في الظروف الجديدة، وكأن الأمر لا يعنيها، اندثرت وانتهت، لذلك أخذت ضرورات النضال نفسها تفرض نفسها على الواقع الجديد، وأخذت حركة وطنية أخرى حديثة تبني ذاتها في مخيمات اللجوء من أجل تحقيق المهمة الجديدة التي ما زالت قائمة، أي التحرير وإنهاء استعمار فلسطين لتميكن أهلها من العودة إلى ديارهم التي شردوا منها. في هذه الأثناء تكثف العمل التحضيري لانطلاقة النضال المسلح، أي في حقبة ما بين الحربين الرئيسيتين، 48 - 67 لسيطرة الحركة الصهيونية على كل فلسطين، التي ظهرت فيها ارهاصات التكوين الثوري الحديث، الذي أسفر عن الانطلاق الأوسع والأشمل للنضال المسلح، أو ما يعرف بالثورة المسلحة الحديثة. وقد انطلقت هذه الثورة من مخيمات اللجوء في الأردن، نظرًا لتوفر الظروف الموضوعية بعد هزيمة النظام الأردني في ذلك الوقت، مما ساعد على تقوية وتنشيط الخلايا العسكرية التي نشأت وتكونت في مخيمات لبنان و غزة منذ بداية الستينيات.
شكل انطلاق الثورة المسلحة الحديثة، مدخلًا لحل معضلة النضال الفلسطيني وأزمته التاريخية، إلا أن سيطرت البرجوازية الكومبرادورية والبيروقراطية المبكرة على قيادتها، حمل معه بذور أزمة قيادية طبقية "نوعية" جديدة، أدركتها، أكثر من غيرها، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، حيث استشرفت مبكرًا رغبات وممارسات وتكتيكات اليمين المهيمن على مركز القرار والمال في منظمة التحرير، واستعدادهم للمساومة مع العدو والانحراف عن استراتيجية التحرير الكامل، أي التخلي عن البرنامج السياسي المقر من الهيئات القيادية، عندما يكون الظرف مؤاتيًا. وخاضت "الجبهة" صراعًا تنظيميًا وسياسيًا قاسيًا مع هذه القيادة لردعها، عن الإقدام على "المساومة التاريخية" مع العدو التي توجت عام 1994 باتفاق أوسلو الذي لم يلبِ لا الحد الأدنى وطنيًا أو ما يُعرف بـ "البرنامج المرحلي"، ولا طموحات البرجوازية الفلسطينية نفسها بالحصول على أي نوع من الكيانية على الأراضي المحتلة منذ عام 1967. إن فشل الجبهة الشعبية ومعها كافة القوى التي رفضت هذا النهج من تحقيق أهدافهم يعود إلى اختلال ميزان القوى الداخلي الفلسطيني والعربي الرسمي، لصالح التحالف الطبقي العربي الساعي لإنهاء الصراع مع الإمبريالية والصهيونية في المنطقة والمؤيد لنهج التسوية والمساومة الذي دعمته وانخرطت فيه كافة القوى والأنظمة العربية الرجعية.
إن توقيع اتفاق "أوسلو" أنتج أزمة "جديدة"، جذورها تمتد عميقًا في أزمات الماضي، ولكنها أشمل ضربت الحركة الوطنية الفلسطينية أفقيًا وعموديًا، لذا يمكن وصفها بأنها "أم الأزمات" وطنيًا وثوريًا، ولم ينجُ منها أحد طالت كل مكونات الحركة الوطنية وقوى التسوية والاستسلام الفلسطينية التي رغم انسجام مكوناتها موضوعيًا دخلت في أزمة انسداد الأفق السياسي الذي وضعها في تضاد وتناقض مصيري مع قاعدتها الشعبية التي أخذت الانفضاض عنها، مما يدفع أركان السلطة للحفاظ على تسلطهم التوجه إلى مزيد من الاعتماد على العدو وقوات احتلاله والسير في طريق ديكتاتوري قمعي لا تحمد عواقبه، تنفذ من خلاله المزيد من الخدمات للعدو، وخاصة في المجال الأمني العسكري مما سيجبر الحركة الثورية الانتقال من سياسة التحذير للسلطة إلى طور أكثر تعقيدًا في الدفاع عن المقاتلين وكافة المناضلين المستهدفين من أدوات السلطة وقمعها.
للحقيقة، والتزاما بالموضوعية، لم تتأثر أطراف الحركه الوطنيه الفلسطينية الرئيسية باتفاقيات أوسلو بنفس المقدار ولم تفهمها وتتعامل معها بنفس الأساليب. فهناك قسمٌ هام من هذه القوى رفض مبدأ التفاوض مع العدو ورفض الاتفاقيات التي نتجت عنها جملةً وتفصيلًا ولم يراهن مطلقًا على الاتفاقيات وتحويل "السلطة" أو تطويرها إلى "دولة مستقلة"، لأن طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه في فلسطين والمنطقة لا تقبل ولا تسمح بذلك، وخاصة في ظل ميزان قوى يميل تمامًا لصالح العدو الذي يعمل من أجل تحقيق استسلام كامل وغير مشروط للنظام العربي الرسمي. في مقدمة هذه القوى تأتي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يمكن اعتبارها "أم" هذا التحليل العلمي الثوري، مما كان يفترض منها اتخاذ قرارات ورفع شعارات واضحة تنسجم مع هذا التحليل وتخدم تحقيقه، وفي مقدمتها نزع الشرعية السياسية والوطنية، أي التمثيلية، عن كل أطراف ومكونات الفريق الأسلوي، أفرادًا وجماعات كمقدمه لإسقاط الاتفاقيات والقائمين عليها، لأن "إلغاءها" ليس فقط غير ممكن، بل مستحيل، أن يأتي على يد من وقعها ويتمتع بامتيازاتها، لأنه، أي اليمين تابع ويرتبط عضويًا بالأنظمة العربية الرجعية العميلة وبالكيان الصهيوني نفسه، ولا يملك الحق في اتخاذ القرارات الاستراتيجية التي يمكن أن تحدث أي تغيير على واقع الترتيبات المقرة صهيونيًا. لهذا، مطالبة الجبهة وقوى أخرى لفريق أوسلو بأن يلغي طوعًا أو بسبب صحوة "وطنية أو ضميرية" تلك الاتفاقيات التي وصفت "بالمشؤومة والمدمرة والعار والنكبة الثانية"، أبقت عليها أسيرة لتكتيكات غير مفهومة وغامضة جيرها موضوعيًا أصحاب معسكر أوسلو لصالحهم، وتم إضاعة فرص تاريخيه، لو تم استيعابها واستغلالها، لما وصلت لما نحن عليه، حيث لم تتمكن الجبهة ومعها قوى أخرى من التقدم خطوة عملية، لإسقاط مشروع اليمين القائم على التعايش مع الصهيونية والاعتراف بشرعية كيانها، أي إلغاء الطابع الوطني التحريري للقضية الفلسطينية، والذي ترجم بإلغاء البنود الأساسية في الميثاق الوطني وتعديل جزء هام من البنود المتبقية، مما أدى إلى تحولها إلى أحرف ميتة تنفع العدو فقط.
القسم الآخر من الحركة الوطنية يتشكل من قوى صغيرة لم ترفض اتفاقيات أوسلو بحد ذاتها، بل وجهت النقد إلى نصوصها السياسية واللغوية، وأرجعت ذلك إلى عدم كفاءة ومهنية وتأهيل الفريق المفاوض، وشاركت في كافة مؤسسات السلطة بما فيها الحكومة، بحجة العمل والنضال من داخل المؤسسة لتحقيق ما عجز المفاوض الأسلوي عن تحقيقه، أي "الانسحاب وتقرير المصير والدولة المستقلة". يتضح، أن جميع الأطراف، التي يمكن تسميتها "الجبهة المعترضة والرافضة" على اتفاقيات أوسلو وسلطتها، قدمت رؤى وتحليلات متفاوتة ومتعارضة للأحداث وما ستشهده الساحة من تطورات، لكنها فشلت في الممارسة العملية من تحقيق أهدافها المعلنة، واستفاد اليمين وأركان السلطة من "أخطاء" كلاهما، وإن بنسب متفاوتة، مما منح أطراف معسكر التسوية، وخاصة السلطة وحكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة الوقت الكافي لترتيب أوضاعهم بِهُدُوء وتعميق ارتباط السلطة بِالكيان لتمكينها من تأدية الوظائف الأمنية والسياسية والاقتصادية التي أقيمت من أجلها.
إن الوقت قد حان للقيام بما يجب القيام به وفي مقدمة ذلك فتح حوار جدي ومسؤول بين كل أطراف جبهة "المعترضين والرافضين" لاتفاقيات أوسلو وملحقاتها وتحديد مكامن ومفاصل الأخطاء ورسم خطة عمل وطنيه شامله تقوم على: وحدة كل القوى التي ترفض اتفاقيات أوسلو وتعمل على إسقاطها، وإسقاط النهج الذي قاد لها وإسقاط قياداته الطبقية التي لا تصلح بأن تكون جزءًا من القيادة الجديدة، مما يستوجب قيام جبهة مقاومة وطنية للتحرير، تقود النضال بكافة أشكاله للحفاظ على المناطق المحررة والدفاع عنها: قطاع غزه، وتطرح البديل السياسي عن برنامج أوسلو، أي البرنامج السياسي الوطني الذي يعبر عن طموحات وآمال الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، من أجل التحرير لكامل فلسطين التاريخية والدفاع عن حق العودة كحق تاريخي لا يمكن لأي كان إلغائه او التلاعب في شروط تحقيقه أو تحديد الأعداد التي يشملها هذا الحق، والتعويض عن ما لحق بالوطن والأفراد من مآسي وأضرار من كل الأطراف التي تسببت بذلك، وإقامة التحالفات العربية والإقليمية والدولية التي تساهم في تحقيق هذه الاستراتيجية.