وأخيراً عادت الجامعة العربية إلى سورية، بعد أن فقدت الجامعة هويتها العربية جراء تجميدها مقعدها في الجامعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 بشكل غير قانوني، وجراء تطبيع دول وكيانات عربية جديدة علاقاتها مع الكيان الصهيوني واعترافها به، ودخول معظمها مع الكيان في علاقات أمنية واقتصادية، وربط بعض هذه الدول نفسها بالكيان الصهيوني بمشاريع استراتيجية، يستحيل معها التخلص منها على المديين المتوسط والبعيد.
عاد الرئيس بشار الأسد ليشغل مقعد الجمهورية العربية السورية في قمة جدة، من موقع المنتصر على المؤامرة الكونية الاستعمارية، التي كانت معظم دول الجامعة أداة رخيصة في تنفيذها، وهو بعودته لم يقدم أدنى تنازل، عن مواقف الجمهورية العربية السورية الثابتة في السياقين الوطني والقومي، ولم يرهن عودته للجامعة والقمة بتغيير تحالفاته مع أطراف محور المقاومة، خاصةً أن سورية تشغل موقع القلب في هذا التحالف، كما أنه لم يأبه للبيان الصادر عن بعض الدول التي اجتمعت في عمان، ولا ببيان الجامعة العربية بشأن الالتزام بالقرار 2254.
وكان لقاء عمان في مطلع أيار (مايو) الجاري -الذي أعقب لقاء جدة الذي بحث موضوع عودة سورية إلى الجامعة العربية - بحضور وزراء خارجية كل من مصر والسعودية والأردن والعراق ووزير خارجية سورية فيصل المقداد، قد تبنى خطةً أردنية مفادها: "ضرورة اتخاذ خطوات عملية وفاعلة، للتدرج في حلّ الأزمة وفق مبدأ الخطوة مقابل الخطوة، بما ينسجم مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، بمواصلة الجهود التي تتيح توصيل المساعدات الإنسانية إلى كلّ المحتاجين في سوريا، ومن ثم تبنت الجامعة العربية خطة عمان، وقررت استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعاتها، وفي جميع المنظمات والأجهزة التابعة لها، اعتباراً من يوم 7 أيار/مايو 2023، وطالبت أيضاً، بتشكيل لجنة اتصال وزارية مكوّنة من الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر والأمين العام للجامعة، لمتابعة تنفيذ اتفاق عمّان، والاستمرار بالحوار المباشر مع دمشق للتوصّل إلى حلٍ شامل للأزمة يُعالج جميع تبعاتها.
وقد أثارت تلك الخطة استغراب المتابعين للشأن السوري، خاصةً وأنها تستهدف إعادة الاعتبار لقوى المعارضة المزعومة، التي كانت تتنفس من دول الغرب الرأسمالي وتنفذ تعليماتها، وتتلقى الدعم المالي من الرجعيات الخليجية والإقليمية المطبعة، حيث بلغ مجموع ما صرفته هذه الدول على الفصائل المسلحة (138) مليار دولار – وفق المقابلة التي أجراها رئيس الوزراء ال قطر ي الأسبق حمد بن جاسم مع قناة أل (BBC)ـ فهذه الدول التي تدعي الحرص على سورية وحل أزمتها المزعومة، سبق وأن أقامت غرفاً لإدارة عمليات الإرهاب في سورية، بمشاركة جهاز المخابرات الإسرائيلية والمخابرات الأميركية والفرنسية والبريطانية والقطرية والسعودية وغيرها.
لقد عادت الجامعة العربية لسورية، وشاركت الجمهورية العربية السورية في قمة جدة بحضور الرئيس الأسد، بعد أن تأكدت أن بيان القمة، لن يشر من قريب أو بعيد لقرار مجلس الأمن رقم 2254، بل تضمن فقط التأكيد على سيادة واستقرار سورية الدولة وأن المسائل الداخلية السورية تخص سورية دون تدخل خارجي، وعاد الرئيس الأسد ليؤكد ضمناً في خطابه، ما سبق وأن طرحه أمام قادة ووسطاء عرب إنّ "دمشق هي من يملك حق أن يسامح دولاً وجماعات، كانت طرفاً كبيراً في الحرب، وشريكة في سفك الدماء العربية وسيكون من الخطأ أن يفكر أحد في أنّ سوريا، مستعدة للحديث مع أيّ دولة بشأن وضعها الداخلي، فلا مجال لأيّ تفاوض حول المسألة السورية الداخلية".
لقد خلا بيان القمة من ذكر القرار 2254 الذي ورد في لقاء عمان وفي لقاء وزراء الخارجية العرب عشية انعقاد القمة، لأن السعودية أدركت أن مياه كثيرة جرت بين المرحلة التي صدر فيها هذا القرار، وبين المرحلة الراهنة، فالرؤية السعودية للحل السياسي في سوريا – كما أشار العديد من المراقبين- لم تعد تركز على القرار 2254 وهو الذي ترفضه دمشق، جملة وتفصيلاً، انطلاقاً من أنه وضع دون إرادتها، ناهيك أن الجيش العربي السوري تمكن بمؤازرة حلفائه، من تحرير معظم الأراضي السورية من فصائل الإرهاب.
فإعلان جدة رحب “بالقرار الصادر عن اجتماع مجلس الجامعة على المستوى الوزاري الذي تضمن استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات مجلس الجامعة والمنظمات والأجهزة التابعة لها، معرباً عن أمل القمة في أن يسهم ذلك في دعم استقرار الجمهورية العربية السورية، ويحافظ على وحدة أراضيها، ويؤدي إلى تكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها.
فالرئيس الأسد عاد ليشغل الموقع الذي يليق بسورية، بوصفها القلعة العربية الصامدة وليمنح الجامعة قيماً قومية غابت عنها منذ مطلع عشرية النار عام 2011، خاصة وأن عودة الجامعة إلى سورية، تأتي في لحظة سياسية هامة، ممثلةً ببداية انهيار النظام الإمبريالي الأمريكي أحادي الجانب، وبداية تشكل نظام عالمي جديد، يستدعي أن يكون للعرب مكانة تليق بهم، بعد أن باتت الدول وكيانات الحواضن الوظيفية المطبعة، في حالة من الانكشاف السياسي والجغرافي، وتخشى من أن تلقي بهم واشنطن في سلة المهملات، على النحو الذي حصل مع أدواتها في أفغانستان، وقبل ذلك ما حصل لنظام ماركوس في الفيليبين ونظام الشاه في إيران.
لقد ألقى الرئيس الأسد خطاباً صادماً بالغ الدلالات، أصاب حكام العديد من الدول المطبعة بالصداع عندما أكد على ذات المواقف المبدئية:
1- بتأكيده أن الكيان الصهيوني هو العدو الرئيسي للأمة العربية وأن فلسطين قضية الأمة المركزية، في الوقت الذي راح فيه البعض يلوك العبارة الجوفاء حول حل الدولتين الذي بات وراء ظهر الكيان الصهيوني والولايات المتحدة.
2-بتحديده بوضوح أطراف معسكر الخصم للأمة، ممثلة بدول الغرب الرأسمالي التي تفتقد للقيم وللمبادئ- على حد تعبيره - وبالكيان الصهيوني المنبوذ عربياً، والذي يستمر في ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني المقاوم، وبالفكر العثماني التوسّعي المطعّم بنكهة إخوانية منحرفة (لاحظ لم يستخدم "مفردة" ( تركيا الدولة)، بل ركز على نظام أردوغان ومشروعه العثماني الاستعماري.
3- بتفريقه بلغة سياسية راقية، بين الانتماء العربي الأصيل، الذي تمثله الجمهورية العربية السورية، وبين وانتماء التبعية "انتماء الحواضن" الذي يشكل أداة لدول الغرب الرأسمالي، وهو باستخدامه مصطلح "الحواضن" كشف عن قصد حقيقة تبعية العديد من الأنظمة المشاركة في القمة لدول المركز الإمبريالي، واشتق مصطلحاً سياسياً جديداً يضاف إلى القاموس السياسي لمنظومة التبعية.
4- بتجاوزه الحديث عن عشرية الدم، ليطرح من موقع المنتصر، ضرورة توظيف المصالحات التي حصلت باتجاه إعادة ترتيب شؤون شعوب الأمة العربية، ورفض التدخلات الأجنبية في شؤونها، عبر البحث عن العناوين الكبرى الّتي تهدّد مستقبل البلاد وتنتج الأزمات في المنطقة، "كي لا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النّتائج لا الأسباب". مؤكداً على قضية التنمية المستقلة، وعلى أن العمل العربي المشترك بحاجة إلى رؤية مشتركة لتفعيل دوره في حل الأزمات والقضايا، منوهاً بدور سورية المركزي بهذا الشأن بقوله "إن سوريا قلب العروبة وفي قلبها".
5- بدعوته إلى تطوير ومراجعة ميثاق الجامعة العربية، ونظامها الداخلي لتتماشى مع متطلبات العصر، وذلك في إشارة ضمنية منه، إلى أن تجميد مقعد الجامعة عام 2011 لم يستند إلى إجماع رسمي عربي، وباطل قانونياً.
لا نبالغ إذا قلنا وجزمنا، أن استعادة سورية لمقعدها في الجامعة العربية، وحضور الرئيس الأسد لأعمال قمة جدة يعني في محصلته ما يلي:
1- اعتراف صريح من قبل النظام العربي الرسمي، وخاصةً من الدول التي دعمت المعارضة المزعومة، بانتصار سورية على المؤامرة الصهيو أميركية، التي استخدمت بيادق عربية رسمية لتمويل ودعم فصائل الإرهاب، ولاستقبال مؤتمرات المعارضة المزعومة مثل: "مؤتمر إسطنبول"، ومؤتمر "ائتلاف قوى المعارضة" في قطر، الذي ضم فصائل مؤتمر إسطنبول مضافاً إليها أسماء وكيانات أخرى، و"مؤتمر الرياض" لاحقاً الذي شمل الأسماء السابقة مضافاً إليها منصتي موسكو والقاهرة.
2- اعتراف بعض هذه الدول بأثر رجعي، بصحة نهج القيادة السورية في محاربة الإرهاب وبأن الراعي الأمريكي للإرهاب، مستعد للتخلي عنها، إذا ما تمردت على تعليماته وتركها تواجه أزماتها الداخلية والإقليمية، ولتقلع شوكها بأيديها التي لطخت بدماء الشعب السوري.
العوامل التي عجلت بعودة الجامعة العربية إلى سورية
ويبقى السؤال هنا: ما هي العوامل التي عجلت بعودة سورية للجامعة العربية، رغم أن سورية لم تكن معنية كثيراً بالعودة، ولم تطالب بها، ولم تحتفل بها، وسبق أن طالبت الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، عشية انعقاد القمة العربية في الجزائر العام الماضي بأن لا يتعب نفسه كثيراً في مطالبة هذه العاصمة أو تلك، بالموافقة على استعادة مقعدها في الجامعة العربية، خاصةً وأنها تستند إلى محور المقاومة، الذي أثبت جدارته في مواجهة المؤامرات الصهيو أميركية، وإلى تحالف مركزي مع روسيا.
وفي التقدير الموضوعي أن هنالك عدة أسباب تكمن وراء عودة الجامعة لسورية أبرزها ما يلي:
1-توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية، الذي شكل مفاجأة استراتيجية للإدارة الأمريكية وللكيان الصهيوني، وفتح الباب واسعاً أمام إحداث انقلاب في المواقف السعودية اتجاه سورية، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن نظام الملك السعودي محمد بن سلمان وولي عهده ليس امتداداً لنظام الملك السابق في الموقف من سورية، وأن السعودية عام 2015 ليست هي السعودية عام 2011.
2- السعودية قاطرة لإعادة الجامعة العربية لسورية في غياب الدور المصري. إذ لم يعد الحكم السعودي يلتزم بدقة بالتعليمات الأمريكية، ولم يعد ينتظر الضوء الأخضر الأميركي في توجهاته السياسية، وليس أدل على ذلك التوافق الروسي – السعودي على خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً في إطار (أوبك بلس)، والاستقبال الفاتر للرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، مقابل الاستقبال الحافل للرئيس الصيني شي جين بينع الذي أسفر عن توقيع العديد من الاتفاقات بين السعودية والصين، بما في ذلك استخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية بين البلدين.
وجاء الدور السعودي في هذا الشأن، في غياب الدور المصري للأسف جراء موروث اتفاقيات كامب ديفيد، وجراء ارتهان مصر للمال الخليجي النفطي، وتحولها إلى مجرد تابع لدول الخليج.
3- فشل المشروع الاستعماري الأمريكي في سورية، لجهة تقسيمها إلى عدة دويلات طائفية وعرقية، وتمكن الجيش العربي السوري من بسط سيادته على ثلثي الأراضي السورية بما فيها المدن الرئيسية، وفشل هذا المشروع في اليمن وفي العراق ولبنان، إضافة إلى فشله في وضع حد للمقاومة الفلسطينية المشتعلة في فلسطين.
ما تقدم لا يعني أن السعودية غادرت نهائياً موقعها التحالفي مع أمريكا، بل أنها سعت وتسعى لاستخدام أوراق القوة لديها، لتحسين موقعها في العلاقة مع واشنطن، بعد أن تعرضت لعملية إذلال غير مسبوقة سواءً في عهد الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" أو الريس الحالي "جو بايدن".
وأخيراً بقي أن نشير، إلى أن أهمية القمة الوحيدة، تمثلت بحضور سورية وبإعادة الاعتبار نظريا للقضية الفلسطينية، أما بقية البنود التي تضمنها إعلان جدة فلا قيمة لها ،خاصةً وأن القمة لم تناقش أهم القضايا وأبرزها التطبيع مع الكيان الصهيوني، والأمن القومي العربي المستباح من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، والنظام الأردوغاني العثماني، إذ لا قيمة للحديث عن مشروع إقليمي عربي، ولا قيمة للحديث عن تنمية عربية مستقلة في ظل بقاء الكيان الصهيوني، وفي ظل اندلاق العديد من أطراف النظام العربي الرسمي على التطبيع مع عدو الأمة المركزي.