تتوالى ردود الأفعال سنوياً على انتخابات مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت لما لتلك الانتخابات، وما تفرزه من نتائج، ومن معطيات يجوز النظر إليها كمؤشرات، يمكن الاستناد إليها في تحليل العلاقات والموازين بين القوى الوطنية المختلفة. ومع ذلك، ورغم المبالغة أحياناً في اعتبار تلك المؤشرات، دلائل قطعية، وهذا تبعاً لأهواء القارئ، إلا أن الثابت الذي لا جدال فيه هو أن تلك الانتخابات هي الوجه الأبرز ديموقراطياً للعمل النقابي في الضفة الغربية، وهذا يسجل أولاً لإدارة جامعة مأسست على مدى سنوات طوال مجريات العملية الانتخابية بكل تفاصيلها، وثانياً لحركة طلابية تتعامل بمسؤولية مع تلك الإجراءات وتلتزم بها حرفياً، ناهيك عن احترام نتائج العملية، وثالثاً للعاملين في الجامعة، إداريين وأكاديميين، الذين يشاركون في عملية الفرز ولجان الصناديق، كما في حضور المناظرة للتدخل منعاً لأية إشكاليات غير مستحبة.
ورغم كل ما قيل أعلاه، كلوحة عامة إيجابية من حيث الجوهر، لا بد، كل عام، من مجموعة من الأصوات التي تعجز عن رؤية ما هو جوهري وإيجابي، ولا تجد في كل العملية تلك إلا الطعن في الطلبة وتجربتهم وحركتهم وانتخاباتهم ومناظرتهم وخطابهم.
بطبيعة الحال من حق أي كان أن يسجل ملاحظاته حول الانتخابات وخطاب الكتل في مناظرتها ودعايتها، وكاتب هذه السطور ومن موقع عمله السابق كمحاضر جامعي في بيرزيت وبيت لحم، دائماً ما كان يسعى لإثارة النقاش داخل المحاضرات حول الانتخابات، قبل إجراءها، لإيصال فكرتين أساسيتين: الأولى دعوة الطلبة لانتخاب ممثليهم حسب قناعاتهم وعدم المقاطعة، ومقاومة التهديدات والابتزازات والرشاوي، وهي كثيرة بالمناسبة، وثانيها الارتقاء بمستوى النقاش في الساحة والخطاب عبر المناظرة منعاً لأية احتكاكات سلبية ولإيصال الأفكار بطريقة هادئة ومؤثرة.
ومع ذلك هناك فرق بين تسجيل الملاحظات النقدية لتطوير العملية الانتخابية والخطاب الكتلوي الطلابي، وبين التشكيك والاستهزاء وتعزيز اليأسية والإحباط والاستصغار، فهذا الأخير فيه من النزاقة والصبيانية والمراهقة ما فيه.
أحدهم كتب على الفيس (إيش دخل الطالب في الأمور السياسية خارج أسوار الجامعة) في دعوة صريحة للتجهيل والتجويف وضرب الدور الوطني للحركة الطلابية. فيما آخر أكد بموثوقية غريبة أن الطلبة، كنتيجة لانتخابات جامعة بيزيت هم (ضحية للعمل السياسي الرديء)، أما كيف وصل لهذا الاستنتاج القطعي فلا نعلم، وأحدهم أصدر حكماً أكثر قطعية: (لا يصلحون - ويلمح للطلبة - لإدارة مقلى فلافل). ومصطلحات: تهريج، ردح، زعيق وصياح، مناكفات وغيرها هي الدارجة بالعادة لدى هذه المجموعة لوصف خطاب الطلبة ومناظرتهم.
لنضع الأمور في نصابها. البعض من هذه المجموعة لا يعجبه سماع وجهة نظر نقدية تجاه سلطة أوسلو، وهو كسحيج، يتحرج من طرح قضايا التنسيق الأمني وخطاب عباس (احمونا) المسيء لشعبنا ونضاله، ولتغطية حرجه فهو لا يملك سوى التنديد بخطاب التهريج والردح، فيما توتره نتاج تناول الخطاب (لعظام الرقبة) وهو واحد من عبيدهم. البعض الآخر من أولئك الذين عاشوا تجربة العمل الطلابي، وناضلوا (بعض الشيء) في أيامها، ولاحقاً (عقْلوا) وباتوا يعتقدون بضرورة تمتع خطاب الطلبة (بالعقلانية والاتزان والهدوء) باعتبار أنهم، أي هذا البعض، وجد طريق الصواب والحق، وكأنه يعتذر عن ماضيه ويتنصل منه، فيتطلع لماضيه متندراً عليه وعلى ما كان عليه هو كطالب، وكيف أصبح اليوم عقلانياً ومتنوراً ومتزناً وهادئاً لا ينجر (للتهور والعفوية والتطرف اللي شغل الطلاب) الذي يسبغ خطاب الطلبة! أما البعض الثالث فهو يتميز بمكانته على الفيس وشبكات التواصل، من حيث قدرته على نشر الإحباط واليأسية والتشكيك بكل شيء، يشكك بالسلطتين في رام الله والقطاع، ويشكك بالمعارضة لهما، يشكك بالحراكات الشبابية في الشارع، ويشكك في الفعاليات الجماهيرية من مسيرات واعتصامات، يشكك حتى بالمقاتلين ومقاومتهم، يشكك في الأحزاب ومؤسساتها ومؤسسات البلد كلها (خبط لزق). هذا البعض، قد لا يكون بعضاً منه بريئاً تماماً، فيما البعض الآخر تتشكل طبيعته وفق تشاؤمية يبدو لا فكاك منها.
لنذكر إن نفعت الذكرى:
نقد خطاب الطلبة ومناظرتهم يتطلب المسؤولية والدعم والتضامن لتصويب مكامن يراها المنتقد خاطئة، لا التشكيك والسخرية والتهجم التافه. فلا ينصبن أحداً نفسه أستاذاً فيتأستذ على الطلبة، وليعتبر خبرته وتجربته عوناً لهم ولنضالهم وحركتهم، فينتقدهم بهدف التصويب لا التشكيك والتهجم والسخرية.
هؤلاء الطلبة وكتلهم، على الأقل كتلتيهما: الكتلة المحسوبة على حماس، وتلك المحسوبة على الشعبية يتعرضون شهرياً، إن لم يكن أسبوعياً، لملاحقة المخابرات الصهيونية والأجهزة الأمنية لسلطة أوسلو (المحسوبين على حماس من الجهتين)، اعتقال لسنوات طويلة أو اعتقال إداري وتعذيب وحشي لعل نموذجه الأبرز نظام مطير ويزن مغامس طلبة جامعة بيرزيت. فليضبط البعض لسانه قبل أن يطال أولئك المناضلين والبيئة التي أنتجتهم.
هؤلاء الطلبة، وحتى اللحظة، هم كما كانوا سابقاً، وقود أية فعاليات جماهيرية نضالية ومقاومة، هم الفئة الأكثر تضحية من غيرها من الفئات، خاصة الفئات الوسطى المدينية التي تلوك خطابهم ومناظرتهم بالسخرية والاستهزاء، وبتقديري إن إعادة بناء حركة وطنية فاعلة في فلسطين المحتلة يبدأ من هنا: من عند الطلبة. وهذا الاستنتاج ينطبق على طلبة العام 48 في الجامعات الإسرائيلية، فعندهم وعبرهم وبفضلهم يتبلور منذ سنوات تيار شبابي وطني وقومي ملتحم بقضية شعبه وبهدف فلسطين التاريخية، ونشط ميدانياً خارج إطار الهياكل الفلسطينية الرسمية وخطابها وممارستها وخاصة المشاركة في انتخابات الكنيست.
خطاب الطلبة ومناظرتهم هي هي منذ وجدت الحركة الطلابية: لا مكان للدبلوماسية والمرونة والمراعاة والمجاملة فيه، تركوا هذا للقيادات السياسية، خطابهم موجع وصريح وبلا مجاملة، وبالنهاية هناك فرق تاريخي بين مكونات الخطاب لدى كل فئة اجتماعية، فلا يتصورن أحد أن خطاب عامل البناء مثل خطاب موظف الأن جي أوز، وأن خطاب الطالب سيكون مثل خطاب ممثل قوة ما في لجنة تنسيق فصائلي، وهنا خبراء المجاملات والمداهنة. هنا الوردة فلترقص وهنا القلعة فلتقفز، وإن طبقت هذه الحكمة اليونانية على طبيعة الخطاب الطلابي فلن يضيع اتجاه النقاش.
وتحية حارة للطلبة وخطابهم الصريح الموجع والواضح دون مجاملات فارغة.