Menu

رئيس تحرير "الهدف" الدكتور وسام الفقعاوي: مقاومة الشعب الفلسطيني وكفاحيّته دليل حيوية كبيرة يختزنها في عمق بنيته الفتيَّة

أحمد زقوت

خلال الحوار

نشر هذا الحوار في العدد 50 من مجلة الهدف الإلكترونية

النكبة والعمل المقاوم وأزمة العدو وآفاق المسألة الفلسطينية:

* بعد 75 عامًا من النكبة، نرى العمل المقاوم والاشتباك مع العدو الصهيوني في تصاعد، ما مدى انعكاس ذلك على المشهد الفلسطيني؟

** بمختلف القراءات والمعايير؛ كانت "النكبة" عام 1948، وما خلقته وجسّدته من وقائعَ تاريخيّة؛ كسرًا حادًّا للوجود وللمسارين؛ المادي والسياسي الفلسطينيين، منذ بدايات الصراع مع العدوّ الصهيوني، حيث كان أحد أهداف عملية التطهير العرقي، بالقتل والمجازر والتهجير القسري، عدم إتاحة فرصة التعافي السريع للبنية المجتمعيّة للشعب الفلسطيني، وجعله أسيرًا لواقع اللجوء المتعدّد، ودون أيّة مبالغة؛ راهن كثيرون إلى جانب العدوّ على حجم التحديات والمخاطر التي تهدّدت بنية الشعب الفلسطيني ووحدته وفعاليته، من خلال تحفيز عوامل الاستئصال والإلغاء والاستلاب وتبديد الوجود وإلغاء الهوية وتفتيتها وإلحاقها بهم، التي كانت لها ترجماتها الماديّة والنفسيّة، على الشعب الفلسطيني الموزّع على سبعة تجمعاتٍ رئيسيّةٍ أو يزيد؛ تنفصل عن بعضها البعض بعوائق مُختلفة؛ قسرية وموضوعية في آن.

لكن في الوقت ذاته، لا يمكن لأي قارئٍ حصيفٍ أو ممعنٍ في تاريخ الشعب الفلسطيني أو حتى مُطّلعٍ عليه، إلا ويدرك أن نضاله لم ينقطع لحظةً واحدةً - بكل ما تعنيه الكلمة - عن مواجهة الغزوة الصهيونية، منذ أن وُضِعَت مداميك أول مستوطنةٍ زراعيّةٍ صهيونيّةٍ (بتاح تكفا) على أرض وطنه عام 1882، وقاومها الفلاحون الفلسطينيّون، دون انتظار أن يكتمل شكلًا تنظيميًّا ما، ينضمّون في إطاره كي يقاوموا الغزوة، وهذا هو الحال عندما قامت الانتفاضات والهبات والثورات في أعوام 1920 و 1929 و 1935 و 1936 – 1939 وما قبلها وما بينها، حتى بالتشكيلات العصابيّة الثوريّة التي برزت مع ظاهرة الشيخ المجاهد عز الدين القسام، مرورًا بالثورة الفلسطينيّة الكبرى التي استمرّت لثلاث سنوات. ورغم الهزيمة التي لحقت بالثورة والشعب الفلسطيني إجمالًا وما ترتّب على ذلك وصولًا إلى الهزيمة/النكبة عام 1948، إلا أن كل السياق الثوري الذي سبقها، على ضعف بناه واستراتيجياته ووضوح أهدافه وتماسك قياداته وثقته بها؛ عبّر بكلّ ما تعنيه الكلمة أيضًا، عن الروح الكفاحية التي تختزن داخل عقل الشعب الفلسطيني ووجدانه وضميره، وانطلاقًا من وعيٍ أصيلٍ لطبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه التصفويّة، لم يكن أمام الشعب الفلسطيني من خيارٍ، إلا أن يستمرّ في اجتراح وسائل مقاومته وإدامة ثورته التي وجدت ملاذًا لها في صعود المد القومي وتشكيلاته من حزب البعث مرورًا بحركة القوميين العرب والناصرية التي مثّلت أقصى صعودٍ للحالة القوميّة الشعبيّة، قبل هزيمة/نكسة عام 1967، ثُمّ صعود الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بتنظيماتها التي تمثّلت تجربتها في منظمة التحرير الفلسطينيّة وشكّلت مظلّةً وكيانًا معنويًّا وقانونيًّا للشعب الفلسطيني، وعبّر من خلالها عن أهدافه وتطلّعاته وحقّه في التحرير والعودة وتقرير المصير، وانضوى معظم أبناء الشعب الفلسطيني وقاتلوا تحت رايتها. وعلى الرغم من كل محاولات التدجين والتزييف وكي الوعي الذي ترافق مع مشروع التسوية وتطبيقاته التي شكّل جسرها فلسطينيًّا "اتفاق أوسلو" بعد أن وضعت قواعده عربيًّا باتفاقيّة "كامب ديفيد"، إلا أن الضمير الجمعي الفلسطيني وذاكرته الحيّة بقيت تحتفظ وتختزن في داخلها بتجربةٍ ممتدةٍ لما يزيد عن قرنٍ من الزمان في المواجهة والاشتباك، بكل ما في هذا التاريخ الكفاحي الثوري؛ من صعودٍ وانكسارٍ ووصلٍ وانقطاع، حيث يعطي في كل مرةٍ ما هو أنصع وأكثر وضوحًا ثوريًّا من كل التجارب المريرة والهزائم العسكرية والسياسية المتكررة، وهذا ما تعبر عنه مقاومة الشعب الفلسطيني اليوم في قطاع غزة، وتشكيلاتها المتعددة في الضفة الغربية: كتيبة جنين وبلاطة و أريحا وعرين الأسود وغيرها.

وهنا يمكن رؤية الحالة الكفاحية الشعبية المستمرة دون انقطاع من زاويتين الأولى؛ أنّها تأتي في سياق الردّ الطبيعي "الغريزي" على التهديد الوجودي الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني، ومن زاويةٍ أخرى تأتي تعبيرًا عن عمق أزمة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، التي لم تستطع التعلّم بعد من تجربتها المديدة، ووضع مقدّمات تجاوز أزمتها على الأقل، حيث يمكن القول دون حذر: إن مقاومة الشعب الفلسطيني وكفاحيّته دليل حيوية كبيرة يختزنها في عمق بنيته الفتيَّة، مقابل عجز أحزابه التاريخية عن الاضطلاع وطنيًّا بمهمتها المطلوبة ووظيفتها التي وقفت خلف نشأتها، وأي مهمةٍ ووظيفةٍ أكبر وأهم من إعادة تأسيس المشروع الوطني الفلسطيني التحرّري؟

* الاحتلال منقسم داخليًّا بشكلٍ غير مسبوقٍ بعد 75 عامًا من احتلاله لفلسطين، كيف يمكننا استغلال ذلك؟

** يعيش كيان الاحتلال حالةً من الانقسام غير المسبوقة التي تبدو في ظاهرها انقسامًا سياسيًّا بين مكوناته وأحزابه على قرارات حكومة نتنياهو – بن غفير – سموترتيش، وإجراءاتها، وخاصةً ما يتعلق منها "بالإصلاح القضائي"، لكن في حقيقتها تعبيرٌ عن انقسامٍ مجتمعيٍّ عميقٍ بمساره التاريخي، الذي يعود لتأسيس "إسرائيل" نفسها، التي استجلبت اليهود الصهاينة من أغلب دول العالم، بخلفياتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ مختلفة، وإن كانت قوة الصهر التي مارستها "الدولة" استطاعت تمويه الفروقات الكبيرة هذه، إلا أنها كانت تزداد بفعل الفارق الزمني وتشظي الحالة الحزبيّة والسياسيّة الداخليّة وشخصنتها؛ الأمر الذي دفع الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين  عام 2015؛ لتناول هذه الفروقات/التحولات عندما قال بوجود قبائل أربع في "المجتمع" الإسرائيلي: القبيلة العلمانية، والقبيلة العربية، والقبيلة الحريدية- المتدينون الحريديم، وقبيلة الصهيونية الدينية أو الصهيونية القومية. ووصل الأمر ببعض الساسة الصهاينة وفي مقدمتهم أيهود بارك وحتى نتنياهو نفسه، بالحديث عن "عقدة إسرائيل الثمانين"، هذا يعني أن الأزمة السياسية الناتجة عما يسمى "الإصلاح القضائي"، ما هي إلا عرضٌ لانقسامٍ مجتمعي، طال التشكيك في طبيعة الدولة ذاتها وبنيتها وهويتها ومستقبلها.

لكن وأنا أقول بذلك، لا يمكن لي أن أتجاوز مفاعيل القوّة الإسرائيليّة؛ الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وغيرها، وقدرة نظامها السياسي على إعادة إنتاج نفسه في إطار المشروع الصهيوني والانضباط لرؤيته الاستعماريّة – التوسعيّة. وعليه، فإنّ الاستثمار في الانقسام الداخلي الصهيوني، هو في استمرار تضخيم تكاليف هذا المشروع، من خلال تعظيم خسائره المادية والبشرية، وهذا لن يكون دون رؤيةٍ واستراتيجيةٍ ثوريةٍ شاملة، يضطلع بها الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة، بانسجامها وتناغمها مع رؤيةٍ واستراتيجيةٍ ثوريةٍ عربيةٍ أشمل؛ تعمل على إلحاق الهزيمة التاريخية بالمشروع الصهيوني الغربي الإمبريالي؛ كون النضال ضد الوجود الصهيوني في فلسطين جزءًا لا يتجزأ من النضال ضد نظام الهيمنة والإلحاق الأمريكي الغربي الإمبريالي.     

* برأيك، ما أسباب منع قيام دولة فلسطين وإنهاء 75 عامًا من النكبة والشتات؟

** السؤال بهذه الصيغة يفتح على سؤال آخر: أي دولة المقصودة تلك؟ هل الدولة التي أقرّها قرار التقسيم 181؟ أم الدولة التي توخّاها البعض من خلال مشروع التسوية على أقل من 22 من مساحة فلسطين التاريخية؟ وقد يصل الأمر إلى التعاطي مع الأطروحات التي حاولت الالتفاف على طبيعة الصراع التاريخي التناحري مع المشروع الصهيوني، من خلال الحديث عن دولةٍ واحدةٍ مع المستوطنين.

لقد تعرّض الفكر السياسي الفلسطيني إلى انقسامٍ حادٍّ منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، عندما طُرح مشروع النقاط العشر، الذي بإقراره نقل الحديث عن التسوية من المستوى النظري إلى المستوى العملي، الذي تناغم تمامًا مع فكرة الاستدوال الذي بات يداعب خيال القيادة الرسمية الفلسطينية، وجعلها طيّعة في تعاطيها مع مشروع التسوية من البوابة الأمريكيّة؛ متوهّمةً إمكانية أن ينتهي هذا المسار التسووي بإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ في قطاع غزة والضفة الغربية؛ تنهي عقودًا من المأساة الفلسطينية، لكن ما حصل العكس تمامًا، حيث أضيف للمأساة الفلسطينية، فصولًا جديدة، من التطهير العرقي والاستيطان والتوسّع والفصل العنصري والتهويد والأسرلة... مترافقًا ذلك مع انقسام الحالة الفلسطينية وتشظّيها، وضعف بنيتها وقيادتها وتعدّد أهدافها.

أُجزم بأنّنا بتنا بحاجةٍ لاستعادة فكرة الوطن الذي لا يمكن أن تُبنى عليه الدولة إلا باسترداد كامل الأرض من الغاصب الصهيوني. وإقامة الدولة لن تكون من خلال قراراتٍ دولية، ما كان لها أن ترى النور إلا من باب مساهمتها في إرساءٍ دائمٍ لدولة العدو، أو من خلال سياسة الاستجداء من الدول العظمى أو بالاستناد إلى منظومةٍ رسميةٍ عربيةٍ متهالكة؛ فمشروع الدولة هو مسألة نضالٍ لا يتوقف على طريق تفكيك الوجود الصهيوني عن أرض فلسطين وإنهائه للأبد.    

* ما الدور الواجب القيام به حتى طرد الاحتلال عن أرضنا الفلسطينية؟

** ليس من طريقٍ أمامنا لذلك سوى استمرار طريق النضال والكفاح الوطني، الذي سيدفع شعبنا من خلاله المزيد من التضحيات الكبيرة والعظيمة، وأعتقد أن شعبنا باستمرارٍ كان جاهزًا لذلك وقادرًا عليه – كما ثبت في كل مرحلةٍ نضالية – لكن وبكل صراحة، لم يكن المستوى أو الشرط القيادي، الذي يتجاوز الأشخاص إلى البُنى والهياكل والسياسات والأهداف قادرًا على أن يكون بمستوى الحالة الشعبية التضحوية، لذلك كانت الفجوة حاضرةً باستمرار.

وهذا الأمرُ بدوره يعيد طرح ضرورة الاضطلاع وطنيًّا باستراتيجيّةٍ شاملةٍ مُوحَّدةٍ وموحِّدة، وإعادة البناء الذاتي المجتمعي الفلسطيني من بوابة إعادة بناء مؤسّساته الوطنيّة الجامعة على أسسٍ وطنيّةٍ تحرّريّةٍ واجتماعيّةٍ ديمقراطية، تعيد الاعتبار لمشروع تحرير فلسطين كاملة، وتنمية قدرات المجتمع الفلسطيني العلمية والتعليمية والتكنولوجية والاستثمار الأمثل في طاقات الشعب الفلسطيني وكفاءاته، واستمرار الصمود المقاوِم على الأرض وتطوير القوّة الرادعة الفلسطينيّة التي تؤهلنا مستقبلًا لتحقيق النصر التاريخيّ على العدو الصهيوني، وتحقيق أهداف شعبنا في الحريّة والعودة والاستقلال.

مارك ردوين "جهاد منصور" والفن من أجل فلسطين:

* مارك رودين "جهاد منصور" كان لديه قناعاتٌ سياسيّةٌ مناهضةٌ للاحتلال، وترجم ذلك من خلال ريشته التشكيليّة؛ فأكثر من 200 لوحةٍ فنيّةٍ عبّرت عن واقع الشعب الفلسطيني، مثل النكبة واللجوء والمقاومة والأسرى والشهيد...الخ، كيف عكس فنّه البصري على حركة التضامن مع الفلسطينيين في العالم؟

** لم يكن التحاقُ مارك رودين المشهور بجهاد منصور، بصفوف الثورة الفلسطينيّة من خلال الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين إلا تعبيرًا عن انحيازه الكامل لقضيّة الشعب الفلسطيني في الحريّة والعودة والاستقلال، وهذا الانحيازُ لم يكن انحيازًا عفويًّا أو رومانسيّةً ثوريّة، بل كان عن قناعةٍ كاملةٍ جعلته ينهصر تمامًا مع حياة الفلسطينيين في مخيّمات اللجوء في لبنان و سوريا ومواقع الفدائيين، وهذا ما جعله غير مكتفٍ بريشته التي عبّرت عن معاناة الشعب الفلسطيني وآماله وحقوقه وثورته، من خلال عشرات اللوحات الفنيّة المميّزة، بل حمل البندقيّة إلى جانبها وقاتل بفدائيّةٍ عاليةٍ في محاور عدّة أثناءَ اجتياح القوّات الصهيونيّة لبيروت عام 1982، وأشيع بين رفاقه أنّه استشهد ومجموعته، لكنّه نجا بأعجوبةٍ من موتٍ محقّق، قضى فيه كلّ أفراد مجموعته. وعليه، كانت رسومات/لوحات "جهاد منصور" جزءًا من معركة الشعب الفلسطيني من أجل الحريّة، التي انتشرت في أرجاء العالم كلّه تقريبًا، وأقيمت لها المعارض التي جابت الكثير من بلدانه، وشكلت خلفها حركة تضامن شعبيّة مع القضيّة الفلسطينيّة، خاصّةً وسط أحزاب اليسار وقواه، التي تعرّفت من خلال رسوماته إلى تفاصيلَ تتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، كونها كانت تعبيرًا حيًّا وصادقًا عن معاناة الشعب الفلسطيني وطموحه وحقوقه، وهذه كانت أحد أسباب ملاحقته من قبل حكومات العديد من الدول الأوربيّة التي اُعتقل لدى بعضها.

* كما قلت، الفنان مارك اُعتقل أكثر من مرّة في بلدانٍ عدّة بسبب رسوماته، إلى أي مدى كانت هذه الرسومات تسهم في بناء الوعي الثوريّ لدى الجماهير؟

** بشهادة من عايشوا "مارك" سواء في مخيّمات لبنان أو سوريا، لم يكن يُقْدِم على رسم أيٍّ من لوحاته تقريبًا إلا ويضع لها تصوّرًا حيًّا من خلال تجوّاله في المخيّمات، وحين تختمر الفكرةُ كاملةً في رأسه يبدأ بالرسم، وبعضها رسمها في الهواء الطلق، وقد يتّضح الأمر أكثر إذا ما عرفنا أنّ أول ملصقٍ رسمه كان لكلاشنكوف مسنودًا على حائطٍ في إحدى غرف الفدائيين، ثُمَّ تناولت رسوماته الكثير من الرموز الفلسطينيّة أو التي أصبحت تُعبّر عن واقع حال الفلسطينيين: المخيّم، الكوفيّة، القدس ، الحجر، الشهيد، الأسير... وكل هذا كان بدوره تحفيزًا للوعي الثوري العام، خاصّةً أنّ هذه الملصقات كانت تنتشر بكثافةٍ في شوارع المخيّمات وأزقتها، وكانت الجماهيرُ تستقرئ من خلالها الرسالةَ الثوريّةَ وموقفَها ودلالتَها، لهذا يَعدُّ البعض فنّ الملصق، الذي أسهم "مارك" بتطويره، كمتخصص في هذا المجال، ساهم بدورٍ كبيرٍ في حشد الجماهير حول الرموز والتعبيرات الثوريّة التي ارتبطت بالقضيّة الفلسطينيّة، إلى جانب بناء وعيٍّ ثوريٍّ عام، هو جزءٌ من الذاكرة الجماعيّة للشعب الفلسطيني التي بقيت تحاكي حاضرها بالحنين إلى تلك التجربة/المرحلة الثوريّة التي أعطت للقضيّة الفلسطينيّة حضورًا شعبيًّا بارزًا محليًّا وعالميًّا.

* بإمكاننا اعتبار "مارك" أحد قادة النضال العالمي ضدّ الاحتلال والصهيونيّة، والعديد من الحكومات كانت تلاحقه، فكيف استطاع أنّ يقنع الجماهير بأهميّة القضيّة الفلسطينيّة ومحاربة العدوّ الصهيوني؟

** من الجدير أن نعرف بأنّ مارك رودين، نما وعيه الشاب، وسط التحوّلات الثوريّة التي كانت تشهدها بعض البلدان التي خضعت للاستعمار الأمريكي - الغربي الإمبريالي، خاصّةً كوبا وفيتنام، وبينهما التحوّلات التي شهدتها أوروبا ذاتها، وخاصّةً الثورة الطلابيّة في فرنسا أواخر ستينيات القرن العشرين، فما كان من السويسري القادم إلى إيطاليا التي كان ينشط فيها اليسار الراديكالي، إلا أن يكون جزءًا من هذه التحوّلات التي جعلته ينتمي إلى القضيّة الفلسطينيّة، منذ تعرّفه إلى مجموعةٍ من اليساريين الفلسطينيين الذين استطاعوا أن يمثّلوا قضيّتهم بحقّ، دفعت "مارك" لأنْ يعبّر عن انتمائه من خلال خوض غمار العمل الفدائي في بعض بلدان أوروبا، أي قبل التحاقه بمخيّمات الفدائيين في لبنان، حيث أسهم ومجموعة أخرى من اليساريين الأوربيين في تأمين الدعم المالي للثورة الفلسطينيّة. وعليه، فإنّ دعائم انتمائه للقضيّة الفلسطينيّة، كانت راسخة، وهذا ما جعل من فنّه كما سيرته، دافعًا لدى الكثير من المجموعات اليسارية وغيرها، إلى القيام بدورٍ كبيرٍ في حشد الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيّته، تجاوز الدعم اللفظي أو المعنوي أو المالي إلى الدعم الفعلي من خلال التحاق العديد من المناضلين الأوربيين وغيرهم من مختلف أرجاء العالم في صفوف الثورة الفلسطينيّة وقواعد فدائيّيها، وقاتلوا إلى جانب شعبنا عدوّهم التاريخي، وشكّلوا في الكثير من الأحيان مآثرَ بطوليّة، يجب أن نبقى نسردها للأجيال الفلسطينيّة، كونهم يمثّلون جزءًا مهمًّا من الذاكرة الحيّة للشعب الفلسطيني، فهم بعض من كتبوا فصول هذه الذاكرة، تاريخًا وراهنًا.

* كيف شكّلت رسومات "مارك" مدًّا ثوريًّا ضدّ الاستعمار والاستبداد على صعيد قضايا الجماهير في العالم؟

** إذا جاز التعبير، فإنّ مارك رودين أو جهاد منصور، التحق بالثورة الفلسطينيّة، من بوّابة التحاقه بالثورة العالميّة ضدّ الاستعمار والاستبداد الأمريكي - الغربي أوّلًا، وهنا نجده يقفُ بفنّه مساندًا الثورات الشعبيّة المقاومة التي دعمت الشعب الفلسطيني؛ فرسم لوحاتٍ وملصقاتٍ تدعمُ ثورات كوبا والسلفادور والعديد من دول أمريكا اللاتينيّة، مؤكّدًا بها وحدةَ "الهدف والمسار والمصير"، بين هذه الشعوب التي تقاوم الاستعمار والإمبرياليّة والصهيونيّة، من أجل تحقيق حريّتها واستقلالها وامتلاكها لثرواتها ومقدّراتها.

أحمد جابر.. المثقف الثائر والقلم المُقاوم والقارئ لمشروع العدو:

* بقيَ أحمد جابر متمسّكًا بقناعته الثوريّة بضرورة طرد الاحتلال الصهيوني من كلّ فلسطين، ويظهرُ ذلك من خلال كتاباته ومواقفه الوطنيّة؛ سخّر قلمه في مقاومة الاحتلال، كيف استطاع تشكيل الوعي وصناعة الثورة ضدّ العدو؟

** بقيَ أحمد إلى آخر لحظةٍ في حياته، ورحيله المفجع عنا، صافي الفكر والانتماء الوطني؛ إذ لم يتلوّث فكره كما انتمائه، بمرحلة التسوية وثقافتها وكُتَّابها ومرتزقيها، بل شكّل نقيضًا لكلّ ذلك، بتمسّكه بالوطن/الحلم، الذي عاشه لاجئًا ومغتربًا بين الأردن وسوريا وليبيا و مصر وتركيا، عاش الحلم/الوطن بكامل تفاصيله، لذلك كان على معرفةٍ دقيقةٍ به، منذ أن شبَّ وعي الفتي غاضبًا "كما وصف ذاته في إحدى مقالاته"، فنجده يعبّر عن الوطن في كتاباته ودراساته ومقالاته، كما تشكّل في وعيه، ليس كما حاولت تصويره أو اختزاله مرحلة التسوية؛ كان الوطن الذي بشر به وسعى إليه وكتب عنه، هو فلسطين الكاملة من بحرها إلى نهرها، من رفح جنوبًا إلى أخر نقطة شمالًا "الناقورة"، ولم يقف الأمر لديه عند هذا الحد "الكتابة بحبر القلم" لفلسطين، بل أيضًا استعدّ للكتابة "بنزف الدم" أيضًا، من خلال مهمّاتٍ فدائيّةٍ كُلّف بها على حدود فلسطين الشماليّة؛ فجمع بين خاصتي الكاتب والمقاتل/الفدائي، وهنا تكتسب المسألة بعدًا آخر، ألا وهي تعاظم الإحساس بالمسؤوليّة أمام القضيّة التي يذود عنها، وتغدو مسألة التماهي بين الوعي والممارسة مسألةً أساسيّة، ربطًا بالمهمّة الواجب تنفيذها، ونذر أحمد نفسه لها بكل وعي، لذلك ارتكز إلى وضوحٍ ثوريٍّ تام في رؤيته للمسألة الفلسطينيّة؛ فنجده في معظم ما كتب وأنتج، وهذا برأيي شكّل زادًا توعويًّا ثوريًّا، ولا أجازف لو قلت، إنّه يشكّلُ حلقةً من حلقات تعافي الحالة الفلسطينية راهنًا ومستقبلًا، وأوّلها يكمن في ضرورة إعادة إنتاج رؤيةٍ شاملةٍ في صراعنا مع العدوّ الصهيوني، تعيد إنتاج فلسطين كما رآها أحمد ومن سبقه بأجيال من الفدائيين، وتضع الشعب الفلسطيني أمام ضرورة "تغيير دليل رحلته والتخلّص من السمسار"، كما كَتَبَ أحمد ذات مرة.   

* وصف بعض المفكّرون والكتّاب أحمد جابر عند رحيله بأنّه "فقيد الحقيقة والثقافة الوطنيّة" و"المثقّف الثائر"، برأيك لماذا؟

** أُجزم أنّ الكتابة الصادقة والحقيقيّة والمعبّرة عن واقع الحال، لا تُلقي بكلماتها جزافًا، بل هي تعبيرٌ صادقٌ عمّا أراد صاحبها أن يقوله أو يبوح به، أو يلقي الضوء عليه أو يُظهر بعدًا ما من خلالها... وعليه، فإنّ كل الكتابات التي تناولت أحمد ووصفته بعد رحيله، تندرج تحت هذا؛ فأحمد لم يكن يحتاج إلى من يجامله أو يدلّس له أو يكذب عليه بعد موته، لذلك جاءت الكتابات في جلّها تعبّر عن حقيقة أحمد جابر، الصبي والشاب والفدائي المثقّف بنهم الانصهار كليًّا بقضيّة شعبه، وكرّس كل كتاباته لها وعنها. وإذا ما دقّقنا جيّدًا في كتابة أحمد سنجدها في جلّها نقديّة، غير مجاملةٍ وغير تزبينيّةٍ للواقع كما التجربة، حتى وهو يمتلك امتياز الكتابة من الداخل، فالخلفيّةُ الوطنيّةُ والمستقبليّة لكتاباته جعلته منحازًا دائمًا للوطني حين يصطدم بالفئوي، وللمستقبل حين يتعارض والماضي. وهنا لا جدال في أن الانحياز للجانب الوطني والحقيقة والمستقبل، يعكس في أحد وجوهه وعيًا صادقًا وحساسيّةً عاليةً جدًّا تجاهَ مسؤوليّة الكاتب الباحث عن الحقّ والحقيقة، وليس الكاتب الممتهن، الذي يجيد الانتقال بين "دهاليز" اللغة والمواقف بسهولة، دون أي لسعة ضمير.

أستطيع القول من خلال معرفةٍ قريبةٍ من أحمد وعميقةٍ لما كَتَبَ: إنّه استطاع امتلاك أدواته البحثيّة باقتدارٍ وكفاءةٍ عالية، وهذا جعله محكومًا لخلفيّته الوطنيّة قبل الحزبيّة، وللحقيقة وسعيًا لها، حتى وهو يكتب "غاضبًا"، لم يكن يفقد الحلقة المركزيّة التي أبقته إلى آخر لحظةٍ في حياته مثقّفًا وطنيًّا وثوريًّا بامتياز.

* كيف أسهم أحمد في نقل مقولته "اِعرف عدوّك" إلى ساحة النضال الوطني والجماهيري ضدّ العدوّ الصهيونيّ؟

** اهتمَّ أحمد مبكّرًا بدراسة العدوّ إلى أن أصبح متخصّصًا به، ومن ثَمَّ مسؤولًا عن قسم العدو في "بوّابة الهدف". فمن خلال النقاشات الكثيرة المطوّلة بيني وبينه، إلى جانب ما كَتَبَ؛ أستطيع القول: إنّ وعيه تأسّس تجاه العدوّ الصهيوني، ليس فقط، بكونه تناقضًا رئيسيًّا، بل نقيضٌ لوجودنا وحقوقنا، فهذا العدوّ كما كان يقول أحمد: حاضرٌ في كلّ عدوانٍ وهزيمة، وفي كل فشلٍ وأزمةٍ لحقت بنا، وفي حسرة كل أم شهيدٍ وأسيرٍ على فلذة كبدها، وفي كل معاناةٍ مستمرّةٍ معنا منذ ما قبل عام 1948 وبعدها، وهذا يتطلب منا - نحن الفلسطينيين قبل غيرنا - أن نكون أمام معرفةٍ شاملةٍ ومتكاملةٍ للوحة الصراع والعدو الذي نجابهه؛ معرفة واقعيّة علميّة، لذلك كتب أحمد الكثير الكثير عن هذا العدو: تركيبته الاجتماعيّة، خلفيّته الدينيّة والفكريّة والثقافيّة، بنيته السياسيّة، أذرعه العسكريّة وأجهزته الأمنيّة، واقعه الاقتصادي، تطوّره التكنولوجي، مؤسّساته البحثيّة... وغير ذلك، من الكتابات التي شكّلت وما تزال تشكّلُ ذخيرةً كبيرةً أمام كل أبناء شعبنا في قراءة عدوّانا ومعرفة تفاصيل دقيقة عنه وحوله، تشكّل في مجموعها - ما كتبه أحمد وغيره من الكُتَّاب الذين قرأوا العدو من على ذات الأرضية الوطنية الصلبة التي وقف عليها أحمد – جسرًا للهوة السحيقة في ميزان القوّة بيننا وبين العدو، وهذه كانت أحد أهم أهداف فقيدنا الكبير أحمد، وهذا سرُّ اجتهاده الكبير في قراءة العدوّ ومعرفته، الذي يجب ألا يغيب أبدًا من قراءتنا له، كونه - أي العدو – يمثّل حضورًا على مساحة كامل تاريخنا العربي والفلسطيني الحديث زمانًا ومكانًا.