Menu

في ذكرى النكبة الـ 75.. الشعبُ الفلسطينيُّ في الاتّجاه الصحيح

محمد أبو شريفة

نشر في العدد (50) من مجلة الهدف الرقمية

تتجدّد المأساة الفلسطينيّة وتعيدنا معها إلى البدايات، سبعة عقودٍ وبضع سنواتٍ والسرديّة الفلسطينيّة ما تزال على حالها، تروي الألم الدائم والمستمرّ وتأمل الخروج من دائرتها. فبعد احتلال فلسطين بالكامل كانت الحكوماتُ الصهيونيّةُ المتعاقبةُ تخرج وتعلن الانتصار وتحقيق الأهداف، وهو الأمرُ ذاته الذي أعلنه نتنياهو بعد انتهاء الجولة العدوانيّة الأخيرة على قطاع غزة، وبأنّ (إسرائيل) تمكّنت من تدمير قدرات المقاومة الفلسطينيّة وإضعافها إلى المستوى الذي لا يمكنها من استرجاع عافيتها بسهولة. ولكن اللافت أن نتنياهو الذي يحتاج هذه الحرب العدوانيّة لاعتباراته، لن يكون قادرًا وفق استطلاعات الرأي الإسرائيليّة على تحمّل كلفتها، ولا كلفة استرضاء جمهور الناخبين الذين سيغيرون موقفهم الداعم لحكومته في استمرار العدوان إلى تبادل التهم، سيما في ظلّ المناكفات والتصدّعات داخل مجتمع الاحتلال التي تزيد من حدة الصراعات والانقسامات.
تجدّدت الجولات خلال العقدين الأخيرين لتثبت المقاومة أنّها تمتلك قدراتٍ أقوى من الجولة التي قبلها. وفي المواجهات الثلاثة الأخيرة (سيف القدس )، (وحدة الساحات)، (وثأر الأحرار)، شهد العالم على أداءٍ مغايرٍ لقوى المقاومة تمثّل بتطورٍ نوعيٍّ في القدرات التسليحيّة، تجسد بالقذائف الصاروخيّة التي جعلت كل التجمع الاستيطاني في فلسطين المحتلّة تحت مرمى الصواريخ، إضافةً إلى قدرة غرفة العمليات المشتركة على إدارة المواجهة، وفقًا لمقتضيات الواقع السياسي والميداني ومراكمة الخبرات للتحكم بإيقاع المعركة. 
ليس هذا حدثًا طارئًا في ميزان القوى العسكري، لكنه تغييرٌ واقعيٌّ يلقي بتداعياته على المشهد السياسي في المنطقة، ويؤكّد قاعدةً مهمّةً بأنّ الشعب الفلسطيني ما يزال مستعدًّا للاشتباك والتضحية ومقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة ولن يستسلم لأوهام سرديّة سيطرة القوي وإنهاء القضيّة، قبل أن ينال حقوقه المشروعة. وبالرغم من الانقسام الفلسطيني القائم، إلا أنّ وحدة الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، أُنجزت معمّدة بالتضحية والدم. وكان من أهم تفاعلات العدوان على غزة، ما أظهره الشعب الفلسطيني في الضفة الفلسطينية من استعداد لتطوير أدوات المقاومة النوعية والمسلحة وأشكالها، وانتفاضة الفلسطينيين في الداخل المحتل، والروح الكفاحية التي برزت في عموم الشارع العربي، نصرةً للحق الفلسطيني، وأيضًا سقوط معادلاتٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ كانت قائمةً وكأنّها مسلّمات، حيث سقطت معادلة الاحتلال والأمن في فلسطين، ومعادلة التطبيع العربي مع (إسرائيل) سقطت هي الأخرى. 
إذن، فقوى المقاومة تفرض حضورها وثقلها بنجاحها باجتياز الضغوطات، فلا تهدئة ولا أمن قبل أن ينعم الشعب الفلسطيني بالأمن والحرية ومحاولات تغيير الوضع القائم، باستهداف قيادات الميدان تفجر أشد مواجهة مسلحة، وهذا مكسبٌ كبيرٌ للشعب الفلسطيني ويصب في مصلحة جميع الأطراف، وهنا تغدو الحاجة ملحّةً لتفعيل آليات الوحدة الوطنية على أساس الثوابت والقواسم المشتركة.
إنّ المنطقة تتغيّر ويتعيّن على الدول صاحبة المصلحة أن تجاري هذا التغيير، فالمقاومة في الضفة وغزة ليست مجرد مقاومة فصائل فلسطينية فقط، بل أضحت لاعبًا مهمًّا في المعادلة العربيّة والإقليميّة لا يمكن تجاهلها، والشعب الفلسطيني الذي يصنع المستحيل ويبتكر كل يوم أساليب كفاحيّة ونضاليّة جديدة، هذا الشعب، أثبت أنه أكبر من قياداته، وسيمتلك القدرة بدعم أمته العربية وأحرار العالم على تحقيق الانتصار وطرد الغزاة عن أرض فلسطين.
أكثر من سبعة عقود والشعب الفلسطيني يواجه بصدره العاري جرائم قتلٍ وحشيّة في الضفة والقدس وغزة، مترافقةً مع اقتحاماتٍ للمدن واعتداءاتٍ يوميّةٍ على المسجد الأقصى، واعتقالاتٍ وسلبٍ ونهبٍ للأراضي وتوغّلٍ استيطانيٍّ وتدميرٍ للمنازل وتهويدٍ للقدس ومحيطها. هذه الجرائم ما تزال مستمرة، ويعلن العدو صراحةً أنّها بمثابة عمليةٍ عسكريةٍ مفتوحةٍ تتطلب الاستنفار العام، لذلك فإن العملية العدوانية الأخيرة على القطاع حققت بنظر الحكومة الصهيونية عدة أهداف، أهمها: إرضاء نتنياهو لليمين الديني العنصري والسياسي الإسرائيلي، وتمكين موقع حكومته ومكانتها أمام المخاطر من انهيارها بسبب الخلافات داخلها، وإرجاء المخاطر المحتملة ضد حكومته من الشارع الإسرائيلي لاعتباراتٍ عديدة، وتحسين شعبية الحكومة في نظر الناخبين باعتبارها تتخذ زمام المبادرة بشن عمليات استباقية أو انتقامية من الفلسطينيين، إلا أن هذه النظرة تدحضها استطلاعات الرأي الإسرائيلية الأخيرة والتي أشارت إلى أن أكثر من 70 % من الإسرائيليين غير راضين عن السياسة الأمنية الإسرائيلية. 
الدم الفلسطيني لا يتوقف عن النزيف منذ قرن مضى، وكلما أرادت حكومةٌ صهيونيّةٌ تحسين شعبيتها، ترتكب الجرائم بحق الفلسطينيين، بذرائع مختلفة، وعلينا أن نترقب إلى أين تذهب كل فلسطين خلال الأشهر القليلة المقبلة؛ لأنّ رد فعل الفلسطينيين سيولد رد فعل إسرائيلي، بما يجعل كل فلسطين أمام حربٍ كبيرة. فما يحدث ليست مجرّد عمليّاتٍ عسكريّةٍ تقليديّةٍ للاحتلال، بل هي مجازر والمجتمع الإسرائيلي الهش أساسًا، لا يحتمل ردّ الفعل خصوصًا، إذا جاء موحّدًا وقويًّا، وستخرج الأصوات التي تندد بالحكومة الإسرائيلية والأكثر تطرّفًا، الذي يقوم بإدارتها نتنياهو باعتباره هو الذي قاد مجتمع الاحتلال إلى مستنقع الدم في توقيت يزخر بالأزمات. ولذلك يتطلب هذا الواقع من الفلسطينيين استنفار الطاقات المتراكمة عبر السنين الماضية بتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنهاء الانقسام ورفع الصوت عاليًا أمام العالم أجمع لسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، فهل يعقلُ أن يستمرّ الاعتراف الرسمي الفلسطيني بمجموعةٍ من المجرمين والإرهابيين على رأسهم نتنياهو وبن غفير وغيرهم؟! 
أيضًا يتطلّب الواقع الراهن إلغاء اتفاقات أوسلو بكل ملحقاتها وبلورة استراتيجيّة عمل فلسطيني، تقوم على قاعدة خيار الاشتباك بجميع أشكاله وعلى رأسه المقاومة المسلحة خيارًا استراتيجيًّا في مواجهة الاحتلال الذي يعيش مأزقًا وجوديًّا، نتيجة تناقضاته الداخلية العميقة ونتيجة صمود الشعب الفلسطيني على أرضه ونمو وتصاعد قوة قوى المقاومة في المنطقة والتحولات الكبرى على المستوى الدولي وبداية إمكانية تشكّل نظامٍ عالميٍّ متعدّد الأقطاب تنتهي فيه الهيمنة الأمريكية والإمبريالية في السيطرة على العالم. 
لا شكّ أن كفاح الشعب الفلسطيني يدخل مرحلةً جديدة، فنحن أمام جيلٍ فلسطينيٍّ جديدٍ لا يعرف المستحيل ولا يخشى قوى الإرهاب الصهيوني، جيلٍ فلسطينيٍّ جديدٍ مشتبكٍ يتبنّى خيار الاستنزاف في وجه المحتل ويدفع باتجاه تطوير الأداء الكفاحي، وذلك لتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقوقه في تقرير مصيره، هذا الجيل الفلسطيني الجديد الذي كان من المفترض أن ينسى القضية وفقًا للرواية الصهيونيّة، أثبت أنّه صامدٌ على أرضه ويستطيع خوض المعركة بمفرده رغم محاولات تزييف الوعي الذي تعرض لها في العقود الأخيرة. ومنذ زمنٍ بعيدٍ قالت غولدا مائير وقادة صهاينة آخرين بأن الكبار من الفلسطينيين سيموتون والصغار سينسون، وجاءهم جيلٌ فلسطينيٌّ جديدٌ لم ينسَ شيئًا من رواية الآباء والأجداد، وواصل الاشتباك والكفاح والمقاومة والصمود بعزيمةٍ أشدّ وإرادةٍ لا تلين.
ما بين نحن وهم تتعمق الجراح وتتخذ شراسةً غير معهودة، فالمتأمل لتاريخ الصراع يرى أن هذا العدو ازداد من توحّشه وهمجيّته عبر فعله الدموي المتواصل، ثمّة من يفسّر توحش المحتل بصمود الرواية الفلسطينية، عبر أهلها الشجعان الذين واصلوا دفاعهم عن الأرض والتاريخ والمقدسات. إن منسوب توحش الأعداء يذكرنا دائمًا بالتجارب الداخلية للشعوب قاطبةً التي خرجت من أسر محتليها بعد أن تكشف الصراع الدموي على أرضه، فلا غرابة أن يدخل عدوّنا ضمن هذا القانون الإنساني الذي لا يشذ، فزوال الاحتلال وعودة الأهل إلى الديار لم تعد مجرد أحلامٍ متناثرة، بل تحوّلت عبر المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني إلى برنامج عملٍ أثبت فيه الشعب الفلسطيني حضوره الفعال. 
ولو تعمقنا أكثر ونظرنا بعينٍ مفتوحةٍ إلى ما يجري في الخندق المقابل، سنرى حجم التهتكات في بناه السياسية والأيديولوجية، فاللغاتُ الذي ينضح بها خطابهم السياسي حول رؤيتهم لأنفسهم وللآخر والمحيط لا تشي بأن الأعداء ما زالوا ضمن نطاق التفكير الإنساني، ففي كل تفصيل من خطابهم، نرى أنهم غير قادرين على بناء كينونتهم الذاتية دون القفز على جراحنا.
 ومن تلك المعادلة التي رست في العقدين الأخيرين ما زال الفلسطيني يبحث عن أخوة السلاح وعن النصير وعن كل ما يتطلبه الأمر من مواصلة كفاحه، والمشهد هنا ليس ورديًّا على الإطلاق وفيه من الدم ما يكفي لكي يصبغ وجه الإنسانيّة.
75 عامًا والأمل ينتج إرادة وفعل ومقاتلين، والمسيرة ما تزال مستمرةً، صحيحٌ أنّها تبطئ في بعض اللحظات وتتراجع أحيانًا، لكن الرواية الفلسطينيّة حاضرةٌ في وجدان الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية والشعوب المناصرة لهذا الحق، وما تزال فلسطين عنوانًا أساسيًّا من عناوين الاشتباك ما بين خطين لا ثالث بينهما، خط الحق وخط الباطل، مهما حاول الاستبداد العالمي تغيير المعاني والدلالات للمفاهيم والمصطلحات التي اجترحتها الإنسانيّة منذ فجر التاريخ وحتى الآن. ففي فلسطين كسرت معادلة البقاء للأقوى وفق المعايير الغربيّة، فالأقوى هنا من بقي صامدًا، فيما الطرف الآخر يعود إلى التيه بعد أن حرقته أيديولوجيّته المجنونة.
 في الذكرى الـ 75، علينا أن نعيد الاعتبار لكل مجريات المسيرة، وأهمّها الاعتبار للذات الفلسطينيّة التي راكمت عبر تلك السنوات الكثير من نقاط القوّة، التي بدورها ما تزال تشاغلُ فيه هذا العدو، فالنكبةُ لديها وجهان؛ الأول: يطلّ على كل مآسينا، والثاني: وفي مختبره صنعت فيه الهُوية الفلسطينيّة التي لا تفنى.