من وجهة نظري، موقف الفيلسوف الألماني هيجل من إفريقيا والشرق وآسيا وخاصة الصين والهند، هو موقف عنصري فاقع، أعتقد أنه كان أحد أهم مصادر النزعات العنصرية الشوفينية والنازية...
أولا: بالنسبة للقارة الإفريقية يقول عنها هيجل: "إن الشعوب الأفريقية هي شعوب غير تاريخية، وينعت الرجل الأفريقي بالرجل الطبيعي أو أنه يعيش الحالة الطبيعية الدونية بكل وحشيتها، وإذا أردنا نحن الأوروبيون فهم الرجل الأفريقي، يجب تناسي كل طرائق رؤيتنا للأشياء، كما يجب ألا نفكر لا في إله روحي ولا في قانون أخلاقي، يجب تعليق كل احترام وكل أخلاق لما نسميه مشاعر، لأن كل ذلك ينقص الإنسان (الإفريقي) الذي ما زال في مرحلة خام، لا يمكن أن نجد في طبعه ما يمكن أن يذكرنا بالإنسان"، ولعله لذلك لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن "نتقمص طبيعته، بنفس الطريقة التي لا يمكننا بها أن نتقمص طبيعة كلب"، وهكذا ينزع هيجل الإنسانية عن الرجل الإفريقي".
ثم "يُعَرِّجْ هيجل على موضوع العبودية في "الحضارة" الإفريقية ويجعل منه "خاصية" افريقية بامتياز إذ إن "في كل الممالك الإفريقية المعروفة تُشَكِّل العبودية مؤسسة محلية وهي تطغى بشكل طبيعي"، لهذا فهو بعد أن يخبرنا أن الأوروبيين يبيعون الأفارقة كعبيد في القارة الأمريكية يعلق على ذلك قائلا: "مع ذلك فمصيرهم في بلدانهم الأصلية أنكى وأشد بسبب وجود عبودية مطلقة أيضا"!!
وقول هيجل "يُعَبِّر طيا عما يُعَبِّر عنه في مواضع أخرى صراحة، فالأوربيون باستعباد الأفارقة وبيعهم بعيدا عن بلدانهم الأصلية يُسْدون خدمة جليلة لهم وينتشلونهم من عبودية محلية قاسية لا قِبَلَ لهم بمعاناتها، بل إن هيجل يذهب بعيدا في هذا السياق ويقرر أن الاستعباد يؤدي إلى ظهور نوع من الإنسانية بين الأفارقة"!!
هنا نلاحظ " أن هيغل، وبدلاً من تقدير البطولة الخارقة التي كان الأفارقة يبدونها في مواجهة الجيوش الأوروبية الغازية، أو على الأقل فهمها بشكل صحيح، يعرض تفسيراً عنصرياً بحتاً، يقول هيجل: وهكذا فإن السمة التي يتميز بها احتقار الإنسانية عند الزنوج ليست هي ازدراء الموت، بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة. وينبغي أن نعزو الشجاعة العظيمة التي نجدها عندهم إلى سمة افتقارهم لاحترام الحياة هذه، التي تدعمها قوة بدنية كبيرة، وهذه الشجاعة تظهر عند أولئك الزنوج الذين كان الآلاف منهم يتعرضون بمحض إرادتهم للموت برصاص الأوروبيين وهم يقاتلونهم، فالحياة لا قيمة لها إلا عندما تتخذ من شيء ذي قيمة هدفا لها، ما يعني أن فضائل الأفريقيين تتحول -عند هيغل- إلى رذائل؛ فالتضحية والاستهانة بالموت تتحول إلى انعدام تقدير الحياة"!!
ثانياً: أما عن الشرق.. وآسيا، فيخبرنا هيجل، أن آسيا هي فعلا "بدايات كل المبادئ الدينية والسياسية، لكن هذه المبادئ لن تتطور إلا في أوروبا"، وهيجل هنا "يكون بذلك وفياً لنظريته "البدائية" في نشوء وتطور ومسار الروح الكوني، حيث يشبهه بمراحل حياة الإنسان، فلقد كانت طفولته في آسيا، أي في الشرق، وشبابه في عالم اليونان ورجولته في العالم الروماني وشيخوخته في الحضارة الجرمانية".
هذا هو ديدن هيجل ولب فلسفته، فهو يعتبر العالم الجرماني مصب الروح المطلق أو العقل المطلق ومنتهى مساره، من هنا مقولة نهاية التاريخ، وما الروح المطلق مطبقاً داخل الفلسفة السياسية لهيجل إلا الدولة البروسية لا غير، لهذا يكفي الشرق دوره الطفولي، ففي الشرق لا يوجد سوى الفرد الواحد (الحاكم) هو الحر (المستبد)، أما في اليونان فالكثرة هي الحرة أما في البلاد الجرمانية فكل الأفراد أحرار، أي إن الإنسان حر لكونه إنسان".
ففي اليونان يبدأ عالم الحرية بل أساس الحرية عند هيجل، ففيه تَفْكُر الروح ذاتها ويحدس الفرد ذاته باعتباره كونيا، ويكمن الكوني في ذاتية كل فرد، أي أن الفرد يعي ذاته في بعده الكوني، وهذا ما لم يوجد في الشرق، فهو لم يعرف فكرة الحرية أو قل إنه عرف حرية الفرد المطلق أي الحاكم المستبد الطاغية، أما اليونان فقد عرف حرية طبقة اجتماعية معينة، بينما سيكون العالم الجرماني الوحيد القادر على الوصول إلى نوع من الحرية للجميع.
وحسب هذه التراتبية –كما يقول عبد الواحد العلمي- "لن يكون للشرق حظ في الاتصال بالروح الكوني، فإضافة إلى أن الفرد فيه ينمحي باعتباره مجرد انعكاس للماهية، فقد حدد هيجل الخصائص الأساسية لشعوب الشرق كما يلي:
"فالطبع الشرقي، تكون فيه الروح غارقة في الطبيعة وتعتبر الإرادة مجرد تابعة للنهائي. تريد الإرادة أن تكون نهائية مع أنها تدرك ذاتها بعد، وبموجب ذلك لا يوجد إذن إلا فئتين: الأسياد والخدم. هذا هو فلك الاستبداد، وبما أن التعبير عن ذلك يتم بواسطة المشاعر فهذا يعني أن الخوف هو المقولة السائدة.. وما يسيطر في الشرق هو إذن–حسب هيجل- الخوف والاستبداد.."، إذ إن الفكر في الشرق "غيبي تماما وماهوي بلا تقدم ولا تطور وهو على حاله كما كان في السابق منذ آلاف من السنين".
لكن على الرغم من كل ما تقدم، فإن هيجل يسجل مفارقة تناقضية مع طروحاته العنصرية و"يعترف في محاضراته عن فلسفة التاريخ أن العلوم والمعارف، خاصة الفلسفية منها، جاءت إلى الغرب من عند العرب، كما يعترف هيجل بتأثير قوة الدين الإسلامي وقدرته على تطهير الروح البشرية وعلى دوره في نشر عقيدة الواحد الأحد بجعلها شيئا (مطلقا والنهاية الوحيدة للحقيقة)، وهو ينسب ذلك إلى بساطة المبدأ الإسلامي؛ لكنه من جهة أخرى يتراجع عن مفارقته ليعود مجدداً إلى عنصريته ويتحدث عن بلاد العرب، فيسميها إمبراطورية التعصب"، ويتحدث بنفس المنطلقات عن الصين والهند.
ثالثاً: هيجل والصين: يقول هيجل، إن "المبدأ العام في الصين، هو الوحدة المباشرة للروح الجوهري وللروح الفردي، إذ ظل الأبناء يتوارثون عن آبائهم القانون الأخلاقي جيلاً بعد جيل حتى أصبح القانون هو الحكومة الخفية للمجتمع الصيني، ذلك إن الصينيين ليست لهم شخصيات فردية مستقلة لا داخل الأسرة ولا خارجها، ولما كانت الدولة بالنسبة لهم أسرة كبيرة انعدم وجود الشخصية المستقلة عندهم علماً بأن الشخصية تتطلب وجود الوعي الذاتي الذي يعي نفسه أولاً ثم يفرق ويتميز عن الآخر ثانياً، حيث أن العلاقة السائدة هي علاقة أبوية بطرياركية Patriarchal التي جعلت من الأب كل شيء ومن الأبناء لا شيء ثم تجعل العلاقة واجباً أخلاقياً يتمثل في الطاعة (الأب الامبراطور في الأسرة والامبراطور الأب في الدولة) ومنه علينا أن نلاحظ أنه في مثل النظام لا مجال للحديث عن حقوق من أي نوع، إنما الحديث باستمرار عن الواجبات ذو اتجاه واحد لا يُعكس (أي من أسفل إلى أعلى فقط)".
هيغل هنا –كما يقول بحق فؤاد الزرفي- "يغمض عينيه عن حقيقة الوضع المأساوي الذي كانت تعيشه دول أوروبا نفسها في ذلك الوقت، حيث كانت الدكتاتوريات المطلقة تستلب حقوق الأفراد والشعوب بشكل لا نجد له نظيرا في الصين القديمة، التي يعترف هيجل نفسه بمدى سيادة العدالة فيها".
كما إن موقف هيجل من علوم الصينيين يبدو "غير مفهوم ولا مقنع تماما؛ ذلك أن كل العلوم إنما تنشأ عن حاجة عملية. ولذلك ففي الوقت الذي طور الصينيون الورق والبارود والحبر واخترعوا البوصلة فضلا عن إبداعاتهم في الطب وتفننهم الراقي في الصناعات الدقيقة الأخرى، تلبية لحاجاتهم العملية، فإن علوم أوروبا في عهد الإيطالي دافنشي لم تستند إلا إلى تجارب نظرية محدودة لا ترقى إلى العلوم الصينية بأي شكل من الأشكال، لذلك لم تتحول العلوم في أوروبا إلى الشكل المتطور الحديث إلا بعد ارتباطها بالثورة الصناعية البازغة، في إنجلترا أول الأمر، ومن ثم في بقية دول أوروبا الغربية، وأمريكا تاليا، وهكذا فقد طور الصينيون قبل الأوروبيين أساليب علمية راقية ونجحوا في إنشاء صناعات لم يكن للأوروبيين أي حظ منها حتى القرن السابع عشر. أما مقارنة موضوع كيف تطورت العلوم في أوروبا بعد ذلك وكيف أصابها الركود في الصين، فذلك شيء آخر مختلف تماما".
رابعاً: عن الهند يقول هيجل: "امتازت الهند بانتقال الروح من الخارج إلى الداخل (أي من الموضوع إلى الذات) لكنا لن نجد هنا الذات الفردية الحقيقية، وإنما فكرة عامة عن الذاتية، فكرة هلامية عن الوجود كله بوصفه ذاتياً، فهنا اتحاد للذاتية والوجود أو المثالية الوجود الفعلي، وهي مثالية الخيال، ومن هنا كانت النظرة الهندية–حسب هيجل- هي نظرة وحدة الوجود العام لكنها وحدة لقوة الخيال لا للفكر، فهناك جوهر واحد يتغلغل في جميع الأشياء".
ويضيف هيجل قائلاً: "أننا في الهند نسير في خطوة إلى الأمام من الوحدة إلى الاختلاف، أو من الدمج إلى الانفصال، وهذا التميز أو الاختلاف يرتد إلى طبيعة وليس إلى الروح، حيث تتميز بتنوع طبقي وطائفي مغلقة، فالمساواة أمام القانون والحقوق الشخصية والملكية مكفولة لكل طبقة؛ أما الأخلاق والعدالة والتدين والمحبة والعواطف فلا وجود لها بين طائفة وأخرى؛ وتزداد العقوبات مع ازدياد دونية الطائفة؛ ولكل طائفة حقوقها وواجباتها الخاصة بها، ولا توجد حقوق وواجبات عامة للجميع.
بناءً على ذلك، "يرى هيجل أنه: (لا وجود للدولة في الهند) فهنا شعب فحسب، وإذا كان الاستبداد في الصين أخلاقياً فهنا استبداد بلا مبدأ ولا قاعدة من أخلاق دين، ذلك إن تاريخ الهند يكشف عن أن شعب الهند لم يقم بأي (فتوحات خارجية، لكنه هو نفسه كان ميدانا للغزو الخارجي باستمرار)، من هنا يصل هيجل سريعا إلى استنتاج مفاده أن "القدر المحتوم للإمبراطوريات الآسيوية أن تخضع للأوروبيين.
نستنتج مما تقدم، أن هيجل هذا الفيلسوف العقلاني العظيم، "لا يريد أن يعترف بأن ما تحقق في أوروبا ما هو إلا ثمرة التراكم الحضاري بين الشعوب المختلفة، فعلوم اليونان والرومان ما هي في الأصل إلا ثمرة التقدم الذي تحقق في الحضارات البابلية والمصرية والفينيقية والإسلامية العربية، كما استفادوا كثيرا من علوم الهند والصين وكذا فلسفة اليونان. أما العلوم الأوروبية الحديثة وفلسفاتها فما هي إلا إعادة إنتاج حضاري للإرث الضخم الذي أنتجته جميع الحضارات السابقة".
من كل ما تقدم حول موقف هيجل اتجاه الشرق، يبدو واضحاً انحياز هيجل للأمم الأوروبية، انحيازاً لا يبرره العقل أو المنطق الذي تميز به، فقد زعم هيجل أن الأمم التي "جسدت" في "روحها القومية" الغنى الفلسفي "للروح المطلق" هي فقط شعوب أوروبا الغربية: الاغريق، والرومان، والجرمانيون خاصة، و"أن الفلسفة، بالمعنى الدقيق، تبدأ فقط في الغرب ففي الغرب، وحده، أشرقت.. حرية وعي الذات، ويصف هيجل فلسفة الشعوب الشرقية بأنها المرحلة الدنيا من الفلسفة ("الفكر في مرحلة التأمل")، وينكر عليها أي دور حقيقي في تطوير الفكر الفلسفي العالمي".
فقد بين هيجل في كتاب "فلسفة الحق" أن الشخص (الشرقي) المذكور يجب أن يمتلك فرديته بفضل وجوده الطبيعي لا الاجتماعي، ويكون ما يكونه بالطبيعة وحدها، وليس بفعل الأجهزة الاجتماعية، وقد عثر على مثل هذا الشخص في الملك، الذي هو إنسان يختار لهذا المركز بحكم مولده الطبيعي فحسب، إذ بذلك وحده يرتفع فوق كل ما هو جزئي، ذلك أن "الأنا"، لدى كل شخص آخر، يفسد بفعل النظام الاجتماعي الذي يشكله، أما الملك فهو وحده الذي لا يتأثر على هذا النحو، ومن ثم فهو قادر على أن يتخذ من "أناه" الخالص مصدراً لكل أفعاله، ويقررها تبعاً له، إنه يستطيع أن يلغي كل جزئية في اليقين البسيط لذاته.
وعلى هذا النحو يفصح الكلي عن نفسه عند هيجل، فهو يبدو الآن أنه لا يتشكل في التاريخ، وإنما هو ناجز بطبيعته، ولذلك تراه يظهر في طبائع الملوك، أو في فطرتهم التي فطروا عليها، والأخطر من ذلك أنه ليس نتيجة لفعل قانون التناقض في الكون، الذي ادعى هيجل في كل فلسفته أنه هو الذي يصنع التاريخ والناس والأفكار.
ولذلك –كما يقول د. حامد خليل- "لم يجانب "ماركيوزه" الصواب حين بين في كتابه "العقل والثورة" أن جريمة هيجل ليست في كونه كان دليلاً للملكية البروسية، بقدر ما هي في كونه قد خان أرفع أفكاره الفلسفية، فنظريته، التي أشرنا إليها قبل قليل، تُسَلِّم الناس للطبيعة (طبيعة الملوك)، والحرية للضرورة (ضرورة الدولة الممثلة في شخص الملك)، والعقل للنزوة والهوى (نزوات الملوك وأهوائهم)".
لكن، على الرغم من اتفاقي مع استنتاج الفيلسوف ماركيوزه من ناحية، وعلى الرغم من طروحات هيجل العنصرية التي زرعت بذرة التعصب الشوفيني والنازي فيما بعد، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاوز دور الفيلسوف العقلاني هيجل، باعتباره أحد أهم المؤسسين للحداثة والنهوض العقلاني في كوكبنا، انطلاقاً من تركيزه على دور العقل كمنطلق أساسي للوعي والمعرفة، وأثر ذلك على الفكر الإنساني الحديث برمته.
