نشر في العدد 50 من مجلة الهدف الإلكترونية
أنهيتُ كتابة هذا المقال قبل العدوان على غزة، في الواقع النتائج التي تمخّض عنها العدوان، من وجهة نظري، لم تغيّر كثيرًا في استنتاجاتي الشخصيّة.
تضمّنت ورقة موقف صادرة عن معهد القدس للاستراتيجية والأمن (JISS) تحذيرًا قويًّا للسياسيين الإسرائيليين على جانبي المتراس "إسرائيل بحاجةٍ إلى الاستعداد لاحتمال الحرب"، و"الصراع الدائر حول الإصلاح القضائي قد يلحق أضرارًا جسيمةً بدولة إسرائيل". تسترشد الورقة بالمثل اللاتيني "إذا كنت تريد السلام، فاستعدّ للحرب"؛ باعتباره أكثر تعبيرًا عن الوضع هناك. في هذه المقالة سوف نحاول قراءة المشهد الإسرائيلي المنقسم، في ضوء ما جاءت به ورقة الموقف من تنبيهاتٍ وإشاراتٍ وتوصيات.
تنطلقُ الورقة من فرضيّة أنّ البيئة الاستراتيجيّة لدولة إسرائيل تغيّرت كثيرًا في العقد الماضي، وباتت أكثر تعقيدًا وخطورةً من الناحية الأمنيّة؛ حيث يكتسب أعداء إسرائيل مزيدًا من الثقة، بينما يراهنون على أنّ الصراع الداخلي سرعان ما سوف يفضي إلى تدمير الذات. وتستنتج الورقة، أن إمكانية الانزلاق نحو صراعٍ شاملٍ باتت أكثر احتمالًا من ذي قبل.
يخلو التحليل، بالطبع، من مبالغة وتهويل، ومن قدرٍ كبيرٍ من الشحن الأيديولوجي. فليس مؤكّدًا أن يفضي هذا الصراع إلى تدمير إسرائيل؛ وربما يحدث العكس؛ حيث يمكن أن يسهم الخلاف في إعادة هيكلتها وتقويتها. كما أنّ قوّة محور المقاومة مجتمعًا لم تصل بعد إلى الحدّ الذي تشكّل فيه خطرًا وجوديًّا على إسرائيل (وربما كانت تبالغ في تصوير قدرة هذا المحور باعتباره خطرًا ماثلًا من باب شيطنة الخصم والاستقواء عليه قبل أن يصل إلى المدى الذي يشكّل فيه تهديدًا حقيقيًّا عليها). تختم ورقة الموقف بمجموعة توصياتٍ من قبيل تبني نموذجٍ جديدٍ يعطي الأولوية لاحتياجات إسرائيل الأمنية، وإبعاد جيشها وعناصر الأمن الأخرى عن حلبة الصراعات السياسية والحزبية، وتزويده بكل الموارد اللازمة استعدادًا للحرب. الآن، دعونا نفحص، في ضوء ما يسمّى بالأزمة/الانقسام، مجموعة من القضايا: حقيقة ما يجري داخل المجتمع والنظام السياسي في إسرائيل، احتمالات نشوب حربٍ شاملة، مستقبل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ومساراته.
في الانقسام الإسرائيلي:
أثارت خطّة الإصلاح القضائي انقسامًا كبيرًا داخل "إسرائيل". تمنح الخطة المقترحة السلطة التنفيذية صلاحيات تعيين قضاة المحكمة العليا؛ ما يهدّد استقلالية القضاء، ويؤدي إلى تقويض الديموقراطيّة وسيادة القانون من وجهة نظر المعارضة، بينما يرى مؤيّدو الخطّة أنّ النظام القضائي الحالي مسيّس جدًّا، وأنّ الخطّة سوف تزيد من إمكانية مساءلة النظام وشفافيته.
يضع الانقسام إسرائيل أمام أزمةٍ تاريخيّةٍ لم تشهد مثلها حتى أثناء الحروب، تمثّلت في التظاهرات الحاشدة والمستمرّة منذ أسابيع، التي قد تشكّل بداية انهيار "إسرائيل" وتفكيكها. حذّر باراك رئيس الوزراء الأسبق من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الثمانين لتأسيسها، بينما يرى يائير لبيد، زعيم المعارضة، أن الخطّة بشكلها الحالي بمثابة نهاية الديمقراطيّة وبداية عهد ديكتاتوري. هناك من يتوقع أن تصل الأزمة إلى التهديد بالإضراب والعصيان الشامل، وربما الحرب الأهلية. بالمقابل، يرى البعض أن الاحتجاجات في نظامٍ ديموقراطيٍّ يعزز الدولة ولا يضعفها، بينما في الديكتاتوريات قد تصل حد إسقاط الدولة! وعليه، ستظل إسرائيل في نظر هؤلاء "جزيرة استقرار"، ولن تفقد "صورتها الإيجابية" على حد زعمهم.
يبدو أن الخلاف على الإصلاح كان مجرد شرارة فجرت برميل بارود من كراهية الذات والحقن الشعبوي، وأطلقت مارد سياسات الهوية، طائفية ودينية وقومية وحزبية، وجاء خروج الآلاف إلى الشوارع والميادين تعبيرًا عن انعدام الثقة، والإحباط، عن الصراع بين الصهيونية العلمانية مع توجهات "اشتراكية"، والصهيونية الدينية مع توجهات نيوليبراليّة (رأسمالية الخنازير).
للأزمة أسبابٌ وعواملُ يمكن وضعها في ثلاث مجموعات: أسبابٌ وعواملُ عقلانيّة، مرتبطةٌ بكياناتٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وطائفيّةٍ تحركها اهتمامات واعتبارات ومصالح متباينة (الائتلاف والمعارضة). المجموعة الثانية تضم العوامل الثقافية، تباين القيم والأيديولوجيات والخطاب، وتصورات "الأنا والآخر" (القيم الغربية، استبعاد وتهميش الشرقيين، الليبرالية الجديدة، تداعيات "فكّ الارتباط" ثقافيًّا). أما المجموعة الأخيرة، فتضمّ عواملُ هيكليّةٌ تشمل طبيعة السلطة والدولة والمجتمع والعلاقة بينها (الجمود السياسي، انهيار النظام القديم، نتائج حرب 1967 باعتبارها عاملًا مؤثّرًا في الواقع السياسي، ضغوطات الأمن/الموقف من الأراضي الفلسطينية المحتلة بين الفصل والضم والحسم، الترتيبات المصاحبة للنشأة/غياب الدستور/عدم الفصل بين الدين والدولة/تداخل الأمني مع المدني).
للانقسام تأثيراتٌ وتداعياتٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ واجتماعيةٌ عميقةٌ على الوضع الداخلي سلبية، غالبًا: تآكل التصنيف الائتماني، تدهور قطاع الهايتك، هيمنة خطاب عام فظ (متطرف) ومغترب، تصدع التماسك المجتمعي والوطني، انقطاع الاتصال وعدم الرغبة في التسوية أو الحوار بين الأطراف، تضعضع ثقة الجمهور في القضاء، تأجيج تشققات الهُويّة، ترسيخ الاستقطاب السياسي وصعوبة الوصول إلى توافقٍ أو إجماعٍ حول أي من القضايا العامة، تزايد أعداد الإسرائيليين الذين بدت تظهر عليهم علامات القلق الدالة على اليأس، ويتقدّم الكثير منهم بطلباتٍ للحصول على الجنسيّة الأجنبيّة (تزايد الشعور بالتهديد)، أكثر من نصف الإسرائيليين يعتقدون أنّ الديمقراطية الإسرائيليّة في خطرٍ شديدٍ (وخاصة في صفوف اليسار)، تضرّر القدرة على تشكيل حكوماتٍ مستقرّةٍ ومستدامة، تعمق الشرخ بقوة بين اليهود المتطرفين وبين اليسار والعلمانيين، تعزيز قوة الائتلاف والتقليل من القيود المفروضة عليه، انتهاك التوازنات الدقيقة والقيود الديمقراطية على الأغلبية، ثمة ضررٌ يقع على فلسطيني 48، اقتصاديًّا (تفاقم الفقر والبطالة) وسياسيًّا (زيادة التمييز العنصري ضدّهم). بالمقابل هناك من يرى أن المجتمع الإسرائيلي ونظامه السياسي قد يصبحان أكثر استنارةً وانخراطًا في العمليّة الديمقراطيّة من خلال النقاش العام حول مزايا الإصلاحات المقترحة وعيوبها، وقد يفتح النقاش حولها فرصةً لإرساء إجماعٍ واسعٍ على الأساس الدستوري لإسرائيل.
التأثير على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي:
إسرائيل هي الطرف الرئيس الثاني في هذا الصراع الدائر منذ قرن، ولذا فكل ما يحدث فيها ولها من شأنه أن يؤثر في مجرياته. من بين موضوعات الخلاف (ليس كبيرًا) بين الائتلاف والمعارضة بخصوص الموضوع الفلسطيني تحتلُّ التصوّرات المختلفة لوضع الضفّة الغربيّة ومستقبلها مكانةً بارزةً من منظورٍ دينيٍّ وقوميٍّ وأمنيّ. على الرغم من صعوبة التنبؤ بكيفية تأثير الانقسام الإسرائيلي على مجريات الصراع بصورةٍ دقيقة، إلا أنّنا يمكن أن نرصد بعض المسارات للتأثير المحتمل وكيفياته: قد يفضي الانقسام إلى ضعف حكومة اليمين وتصبح غير مستقرة، ومن ثَمَّ غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة، مما قد يؤدي إلى مزيد من التدهور، بينما نجاح حكومة اليمين في تمرير خطتها الإصلاحية، سوف يقويها ويدفعها إلى تنفيذ رؤيتها الاستيطانية التوراتية في الضفة الغربية وتكريس فصل قطاع غزة، ومفاقمة التمييز العنصري ضد سكان إسرائيل العرب. المؤكّد أن إسرائيل بالانقسام أو دونه لن تكون جاهزةً للتفاوض والتسوية السياسيّة. إحدى النظريات ترى أن تصدير الأزمة الداخلية من المرجّح أن يتم من خلال عمليةٍ عسكريةٍ في شمال الضفة أو حملةٍ جديدةٍ على غزة (وهو ما حدث فعلًا في "الدرع والسهم").
قد يبدو للبعض أن الاحتجاجات والخلافات حول الإصلاح القانوني لن تغيّر كثيرًا في مجرى صراعٍ ممتدٍّ له أسبابٌ جذريةٌ عميقة (أي تأثير محتمل للانقسام السياسي في إسرائيل على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يكون العامل الوحيد أو الحاسم في هذا الصراع المعقد)، وهذا صحيحٌ إلى حد ما، لكن كما أسلفنا فإن أي حدث داخل إسرائيل، سلبي أم إيجابي، سوف يؤثر بالضرورة. فقدان القدرة على بناء التوافق والإجماع سوف يشتمل على تنامي الخلاف السياسي بين الائتلاف والمعارضة حول الملف الفلسطيني ما من شأنه أن يزيد الصراع احتقانًا، كما قد يشجّع الجانب الفلسطيني على تصعيد المقاومة، وشنّ المزيد من العمليّات. بالطبع بمقدور الفلسطينيين أن يستغلّوا هذا الانقسام لتعميقه وتشجيع مزيدٍ من التشقّق والاستقطاب بالصمت والمراقبة وتفنيد مزاعم دولة الاحتلال بخصوص فرادتها الديموقراطيّة.
الحرب الشاملة:
منذ اندلاع الاحتجاجات الصاخبة وحكومة اليمين تتخبّط بين شدة الحيرة وقلّة الحيلة؛ في معالجةٍ واحدةٍ من أخطر القضايا التي تواجه الإسرائيليين بعد 75 عامًا على قيام كيانهم المزعوم. ومن دلائل التخبّط ما يطرح من احتمالية نشوب حربٍ شاملة، أو متعدّدة الساحات، بمبادرةٍ من محور المقاومة أو باندفاعة غير محسوبةٍ من حكومة اليمين المتطرف. الفكرة هنا بسيطةٌ فضعف الدولة وهشاشة المجتمع والنظام إما أن تغري محور المقاومة بالانقضاض (الحرب)، وإما أن تدفع حكومة اليمين الفاشي للقيام بمغامرة تجنّبها، ولو إلى حين المواجهة الداخلية. ولكن المعطيات تقول: إن الأمر لدى الطرفين لم يصل إلى هذا الحد، فالحرب الشاملة لا تغري ولا تشجع أحدًا على البدء بها والشروع فيها، بعد أن هزمت العروش (1948) وكسرت شوكة الجيوش (1967)، بدا أن البديل يتمثل في التشكيلات والجماعات الصغيرة، مع الوقت تبين أن هذه الكيانات، دون الجيوش المستندة إلى قوة الشعوب حقًّا، لا يمكن أن تشن حربًا حقيقيّةً ضد إسرائيل. إسرائيل تفضل مواجهاتٍ من نوع الحملات بين الحروب على أن تضطر لمواجهة جيوشٍ قويّةٍ ومتّحدة. الانقسام الإسرائيلي لا يقول بانتهاء الحملة بين الحروب والذهاب إلى حربٍ شاملة، فمثلما هو "نتنياهو وحكومته غير مستعدين لمواجهةٍ عسكريّة" كما يقول ليبرمان، فالعربُ أيضًا اليوم، في ظلّ المعطيات، يخشون مثل هذه المواجهة. ومع ذلك، فمن الصحيح القول: إن الانقسام السياسي وعدم الاستقرار يمكن أن يضعف قدرة البلدان على الاستجابة بفعالية للتهديدات الأمنية، يصرف الانتباه عن أولويات الأمن القومي الأخرى، ويعيق قدرة الحكومة على تنسيق استجابةٍ متماسكةٍ للتهديدات. إن خوض الحروب الشاملة تعتمد بالإضافة إلى القوة العسكرية على قوة الاقتصاد ومرونته، ومدى فعالية أجهزتها المخابراتية وكفاءتها، وأيضًا درجة التماسك المجتمعي والوحدة الوطنية، وقدرتها على تخصيص الموارد اللازمة، ومن البديهي أن الانقسام السياسي يمكن أن يضعف كل ذلك، فلا يتشجع أحد، والحال كذلك، على خوض حربٍ شاملة.
ربّما تملك إسرائيل فائضًا من الأيديولوجيا، قوميّة ودينيّة واستيطانيّة، لكنّها تتبنى طوال الوقت استراتيجيات تشتغلُّ في ظلّ حالةٍ مستديمة من انعدام الأمن. ويبدو أن هذا ما يشكّل ركائز القدرة الإسرائيليّة على البقاء في إقليمٍ معادٍ، ووسط شعوبٍ كارهة، عبر التحريض الدائم والتعبئة والاستنفار طوال الوقت. من بين أبرز هذه الاستراتيجيات اثنتان: الأولى بناء عوامل القوة ومراكمتها وخوض حروب استباقية "على أرض العدو"، الثانية ترويج رواية المظلومية التاريخية وتكريس صورة الضحية أمام "عدو متوحش"، وفي الوقت ذاته تشجيع كل أنواع التشقق والفرقة في صفوف الخصوم. ربما يؤثر الانقسام الإسرائيلي على التقييم الاستراتيجي لقدرات إسرائيل من طرف محور المقاومة في المنطقة، لكنه لن يصل إلى الحد الذي يشجع على شنّ حربٍ شاملةٍ عليها. فالحربُ الشاملةُ ضد إسرائيل، في هذه المرحلة، لا يمكن أن تقع دون مشاركة إيران مباشرة، وبكل قوتها وليس عبر حلفائها، وإيران لأسبابٍ عديدة، ليس لديها فعليًّا سوى بضع خياراتٍ لا ترقى لمستوى تهديد إسرائيل بشنّ حربٍ شاملة. غاية ما يمكن أن تذهب إليه هو محاولة استغلال الخلافات والاحتجاجات فيها لتعزيز المواقف المناهضة لإسرائيل إقليميًّا ودوليًّا. بالمقابل، فذات الخلافات ستمنع حكومة نتنياهو من التوصل إلى توافق بشأن هجومٍ محتملٍ على منشآتٍ نوويةٍ في إيران.
أكّدت معركة "ثأر الأحرار" أنّ إسرائيل وحكومتها اليمينية غارقةٌ حتى النخاع في أتون أزمةٍ داخليّةٍ عميقة، لكنها ليست على شفا حربٍ أهلية، وسوف يعزّز "التهديد" الذي شعر به المستوطنون أثناء المعركة شعورهم بالتوحّد. هذا وكشف العدوان الهمجي على شعبنا أن شعار "وحدة الساحات" ما زال يفتقر إلى مضمونٍ عمليٍّ حقيقيّ؛ فقد تركت غزة وحيدةً أمام جبروت الآلة الصهيونيّة، واكتفى الباقون بالشجب والندب أو الدعم الخجول والمستتر.
ولذلك، من المبكّر جدًّا القول: إنّ إسرائيل ربّما تذهب إلى حربٍ شاملةٍ بسبب الانقسام، كما أنّها لن تشهد حربًا أهليّةً حقيقيّة، وهي ما زالت قادرةً على إدارة أزماتها وصراعاتها الداخليّة بأقل الخسائر بالرغم من الضربات الموجعة التي تلقتها في الآونة الأخيرة وأثخنتها لكنّها لم تأتِ في مقتلٍ بعد!