في روايته رجال في الشمس لم يقتل غسان كنفاني أبطاله عبثاً، حتى أن سؤاله/جملته "لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟" أصبحت تُشكل مبدأ للمقاومة، حيث في باطن هذه الجملة تكمن نظرية ثورية يقصدها كنفاني كفعل مقاوم منذ أن قامت حركة القوميين العرب بالتسلل إلى الأرض المحتلة عبر مجموعة من المقاومين لتنفيذ عملية ضد الاحتلال بتاريخ 2 نوفمبر 1964، واستشهد أثناء هذه العملية الشهيد "خالد أبو عيشه" الذي كان منضم إلى مجموعات "شباب الثأر".
كانت رسالة كنفاني واضحة عندما قتل " أبو قيس، وأسعد، ومروان" داخل الخزان، وتحديداً خنقاً بداخله، لأن غسان يعي تماماً حقيقة أين يكمن الموت الحقيقي، حيث هو القائل: "احذروا الموت الطبيعي ولا تموتوا إلا بين زخّات الرصاص"، وأكثر هو القائل: "لا تمت قبل أن تكون نداً".
إن الموت الذي يقصده "غسان" يختلف عن الموت الذي يبحث فيه المقاوم عن الحرية، وهنا يصبح موت عن موت يفرق، حيث الموت الأخير يحمل في جعبته "الأمل"، لأن الأمل هو جوهر الصراع، وبهذا الأمل يمكن اختراق الجدار الحديدي الذي من خلاله حاول "جابوتنسكي" مؤسس اليمين الصهيوني ومؤسس الدولة الصهيونية زرع الخضوع، والاستسلام، وفقدان الأمل بالمقاومة، ولكن يأتي الشهيد محطماً هذا الجدار، ومعلناً أن الزحف داخل الصحراء ممكن لا مستحيل.
إن استشهاد "محمد صلاح" يؤكد ما قاله سعيد لمريام عندما سألته "هل جئت لتسترد البيت؟ ولكن سعيد وجد نفسه بقلم "غسان كنفاني" يقول: "إن استرداد خلدون، أو حيفا، أو البيت هذا يحتاج إلى حرب"، وعملية الشهيد "محمد صلاح" تؤكد أن الخلاص من الاحتلال يحتاج إلى حرب، وأكثر إلى "سعد ابن أم سعد"، هذا الشاب الذي سخر من سكان المخيم وهم يقومون بتنظيف الوحل من أمام الخيمة، لأن بنظر "سعد" الوحل هو الاحتلال وعلينا تنظيفه.
مراراً وتكراراً يؤكد لنا الشهداء ما كان يصبو إليه "غسان كنفاني"، حيث عندما أدرك "سعيد" ما جرى قال لصفيه: "أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. أثناء غيابنا!"، كان هنا يقصد أن "خالد" شقيق "خلدون" قد حمل بندقيته وذهب ليحارب، وهذا ما فعله "محمد صلاح"، في ظل غياب الأنظمة العربية التي وقعت اتفاقيات التطبيع والاستسلام، ولكن "محمد صلاح" قرر الغياب الحتمي بالبندقية.
من زاوية مختلفة يمكن القول: أن العملية التي قام بها الشهيد "محمد صلاح" جاءت في توقيت حساس جداً، وخصوصاً فيما يخص "وحدة الساحات"، حيث ساحة جديدة لم تكن على الأقل في الوقت الراهن ضمن التقديرات العسكرية والسياسية الصهيونية، حيث يعيش الاحتلال حالة من الاستنفار في الجنوب اللبناني، وأكثر حالة من الرعب بعد اختراق مقاوم الحدود الشمالية ومحاولته تنفيذ عملية لم يكشف بعد عن تفاصيلها الدقيقة في منطقة مجدو، يضاف إلى ذلك التقارير التي تتناول المناورات العسكرية التي يقوم بها "حزب الله"، بالإضافة إلى اشتباكات عنيفة في الضفة، وإلى جانب ذلك جبهة ساخنة مع قطاع غزة وتحديداً بعد حرب " ثأر الأحرار".
تناولت صحيفة "يديعوت احرنوت" تقرير بعنوان "نتنياهو يتدرب في الكابينيت على حرب متعددة الساحات"¹، ويقول هذا التقارير : أن الجيش الإسرائيلي يتمرن على حرب متعددة الساحات تحت عنوان "الضربة الساحقة"، وتشمل هذه الضربة إيران، وغيرها من الجبهات، وركز التقرير على الجبهة الشمالية"، وهنا يمكن طرح السؤال التالي: "هل سيعيد الاحتلال حساباته بخصوص الجبهة المصرية، وخصوصاً أنه ليس المرة الأولى التي يقوم فيها جندي مصري بتنفيذ عملية على الحدود، حيث قام الجندي المصري "سليمان خاطر" بقتل سبعة من السياح الإسرائيليين بتاريخ 2 اكتوبر 1985؟
تناول الإعلام العبري العملية بشكل مفصل، واستعرض المحلل العسكري "الإسرائيلي" روعي شارون" اخفاقات الجيش الإسرائيلي على الحدود²، حيث قال: "أن هناك سلسلة طويلة من الاخفاقات التي يعاني منها الجيش على الحدود وخصوصاً المصرية، وأبرز تلك الاخفاقات هي أن الجندي الصهيوني يقوم بالحراسة لمدة 12 ساعة متواصلة، بالإضافة إلى وجود مرابط بلاستيكية على الحدود"، ومثل هذه الإخفاقات تؤكد أن الاحتلال لن يستطيع القتال على جبهات متعددة، ويمكن القول هنا: أنه حتى لو استطاع القتال لن يصمد طويلاً أمام ضربات المقاومة من ساحات متعددة.
جاءت عملية الشهيد "محمد صلاح" لتؤكد من جديد مبدأ "عروبة" القضية الفلسطينية، وأن الاحتلال ليس للشعب الفلسطيني وحده، لأن الاحتلال يقوم بإخضاع، وربما - إن جاز التعبير - احتلال دول المنطقة بما يعرف باتفاقيات التطبيع، وعلى رأس تلك الدول "مصر"، حيث الأخيرة وقعت اتفاقية سلام إبان حكم الرئيس "السادات"، هذه الاتفاقية التي تعرف باسم "كامب ديفيد"، والتي وقعت بتاريخ 17 سبتمبر 1978.
حاولت وما زالت الأحزاب والحركات الفلسطينية ترسيخ مبدأ "عروبة القضية الفلسطينية" في العقل العربي، وعلى رأس تلك الأحزاب والحركات "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، بالإضافة إلى مبدأ الرهان دوماً على الشعوب، يضاف إلى ذلك أن قضية فلسطين تهم كل إنسان حر في العالم.
أخيراً وليس أخراً إن الإجابة على سؤال تم طرحه بعد تنفيذ "صلاح" العملية، وهو "ماذا كان يفكر محمد صلاح قبل تنفيذ العملية؟" وأعتقد هنا أن العملية هي الإجابة على السؤال، وأكثر إنه كان إجابة على سؤال غسان كنفاني: "لماذا.. لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟".
***
¹. الهدهد، 2022.“نتنياهو” يتدرب في الكابينيت على حرب متعددة الساحات https://hodhodpal.com/post/91842/.
². شهاب، 2022، المحلل العسكري "الإسرائيلي" روعي شارون يستعرض إخفاقات جيش الاحتلال في عملية الحدود المصرية. https://shehabnews.com/video/32226/.