في ذكرى رحيل الحكيم تستحضرني مقولة عرّف بها نفسه (أنا ماركسي، يساري الثقافة، والتراث الإسلامي جزءٌ أصيل في بنيتي الفكرية والنفسية. أنا معني بالإسلام بقدر اعتناء أي حركة سياسية إسلامية. كما أن القومية العربية مكوّن أصيل من مكوناتي... إنني في حالة انسجام مع قوميتي ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية).
ومنذ البدايات ربط المصير الفلسطيني بالمصير العربي، النضال الوطني بالنضال القومي. فقضيّة فلسطين هي قضيّةٌ عربيّةٌ وجوهر الصراع العربي، ولا حل للقضية الفلسطينية إلا في إطار حل عربي، ولا انتصار للقضية إلا بانتصار عربي. وكان خلافه أو تقاطعه مع الأحزاب القوميّة والشيوعية ينطلق من هذه الزاوية.
في رسالته " للداخل"، في أواسط الثمانينات، استعار رموزًا عربيّة "علينا أن نكون أصحاب رسالة كمحمد وعيسى وأن نتحلى بشجاعة خالد وعدالة عمر"، أما بعد انهيار النظام السوفييتي في أواخر الثمانينات وتفكك سبيكة الدولة، فقد كتب "إن تأثري بالانهيار أقل من سواي، فأنا أعرف أن الرأسمالية ليست خالدة، وأن البشرية تحلم وتسعى للعدالة ".
وفي المرحلة العولمية، حيث تفاقم التقاطب الطبقي واستشرى احتكار الأقلية، فيما ازدادت الأغلبية فقرًا وقهرًا، فلا حل للتناقض في الرأسمالية بين تطوّر قوى الإنتاج وجمود علاقات الإنتاج، إلا بتجاوز التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية، فالتاريخ لا يتوقف ولا نهاية له.
وعليه، فالركن القومي والركن الأيديولوجي ركنان أصيلان وأداتا تحليل في البنية الفكرية – السياسية للحكيم، وهو يسترشد بهما ولا ينفصل عنهما أبدًا. وكثّف ذلك بمقولةٍ شهيرة "لا ينبغي أن ينتهك التكتيك الاستراتيجية، ولا أن تنتهك السياسة الأيديولوجيا".
قد يبدو سؤال القومية وسؤال الماركسية مركّبًا ومتناقضًا، ولكن من يتتبع الحكيم وممارسته السياسية يكتشف حلًّا وعلاجًا.
بداهة، إن سؤال القومية والماركسية كبير وغامض، والغوص في إرث الحكيم وبراكسيس الحكيم، مسألة متشعبة أيضًا. فالحكيم أورثنا مسيرةً لم تحظَ بالتّعمُّل البحثي بعد، رغم ما كتبه عشرات المثقفين العرب عنه. فشرط التّعمّل البحثي أن يتم تصنيف إرثه ونشره؛ المكوّن من آلاف الصفحات " لقد جمعت 95 % منه " حسب تعبيره. ومثل هذا الملف الضخم لمفكر ومنظّر وقائد سياسي في آن، لا ينبغي حجزه في الرفوف أو السماح بتقادم الزمن عليه، فهو يتخطى في أهميته حدود الفصائلية الفلسطينية إلى مراكز البحث والطلبة الدارسين وحركة الثورة العربية عمومًا؛ والذي يعرف عن صلات الحكيم العالمية يعرف أن أهميته لا تنحصر في المنطقة العربية أيضًا.
وفي عجالةٍ يفرضها منطق السؤال ومساحة المكان، أسوق جوابًا، لعلّه يغطي ما يكفي من جزالة السؤال والتباسه، بما يتطلبه ذلك من تفكيك وإعادة تركيب، منوّهًا إلى أن فضاءات واسعة من رؤية الحكيم إنما ارتبطت وتوالدت عن الممارسة السياسية؛ الأمر الذي يمنحها خصوصية وقوة بما يحرّرها من "الكلامالوجيا" و "الأكاديميا" دون أكاديميا، علمًا أن الحكيم قد دأب على امتداد ستة عقودٍ على اللقاء والحوار مع أبرز المفكرين والمثقفين العرب بما يتمتع به من خاصية الاستماع، فهو "يتقن الاستماع إليك، وكأنه يريد أن يعرف منك أكثر مما تريد أن تعرف منه، إنه تواضع الكبار الذين ينصتون إلى إيقاع الزمن المتغيّر "م . درويش، وهو الذي انتقل من أستاذ جامعي بعد أن كان معدله طالبًا 96 % إلى طبيب وثوري محترف، فجمع الثقافي والسياسي مبكرًا؛ الأمر الذي حدا به لتكليف مثقف هو الدكتور أحمد طوالبة لإدارة مجلة "الرأي" التي صدرت عام 1952، وأيضًا لم يكن مفاجئًا أن "يتعرّف إلى كنفاني وبلال الحسن وفضل وعصام النقيب وأحمد خليفة" منذ تلكم الفترة … مثلما لم يكن مفاجئًا أن يتناغم مع الدكتور وديع حداد بمزاياه الاستثنائيّة والنقابي – المثقّف أحمد اليماني بإحساسه الطبقي الممزوج بالقاع الشعبي.
كانت النكبة – التطهير العرقي عام 1948، باعتبارها تراجيديا تاريخية لم تنفك فصولها مستمرة لهذا اليوم، بمثابة المنعطف الذي قرر شخصية الحكيم وهو الذي أفنى عمره لدحر هذه النكبة ودحر أثارها. ومنذئذ استخلص أن "التخلف العربي والتجربة العربية هما السبب …" ومن ثَمَّ " سقطت النظم التقليدية والإقطاعيّة "دون أن يسقط حلمه الذي تشبث به ولم يتزحزح عنه " تحرير فلسطين، كل شبر "كموقف وطني وقومي ثابت رافضٍ قرار التقسيم عام 1947 الذي يمنح الييشوف اليهودي 56 % بينما لم يكن لليهود سوى 5،6 % من الأرض، ومقاومٍ "ما تمخض عن نكبة 1948… وهو في الوقت الذي امتدح الدور الوطني للحاج أمين الحسيني راح يمهد لبناء حركة سياسية – ثقافية – اجتماعية جديدة.
محطات قومية في فكر الحكيم وممارسته
كانت البداية تأسيس حركة القوميين العرب التي بدأت إرهاصاتها في مطلع خمسينات القرن الماضي، واكتسبت هذا الاسم رسميًّا عام 1956 كما يشير في كتاب "الثوريون لا يموتون أبدًا" وقد امتدت إلى معظم الأقطار العربية.
صحيح أن الحكيم استند الى نتاجات ساطع الحصري وقسطنطين زريق، وقام مع رفاقه الأوائل بدرس التاريخ العربي والديانات.. لكنّه أكد أن " القومية انتماء نابع من الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة والثقافة" فهي ليست مقحمة أو متخيلة، إنها سيرورة وصيرورة في آن وتتمايز عن سواها من القوميات.
وأعرب عن إعجابه المبكر "بالثورة" الناصرية ومنجزاتها، بل انخرط القوميون في حكومة الوحدة المصرية – السورية عام 1958. وتشير لقاءات الحكيم مع عبد الناصر أن الحكيم انتقد غياب الديموقراطية، وأن هذا الغياب عامل كبير في انفراط عقد الوحدة والبيئة التي استفاد منها أعداء الوحدة ... "إذ لا يمكن تعبئة الجماهير إلا من خلال الديموقراطية... الحرية والديموقراطية هما الشرط للسير نحو الوحدة والتطور والتنمية واستثمار إمكانات الأمة ومواجهة الأعداء القوميين".
كما أن فرع القوميين العرب في اليمن قاد النضال التحرري ضد المحتل البريطاني وانتزع الاستقلال لليمن الجنوبي. فيما فرعهم في إقليم ظفار خاض قتالًا ضاريًا.
دون التهوين من دور الحركة في نشر الثقافة التنويرية والنهضوية المنحازة للعلم والعقل والمواطنة والمطلب الديموقراطي التعددي والانتخابي... جنبًا إلى جنبٍ مع تبني سياساتٍ قوميّةٍ معاديةٍ للاستعمار، ومعسكر الأعداء، وتبيان الترابط بين حلقاته.
أما هزيمة حزيران 67 فقد عدّها الحكيم "هزيمة للنظم وبرامجها " ولا تنتقص من قدرة الأمة العربية على النهوض والانتصار.. ومن ثَمَّ هلّل كثيرًا للانتفاضة الكانونية 1987 باعتبارها مبادرة شعبية وضعت الاحتلال في حالة دفاع، وكان يردد بغتة في أحاديثه أو أثناء تناوله وجبه طعام "لا شيء يعلو على صوت الانتفاضة"، والأمر نفسه كان في انتصار المقاومة اللبنانية عامي 2000 و2006 ... وبالتأكيد كان يمكن أن يرى في انتصار الجيشين الانتفاضي التونسي اليوم مصداقًا لثقته بالشعوب ورهانه على الأمة.
وحتى عندما حكم عليه القضاء السوري بالإعدام في بداية الستينات واعتقاله عام 1968من قبل رئيس المخابرات الجنيدي الذي ذهب لمقابلته لعله يحصل على تسهيلات لنشاط المقاومة، ليجد نفسه في زنزانة انفرادية مدة ثمانية أشهر إلى أن حرره الشهيد وديع حداد في عملية ذكية دون إراقة دماء... اختلف مع عبد الناصر على مشروع روجرز 1970، واجتثاث البندقية الفلسطينية من الأردن ودوره مع فصائل المقاومة الأخرى في تثوير الحركة الوطنية اللبنانية وإسنادها، التي سيطرت على 82 % من البلد عام 1976 قبل أن تذبحا ... وكامب ديفيد 1978 وأوسلو 1993.
والحكيم وقف مليا وعن كثب على التحولات الطبقية – الاقتصادية – السياسية – الثقافية التي طرأت على مصر في فتره السبعينات وأفضت لكامب ديفيد، وبين أبعاد ذلك على الأمة العربية والقضية الفلسطينية، وما نتج عن ذلك من سلخ مصر من جبهة الصراع وو.... ولم تهتز ثقته بالقومية العربية.
أما خلاف الحكيم مع سياسات الرئيس صدام فلم تمنعه من المجازفة والسفر من دمشق لبغداد وسط قرع طبول الحرب، وهو يعلم أنه قد يمنع من العودة لـسوريا، غير أن الرئيس الأسد قال "هذا رجل قومي صادق وإن اختلفنا معه" وهو أكد للرئيس الأسد" أنا عربي ومن حقي الإقامة في سوريا". ومن ثَمَّ مشاركته في مؤتمرات شعبية عربية عديدة ضمت ألوان الطيف السياسي والفكري كافةً.
فالحكيم حكاية قومية. وحكايته تبدأ من أرض القضية القومية الأولى (قضية فلسطين) التي كرّس حياته لها، بكل ما في الكلمة من معنى، صانعًا للتاريخ ومشاركًا في خلجاته ومخاضاته ومعاركه، بما تعرّضت له الثورة من مذابح سياسية وعسكرية، و(كانت بنيته الفكرية والأخلاقية الواضحة شديدة الإحكام والتماسك والعناد) م. درويش... وهو لم يتردد في التلاحم المصيري مع شقيقه أبو عمار في معركه بيروت الكبرى عام 1982 والخلاف الاستراتيجي معه على خيار أوسلو ورفضه العودة "تحت راية أوسلو، ودون عودة ملايين اللاجئين" وتصديه المثابر للميول اليمينية التي تمسّ بالحقوق التاريخية والوطنية".
وسواء نشاط حركة القوميين العرب التي قادها باعتباره رجلًّا أوّل أو تأسيس الجبهة الشعبية وقيادتها رجلًّا أول أيضًا، عندما كانت قوة ثانية تملأ الدنيا بحضورها، إنما كان الهدف "تحرير فلسطين وعودة أهل البلاد لوطنهم". والجبهة مسيرة متشعبة، تستحق كما سواها من الفصائل الأساسية إجراء دراسات بحثية حولها، وفي الطريق كتاب لي على صلة بالأمر.