Menu

ملحمةُ جلجامش وأساطيرُ الأولين! تأثّر بعض الأديان بهذه الحياة الفكريّة الأسطوريّة

تغريد بو مرعي

نشر هذا المقال في العدد 50 من مجلة الهدف الإلكترونية

المقصودُ بجلجامش هو ذلك النصُّ الشعري الطويل المكتوب بالآكاديّة البابليّة، وموزّع على اثني عشر لوحًا فخاريًّا، تروي الملحمة حياةَ الملك جلجامش وأعماله، ملك أوروك، بطريقةٍ يمتزج فيها التاريخ بالأسطورة. والملحمة من خلال استدلالاتها المبطّنة، تروي أساطير ذكرت في معجزاتٍ لحقتها الكثير من الأقوام والأنبياء، وتأثّر بعض الأديان بهذه الحياة الفكريّة الأسطوريّة.

 وردت كلمة أساطير الأولين في القرآن الكريم 8 مرات، وهذه إشارةٌ واضحةٌ جدًّا لأن ندرس أساطير الأوّلين بكلّ دقّةٍ للتمييز بين ما ورد فيها، وبين حقائق القرآن الكريم، وتصحيح المعلومات التي وردت عبر الأساطير.

كان سرد الأساطير منذ القدم ضرورةً حيويّةً للناس، فقد ابتكر الإنسان القديم أساطيره لفهم الكثير من المعاني، مثل الولادة والموت وما بعد الموت والخصب والأمومة…، فأبطال الأساطير يقومون بأعمال خارقة، ويحققون كل الرغبات والأماني البشرية ويهزمون حتى الآلهة، والبشر في جميع الأزمنة وفي مختلف أماكن وجودهم، يريدون أن يعرفوا سبب وجودهم وتفسيرًا لتصرفات الطبيعة، وكيف يرتبط السـبب بالمسبّب. وكما ذكرنا سابقًا "القرآن" صحّح جميع المعلومات التي وردت في الأساطير، وعلى سبيل المثال، قصة الطوفان التي ورد ذكرها في ملحمة جلجامش.

ورد الطوفان في الأساطير القديمة في ثلاثِ قصصٍ بابليّة، الأولى بطلها أرهاسيس وتعود إلى 1650 قبل الميلاد، والثانية بطلها زيو سيدرا، والثالثة بطلها أوتنابشتم Utnapishtem ومعناه: البعيد. وقد ذُكرت القصة الثالثة في ملحمة جلجامش Gilgamesh، والقصص الثلاثة تحدثت عن شخصٍ عاديٍّ قام بصنع سفينة.

كانت الآلهة قبل الإنسان تعمل لكسب قوتها، والكون مقسّمٌ بين هذه الآلهة، وكان الإله أنليل يحكم الأرض، والإله أنكي يحكم العالم السفلي، وكان سبعة آلهة يشكلون طبقة الحكام، وقد تعبت الآلهة خاصةً بعد أن حفرت نهري دجلة والفرات، فقررت خلق من يعمل ليطعمها، فخلق الإله أنكي الإنسان.

ولكن البشر تكاثروا على الأرض، وكثر هياجهم وصخبهم، فلم تستطع الآلهة النوم من ضوضاء البشر وضجيجهم، فقررت القضاء عليهم، فأرسلت مرض الطاعون، لكنه لم يقضي على كل البشر، فأرسلت الجفاف، لكن إله المطر [أدَد Adad] قبِل رشوةً من البشر فأرسل المطر.

وأخيرًا اقترح الإله أنليل على الآلهة إرسال الطوفان، ولكن الإله أنكي عارض الفكرة، فأرسل الخبر سرًّا إلى أوتنابشْتم ونصحه ببناء السفينة لإنقاذ بعض البشر، وأنزل الإله أدَدْ الأمطار ستة أيام متتالية، وفي اليوم السابع خفّت الأمطار، واستوت السفينة على جبل نصير، وقد جاعت الآلهة في هذه المدة، وعندما نزل أوتنابشتم من السفينة وضحى بأضحية، اجتمعت الآلهة على الأُضحية مثل الذباب لشدة جوعها، وعندما وصل الإله أنليل وشاهد السفينة غضب غضبًا شديدًا؛ لأنّ بعض البشر قد نجا من الطوفان. أما معلومات "القرآن" فتختلف بشكلٍ جذريٍّ عن هذه القصة، حيث يتحدّثُ عن رسولٍ كريم هو النبي نوح عليه السلام، ويردّ القرآن على هذه الأكاذيب الأسطوريّة، التي تتحدث عن تعدّد الآلهة،

كما أن "القرآن" انتقد بشدّةٍ من يقول إنّه يُشابه أساطير الأولين، مثال: (إذا تُتلى عليه آيـاتُنـا قال: أساطيرُ الأوّلين) القلم 15 / المطفّفين 13.

 لقد كان لهذه الأساطير تأثيرٌ في الفكر الإنساني:

عيد النيروز:

هو اليوم الذي يُقال: إنّ السفينة رست فيه على الجبل، ويصادف تاريخ 21 آذار، وقد جعلوه عيد الأم نسبة إلى الآلهة الأُم الكبرى عشـتار.

حمامة السلام:

دخلت فكرة حمامة السلام، التي تحمل في منقارها غصن زيتون أخضر من أساطير الطوفان، حيث أرسل ابتناشتم حمامة من السفينة، فعادت في المساء وفي منقارها غصن زيتون أخضر، فعلم أن اليابسة قد ظهرت من جديد، وأوّل من رسم هذه الحمامة هو الرسام الشهير بابلو بيكاسو.

قوس قزح:

مع أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم يقول: [لا تقولنّ قوس قزح، ولكن قولوا: قوس الله] رواه ابن الجوزي 1 / 213، لكن بقيت تستخدم قوس قزح وكأنها تعترف بإله آخر هو قُزَحْ = إله الصواعق والرعد]، والله يقول: (ولا تجْعلْ مع الله إلهً آخر، فتُلْقى في جهنّم ملومًا مدحورًا) الإسراء 39.

تقول الأساطيرُ البابلية: علقت آلهة اللذة عشتار قوسها الثمين الملون على السماء، ليكون ميثاقًا مع البشر أن لا يعودَ الطوفان ثانية، وفي [سفْر التكوين 9 / 12] نجد : [وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا أضعه بيني وبينكم… وضعت قوسي في السحاب… فيكون متى أنشر سحابًا، أنّي أذكر ميثاقي، فلا تكون المياه طوفانًا]  والله سبحانه يقول: (ومَـا كانَ ربّـك نسـيًّا) مريم 64.

جلجامش:

هو الذي رأى كل شيءٍ فغنّى بذكره يا بلادي، وهو الذي رأى جميعَ الأشياء، وأفاد من عبرها، وهو الحكيم العارف بكل شيء. أبصر الأسرار وكشف الخفايا، وجاء بأنباء ما قبل الطوفان، حتّى كأنّك ترى الملحمة قصّةً مقدّسةً أو رسالةً سماويّةً يصبح فيها أتنابشتم منقذ البشريّة من الطوفان بدلًا عن النبي نوح عليه السلام.

بعد موت أنكيدو قرر جلجامش البحث عن الخلود وسر مقاومة الموت، قرّر أن يقوم برحلةٍ للبحث عن أتنابشتم، فيلتقي به ويحدّثه أتنابشتم عن فيضانٍ عظيمٍ سوف يحدث، وقد علم بخطّةٍ وضعتها الآلهة لإحداث هذا الفيضان، فشيد سفينة وضع فيها جميع مقتنياته الثمينة، وعائلته وأقاربه، ومختلف الحيوانات الأليفة والبرية من كلّ نوع.

ودام الفيضان ستة أيام، وراح ضحيته بقية أبناء الجنس البشري بالكامل إلا أتنابشتم ومَن معه، حيث حطّوا على جبلٍ يسمى جبل نموش، ومن هناك أرسل حمامة وسنونو للبحث عن اليابسة، إلا أنهما لم يعثرا على أرض يستريحا عليها ورجعا إلى أتنابشتم، فأطلق غرابًا طار في السماء ولم يعد، فاستدل أتنابشتم من ذلك على أن الغراب وجد اليابسة وأن المياه بدأت تنحسر:

"وعندما حل اليوم السابع،

أتيت بحمامة وأطلقتها.

طارت الحمامة بعيدًا ثم عادت إليّ،

لم تجد مستقرًّا فعادت.

ثم أتيت بسنونو وأطلقته،

طار السنونو بعيدًا ثمّ عاد إليّ.

لم يجد مستقرًّا فعاد.

أتيت بغرابٍ وأطلقته.

طار الغراب بعيدًا. فلما رأى الماء قد انحسر،

حام وحطّ وأكل، ولم يعد"

دائمًا تصلنا أن منبت العديد من الأساطير وأصلها هي حقائقُ مطلقة، فجلجامش، ملحمةٌ شعريّة، فكريّة، فلسفيّة وإنسانيّة، تعبّر عن روح عصر ذلك الزمن بكل الهواجس والآمال والأحلام، وتعبّر عن الوجه الحضاري والإنساني الذي وصل إليه إنسانُ ذلك العصر وعن الرسالة التي تخرجها هذه الحضارة للعالم.

اتنابشتيم بطل أسطورة الطوفان البابليّة، الذي حمل في سفينته من كل زوجين من الحيوانات اثنين وأهله، فأنقذ الحياة على الأرض من الدمار الشامل الذي أحدثه الطوفان العظيم. وقد أنعمت عليه الآلهة بالخلود مع زوجته وأسكنوه في جزيرةٍ نائيةٍ تقع خلف بحار الموت جزاءً له. "إنّ هدف الحياة ومعناها قائمٌ فيها، في الممكنات غير المحدودة التي تتيحها لنا، التي نعمى عنها حين يداهمنا رعب الموت، فنسعى لإطالة حياةٍ لا ندري ماذا نفعل بها".

 وهذه الملحمةُ الفريدة التي تجاوزت بيئتها، وتُرجمت الى أكثر من لغةٍ تضع السؤال الأصعب في تاريخ البشر، ألا وهو سرُّ الحياة ولغزُ الموت:

"من ترى يا صديقي يرقى إلى السماء

الآلهة هم الخالدون في مرتع شمش

أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض

وقبض الريح كل ما يفعلون"

بعد وفاة أنكيدو يخاف جلجامش من الموت لينطلق في رحلة بحثٍ عن معنى الوجود ومسألة الحياة والموت والخلود. فهل قهر الموت جلجامش، أو أنّ الخوف من الموت قهره؟!

"انتابني هلع الموت حتّى همّت في البراري

يثقل صدري خطب أخي

مالي من هدأة ومالي من سكون

فصديقي الذي أحببت صار إلى التراب

وأنا أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبدًا"

"أواه يا أتنابشتيم. ماذا أفعل؟ أين أسير؟…

لقد تسلل البلى إلى أطرافي…

وسكنت المنية حجرة نومي…

وحيثما قلبت وجهي أجد الموت"

فيقص عليه أوتنابشتيم قصته المشابهة تمامًا لقصة سيدنا نوح والطوفان مع بعض الاختلاف، بأن الآلهة قررت أن ترسل طوفان للقضاء على الحياة على الأرض، ولكن الإله “إيا” جاء في حلم أتنابشتيم وطلب منه أن يبني سفينةً ويحملُ عليها زوجًا من كلّ شيءٍ حيّ، فيبنيها، ويخبر الناس بأنّه سينتقل إلى عالم المياه السفلى ويحملُ أقاربه وزوجًا من كلّ نوعٍ من الحيوانات، بالإضافة إلى أصحاب الحرف المختلفة من نجارٍ ونحاتٍ وكتاب.. إلخ ويحدث الطوفان وينجو ركاب السفينة فقط، وعندما تعلم الآلهة تمنحه الخلود مكافأةً على إنقاذ الحياة… وأسكنوه في جزيرةٍ نائيةٍ تقع خلف بحار الموت جزاءً له.

"أتدري يا أورشنابي

إنّ الإنسان مفضّلٌ على الآلهة؟

مفضلٌ لأنّه يموت، لأنّ عليه أن يفعل الكثير

قبل أن يمضي.

لقد حكم عليه بالامتحان الكبير

وعليه أن يتعلم كيف يعيش،

وعليه أيضًا أن يتعلم كيف يموت"

إنّ الأدب هو دليلُ تفوّقنا البشري، دليلٌ على أنه يمكن أن نتجاوز كل الاختلافات فيما بيننا، ونصنع أعمال تتجاوز طبيعتنا الضيقة، فالسببُ الذي دفع ملحمة جلجامش وملاحم هوميروس بالصمود، رغم أنّها كُتبت في بيئةٍ معيّنةٍ وتناولت أفكارًا دينيّةً معيّنةً عن الآلهة والطبيعة، تختلفُ بشكلٍ جذريٍّ مع رؤانا في الوقت الحاضر، هو مخاطبة الإنسان في كلّ زمنٍ وزمانٍ بعيدًا عن لونه وجنسه وعرقه.

"إلى أين تمضي يا جلجامش؟

الحياة التي تبحث عنها لن تجدها

فالآلهة لما خلقت البشر

جعلت الموت لهم نصيبًا

وحبست في أيديها الحياة

أما أنت يا جلجامش، فاملأ بطنك

فرخ ليلك ونهارك

اجعل من كلّ يومٍ عيدًا

ارقص لاهيًا في الليل وفي النهار

أخطر بثيابٍ نظيفةٍ زاهية

اِغسل رأسك وتحمّم بالمياه

دلّل صغيرك الممسك بيدك

وأسعد زوجك بين أحضانك

هذا نصيب البشر في هذه الحياة"

شخصياتٌ عديدةٌ ذكرت في هذه الملحمة، أدّت كلٌّ منها دورًا، وكان لها هدفٌ وغايةٌ في إتمام تلك الملحمة لتخرج بهذه الروعة، ولعلّ الدافع الحقيقي لم يكن البحث عن الخلود، بل البحث عن معنى الحياة والغاية فيها؛ لأنّ الخوف من الموت شرطٌ لحبّ الحياة، ففي كلّ مرحلةٍ من مراحل رحلته، كان جلجامش يتلقى درسًا في معنى الحياة والموت.

مصادر:

 كتاب «ملحمة كلكامش أوديسة العراق الخالدة» لعالم الآثار العراقي طه باقر.

كتاب «كنوز الأعماق - قراءة في ملحمة جلجامش» المفكر والكاتب والباحث السوري فراس السواح.

كتاب «ملحمة جلجامش» والذي ترجمه للعربية عن الألمانية المترجم المصري عبد الغفار مكاوي وراجعها عن الأكدية الباحث المصري عوني عبد الرؤوف في سنة 2003.