هذهِ الكلماتُ محاولةٌ لاستعادة الوصف ليطابق الموصوف شكلًا ومضمونًا؛ هي محاولةٌ لاستعادة ما يبدو أنّه تفخيمٌ فيما هو تمويهٌ مقصودٌ وغير مقصود، ولذا هي كلماتٌ ليست عن وليد المفكر، وإن كانت كتاباته ونحته للمفاهيم خاصّةً صهر الوعي تجعلُهُ مفكّرًا ومبدعًا وكاتبًا واستثنائيًّا؛ لأن كل هذا الإنتاج خرج للعلن في ظروفٍ استثنائيّة، حيث العزلة والسجان الذي يحارب الفكرة أي فكرة، ويريد للأسير أن يكون منزوع الإرادة والعقل. ومع ذلك قوّتها في قدرته علــى نحتها من موقع القوي المتحدّي، والمدرك أن السجن هو خندقٌ نضاليٌّ متقدّمٌ ومكانٌ للإنتاج المعرفي منتجًا نضاليًّا ثوريًّا، وليس رفاهيةَ مثقّفٍ لديه متّسعٌ من الوقت أن يصحو من النوم، وينطلق لأقرب مقهى يحتسي قهوة، وينتج عبر وسائل التواصل ما يعتقد أنّه معرفةٌ ثوريّةٌ وتحرّريّةٌ، وقد لا تخرج فعلًا أبعد من باب المقهى ولا ممارسة على الأرض تمنحها بعضًا من المصداقية، وهي ليست كلمات في التبجيل السياسي من قيادةٍ تركت جنودها أسرى في السجون، وتستخدمهم للاستهلاك الإعلامي ولتجميل صورتها الهزيلة المهزومة.
هي كلماتٌ عن وليد الإنسان والمناضل، القائد والثوري بجدارة الصمود والفعل خارج وداخل الأسر. وليد هو التعبير المكثّف عن أن تكون مناضلًا ثوريًّا مثقّفًا عضويًّا مشتبكًا، وأن تغرق كلك، وكل وقتك في معركة وجودك الإنساني والنضالي، فلسطيني في وجه المحو والاقتلاع الاستعماري.
لذا، هذه الكلمات عن وليد الإنسان أوّلًا؛ لأنّه أدرك مبكرًا معنى انتفاء إنسانيّة الاستعمار، ومحاولته سحق إنسانيّة المستعمَر، فناضل من أجل حريّة شعبه، ثمَّ اعتقل، فلم ينكسر أو يتراجع، بل تفحّص جيّدًا قضبان الزنزانة وحيطانها، ورسم في مخيّلته كيف تكون مساحة لرسم طريق الحرية وكيف يحوّلها إلى بقعة ضوء وأمل لرفاقه الأسرى ولشعبه الرابض على تخوم الحرية، وأدرك بلمح البصر أنّ النضال مستمرّ، وأنّ هنا المحكّ الفعلي، حيث تختبر الإرادة والقناعة فأبدع مناضلًا لأنّه إنسان، فكان فاعلًا في منظّمات الأسر في الكتابة، في المحاضرة، في العطاء، في الصمود، في الإضراب، شكّل نموذجًا طليعيًّا وثوريًّا للمناضل المثال فاستحقّ عن جدارة أن يكون قائدًا ونموذجًا يسعى رواد الزنازين من المناضلين وأجيال من الفلسطينيين أن يتمثّلوا سيرته ونضاله.
أتنقل بين صفحات التواصل الاجتماعي أتابع ميلاد وليد دقه وهي تُنتزع من طفولتها إلى عالم فُرض عليها قصرًا بفعل احتلالٍ بغيضٍ انتزع وليد من حياته وحرّيته إنسانًا يحلم ويطمح أن يكون يومًا أبًا، أخًا، وزوجًا محبًّا، إلى مناضلٍ يقارعُ الاحتلال فيعتقل ويغدو رمزًا للصمود والنضال والاشتباك المستمرّ مع منظومة الاستعمار ممثلة بإدارات السجون التي لاحقت أحلامه وأنفاسه وقلمه والأوراق، واليوم تلاحق ذرات الدماء في جسده وكل مفصل عظامٍ يأبى الركوع.
ميلاد، ها هي تحملُ صورة والدها أمام سجن الرملة، وتهتفُ لحرّيّته وحريّة الأسرى، وهي في طريقها لوقفة إسنادٍ هنا أو هناك، أو أمام بوّابات السجون المختلفة تنتظر زيارته من خلف الزجاج دون أن تختبر معنى حضن الأب ودون أن يتمكن هو من اختبار أبوته وهي تتلمّسُ أيدي طفلته الصغيرة، ودون أن يتلقف أولى الكلمات أو الضحكات وحتى الدمعات. ميلاد التي اختبرت الوطن وتعرفت إلى تضاريسه وشوارعه عبر المسافات بين سجن وآخر تطارد رغبات الطفولة لأب تحلم وتشتاق لحضنه كما كل الأطفال، ووليد الذي رسم ملامحها في ليل الزنزانة الطويل، وكيف ستكون وكيف يمكن أن يمنح معنى لأبوة سجينة؟ وكيف لطفلة هي من صلبه بنطفةٍ محرّرةٍ أن تنجبه هو، وتمنحه ميلادًا وحياةً بعد سنوات سجن عجاف رسمت ملامحها على تجاعيد وجه وأكف يداه؟
كيف تتحوّل الأشياء وتتبدل الأدوار والمواقع لتصبح الطفلة تحمل هم الأب الكبير، وهي عنوان لوجوده وإعلان حياته وبقائه رغم أنف السجان هي امتداده ووجوده في الحرية رغم الأسر. ميلاد إعلان الوجود والبقاء ورغبة الحياة التي لم تطفئها سنوات الاعتقال وتوالي الفصول، ميلاد لوليد بيان الانتصار في معركة الوجود والصمود وصراع الإرادة على السجان، معها وليد يؤكّد للمرة المليون جدلية الحياة والخلود. ميلاد هي سخرية وليد من تبجّح السجان بأمنه وقدرته على حجر حرية الإنسان، هي إعلان أننا كنا وسنبقى نحب الحياة ما استطعنا اليها سبيلًا.
ميلاد الطفلة التي منحتنا جميعًا وقبل وليد وسناء قوة وإرادة إضافية أن نحب الحياة وأن نقتفي درب المناضلين، أضاءت من جديدٍ على عالم الأسر الذي ابتلعه وغيّبه عالم أوسلو البغيض، بها وليد يستنهض فينا الثورة وأن نحيا لنقاتل.
أما وليد فقاتل بقوةٍ؛ كي تصبح أحلامه المصادرة واقعًا رغم أنف السجان، تعلم وكتب وأنتج لنا وعيًا يرفض الانصهار، بل المواجهة اليومية في الأسر التي زادت وليد قناعةً بأن إمكانية المواجهة حتى في ساحةٍ لا تتعدى الأمتار محددة بجدران وقضبان هي أوسع وأرحب من كل شوارع الكرة الأرضية، بل وهي الأكثر دقة وشراسة، وهي معملٌ لإنتاج إرادة وصلابه وتجذير للفكرة التي ننتمي إليها، تحدى صهر الوعي والإرادة وحلق في قلمه إلى أفق الحرية لأسرار الزيت والسيف، حيث لا حدود لأحلام الثوريين، فهو الذي زادته سنوات الاعتقال الطويل صلابة ومنعة وإرادة ومواجهة واشتباكًا يوميًّا على مدار الساعة مع السجان، فكان الإنسان المناضل الذي بممارسته الثورية منح مصداقية للفكر والثقافة والكتابة ببعدها الثوري الذي يرتبط جدليًّا بنضالنا ضدّ الاستعمار الصهيوني، عبر الاشتباك والمقاومة، وليس الكتابة ترفًا من موقع المتفرج والمنظر كحال الكثير من "مثقفي المرحلة ومفكريها"، وليد سار على درب رفيقه كنفاني فكرًا وممارسة، واستطاع إظهار أجمل ما في المناضل، روحه الإنسانية الوقادة بالحب والفرح، وهل هناك أجمل من فرحٍ منحنا إياه قبل أن يمنحه لسناء، فرحنا بميلاد.
ومنحنا أجمل ما يمكن أن نتعلمه من نضاله وإنسانيته، تلك العلاقة الجميلة التي نمت رغم قباحة الأسر وجدرانه وقضبانه، منحنا أن نشاهد ونعيش الحب النامي والمتشابك على قيد الحياة والأمل بينه وبين العزيزة سناء، علمونا نموذجًا في العلاقات الإنسانية البعيدة عن عالم استهلاك المشاعر، كما الطعام والملابس في عالم أوسلو البغيض وعالم الرأسمال الاستهلاكي الذي انتزع الإنسان من وجوده الإنساني إلى وجود أداتي، وكأنه مرةً أخرى يتغلّب على صهر الوعي بممارسة أعمق إنسانيًّا ممّا نعيش.
وسناء التي التقطت أجمل ما في وليد عنف قوة العقيدة وصلابتها والرؤيا ورقة المشاعر وعنفوانها، فكانت حرّيته حريتها، فرحه فرحها، نضاله نضالها، سنوات طويلة، وهي تشاركه الأسر جسده هناك، وجسدها هنا ولكن إرادتهما وروحهما ونضالهما واحدًا موحّدًا انصهرا معًا، وتكاد لا ترى سناء إلا ووليد حاضر، وإن ذكر وليد فسناء عنوانه وصوته وحلمه وجيشه الذي لا يتعب ولا يكل في القتال لأجل حريته؛ مرة كي يرتبطا بعقد الزواج، ومرة كي يدشنا عائلة، فكان الزواج وكانت ميلاد، وبين الإصرار على بناء عائلةٍ وحياةٍ وبين متابعةِ الإضرابات المختلفة لوليد والأسرى ومن مدينة لأخرى ومن فلسطين من بحرها لنهرها بالمعنى الحرفي والفعلي، تنقلت وتتنقل سناء تنادي وتحرض وتناقش وتطالب وترد وتقاتل وتساند وتشجع وتدعم كل ما له علاقة بالأسرى وليس لوليد وحده، تفعل أي شيء وكل شيء كل شيء بلا استثناء، علاقة حب وارتباط ونضال صاغها وليد وسناء تجاوزت كل ما هو تقليدي ومعروف وممارس في العلاقات إلى نموذجٍ ثوريٍّ ونضاليٍّ فاعلٍ وإنسانيٍّ رقيق المشاعر، كم نحتاجه في عالم العلاقات المادية غير الإنسانية المشوّهة التي تحكم المرحلة.
أن نعزل وليد عن سياقه النضالي والثوري، وصموده وفاعليّته النضاليّة في الأسر إلى اختصاره بلقب مفكّرٍ هو إجحافٌ وتشويهٌ لكلّ ما يمثّله وليد، قبل أيام تبادلت وسناء تساؤل رفاق حول تفضيل استخدام مفكر أم مناضل؟ فكان رد سناء بليغًا ومختصرًا قالت "إن لم يكن وليد مناضلًا فماذا يكون طبعًا هو مناضل أوّلًا وقبل أي شيء". جيد أن يراه البعض مفكرًا وهو كذلك، ولكن هذه "المفكر" وحدها تعني محاولة تجاوز البيئة والسياق الذي به ولأجله وليد كتب وأنتج ويعيش ويدفع يوميًّا من حياته وحريته ثمنًا لكل ذلك، وما الإنسان والكتابة والإبداع إن لم تكن نتاج واقع يعيشه الكاتب، ومنه يستمد مادته لإنتاجه الفكري؟
اليوم وليد يصارع معركة الحياة والبقاء أمام المرض اللعين وإدارة السجون التي تستخدم المرض وسيلةً إضافيةً للتعذيب وللقتل غير المباشر، إرادته لم تخنه يومًا ولا أعتقد أنها ستخونه، فمثله يعيش النضال ممارسةً شخصيّةً يوميّةً عقائديّةً اختبرت فيها إرادته وصموده على مر سنوات الاعتقال الطويل وتجاوزت ٣٧ عامًا، ولم تخنه يومًا، وخرج من كل معاركها قويًّا منتصرًا هو ورفاقه الأسرى. أمّا اليوم يخوض معركة الجسد والمرض، يقاومه بكلّ إرادة مسلحًا بحبه للحياة وإيمانه بالانتصار ومعه سناء وميلاد وقلوب الآلاف من شعبه ورفاقه ومحبيه، وكلنا أملٌ ألا يخون الجسد إرادة صاحبه ورغبتها، وأن يعود إلينا معافًى وحرًّا كما هو دومًا.
شكرًا وليد؛ لأنّك في سيرتك ونضالك منحتنا وعلمتنا درسًا في النضال والإنسانيّة، في حب البلاد والحرية التي هي المقابل. نحن أنانيون وطماعون ونرغب بالمزيد من هذا العطاء والإرادة ودروس المواجهة والتفاؤل والأمل؛ كي نكون أقوياء، ونظل على قيد الحلم بالحرية، نريدك بيننا، فيا أيّها المرض اللعين تمهّل وامنح للفرح وللأمل وللحرية وللقاء مكانًا لوليد بيننا.
نحبّك يا رفيق وننتظرك منتصرًا على المرض كما عهدناك دومًا مناضلًا ثوريًّا منتصرًا على السجّان.