Menu

النهوضُ بعد الانهيار

شادي عادل الزيد

نشر هذا المقال في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

لا يخفى على أحدٍ أنّ انهيارَ الاتّحادِ السوفييتيّ قبل 32 عامًا، قد أثّرَ سلبًا على الحراكِ الاشتراكيِّ العالميّ، حيث عمّ في أوساطِ هذه الأحزابِ والحركاتِ حالةٌ من اليأسِ والضياع وصلَ بالبعضِ إلى النكوفِ عن الخطِّ الماركسيِّ تمامًا، كما حصلَ في الحزبِ الشيوعيِّ اليابانيّ. تمكنت الولاياتُ المتحدةُ خلالَ هذهِ الحقبةِ الضائعةِ من مدِّ نفوذها بلا رقيبٍ حتى أضحتْ أضخمَ إمبراطوريّةٍ في تاريخِ الجنسِ البشريّ، وانبثقت تحتَ يدها حربٌ معلوماتيّةٌ من طرفٍ واحدٍ حملَ سَيْفَها فاشيو أوروبّا الشرقيّة الذين انفكّتْ عنهمْ قيودُ الحكوماتِ الاشتراكية، فأصبحوا همْ كُتّابَ تاريخِ الحقبةِ الاشتراكيةِ (1917–1989) دونَ منازع، فاليومَ ترى الروايةَ الفاشيّةَ الأوكرانيةَ و البولنديّةَ و اللتوانيّةَ و الكرواتيّةَ قد صارت أساسًا للدراساتِ التاريخيّةِ المتعلِّقَةِ بالاتحادِ السوفيتيِّ و دولِ الكتلةِ الشرقيّة.

إنَّهُ رغمَ فضلِ الاتِّحادِ السُّوفييتيّ على الحركةِ الاشتراكيَّةِ العالميَّةِ، فإنَّ الاعتمادَ التامَّ غيرَ النَّقديِّ لخطِّهِ الرَّسميِّ كانَ أحدَ أهمِّ أسبابِ حالةِ الشَّللِ الفكريِّ التي أصابتِ الاشتراكيينَ العربَ وغيرَهمْ إبانَ الانهِيار. إن الحركاتِ الاشتراكيةَ العربيةَ كما أشارَ مهدي عامِل في "أثرِ الفكرِ الاشتراكيِّ في حركةِ التحررِ الوطنيّ" قد فشلتْ بشكلٍ عامٍ خلالَ العقودِ الماضيةِ في بلورةِ فكرٍ ماركِسيٍّ عربيٍّ فريدٍ ومناسبٍ للوضعِ الماديِّ العربيِّ كما فعلَ ماو تسي تونغ في الصين وكيم إيل سونغ في كوريا، بل ودَخَلَتْ أحيانًا في حالةِ صراعٍ مكلفٍ مع باقي القوى التقدميِّة العربيِّة بدل أن تحالفها ضد قوى الرجعيَّةِ والعمالةِ للاستعمارِ. لا ننسى - نحن الفلسطينيين خصوصًا - أن الخطَّ الرسميَّ السُّوفييتيَّ تعدى من خطأٍ واضحٍ إلى غباءٍ فادحٍ في مرحلةٍ من المراحل، حيثُ كانَ الاتحادُ السوفييتيُّ أولَ من اعترفَ بالكيانِ الصُّهيونيِّ عشيةَ النكبةِ، وإنْ عَدَّلَ موقِفهُ بعدَ ذلكَ بقليلٍ وأَمَدَّ الثورةَ الفلسطينيةَ بالسلاحِ والعتاد.

أقامتْ كوريا الشَّماليةُ عامَ 1992 مؤتمرَ بيونغيانغ الذي وُقِّعَ فيهِ إعلانٌ يَنُصُّ على أنَّ النظريةَ الماركسيَّةَ ال لينين يَّةَ لا زالتْ ناجعةً في ظلِّ الانهيار، وأنَّ الاشتراكيةَ رغمَ أنَّها قد مُنِيتْ بتراجعْ قاسٍ فإنها لا زالتْ مستقبلَ البشريِّةِ وطريقَ الخلاصِ من الظلمِ والاستبداد. حَضَرَ هذا المؤتمرَ ممثلونَ عن 69 حزبًا شيوعيَّا من شتى أنحاءِ العالم، صادقوا فيهِ على هذا الإعلانِ وجدَّدوا تمسُّكهمْ بالخطِّ الاشتراكيّ. لا زال هذا الإعلانُ مفتوحًا للتوقيع، فكان الحزبُ الاشتراكيُّ الملدافيُّ مثلًا قد وقَّعَ الإعلانَ عامَ 2018.

ذَكَرتُ هذا لأنَّني أرى في الجبهةِ الشعبيةِ لتحريرِ فلسطين — وفي اليسارِ العالميِّ عامة — حاجةً إلى النّشاطِ والتّجديدِ والتّركيزِ على المبادئِ الاشتراكيةِ التي بُنِيَ عليها الحراك. أقول هذا ليسَ عتابًا بل نظرَا إلى المستقبلِ وتحليلا للحاضر: إن المَهمَّةَ الأولى الآن لدفعِ حالةِ الركودِ الأيديولوجيّ هي تثقيفُ الكوادرِ ثم تثقيفُ الشعب بِفِكْرٍ ماركسيٍّ لينينيٍّ عربيٍّ مناسبٍ خصيصًا للوضعِ الماديِّ العربيِّ والفلسطينيّ.

قالَ الرَّفيقُ كيم إيل سونغ في خطابهِ "محوُ الدغماتيَّةِ وإرساءُ مبادئِ زوتشه في عملنا الأيديولوجيّ" لعامِ 1955، و”زوتشه Juche“ هي الماركسيّةُ اللينينيّةُ مفصَّلةً ومبلورةً خصيصى للحالةِ الكورية) أن الثقافةَ السياسيةَ داخلَ الحزبِ الثوريِّ تتخذُ صورةَ النُّواة، والنُّواة فردٌ شديدُ الإخلاصِ للمبدأ تهتمُّ القيادةُ بتثقيفهِ ليكونَ قدوةً لرفاقه، ينشرُ الوعيَ ويصحِّحُ الأخطاءَ في من حولهُ من الكوادر).

أمّا في العصرِ الإلكترونيّ فأنا أدَّعي أنَّ طريقةَ النواةِ هذهِ غيرُ كافيةٍ بسببِ سهولةِ الوصولِ إلى المعلومةِ الخاطئة، فُعَدُوُّنا (الصّهيونيُّ والأمريكيُّ والأوروبيُّ وغيرهم) لم يدخرْ جهدًا خلال العقودِ الثلاثِ الماضيةِ لتشويهِ صورةِ الاشتراكيةِ وتمويهِ اليمينِ باليسارِ واليسارِ باليمين، حتى وصلَ الأمرُ ببعضِ المؤلفينَ الأمريكانِ والبريطانيين أنْ يصنِّفوا لينين وستالين في نفسِ الخانةِ مع هتلر وموسوليني، مستغلِّينَ فرصةَ غيابِ من يدفعُ هذهِ الرواياتِ ويدافعُ عن الاشتراكية. البحثُ في (جوجل) يزجُّ بالقارئِ في دوامةٍ لا تنتهي من المصادرِ اليمينيَّةِ المتطرِّفةِ التي لا تذكرُ عن ألمانيا الشرقيةِ مثلًا إلا الشرطةَ السريَّةَ وجدارَ برلين، وكأن 40 عاما من التطويرِ الاشتراكيِّ المبهرِ لم يحصلْ في هذهِ الدولةِ الاشتراكيَّةِ الفقيرةِ المحاصَرةِ التي بَنَتْ نفسَها بنفسِها منْ تحتِ ركامِ الحربِ العالميةِ الثانية، وكأنَّ الناسَ لم يعيشوا فيها حياةً طبيعيةً ضَمِنَتْ لهُمْ فيها الدَّولةُ نِظامًا صحيًّا وتعليميًّا و خدماتيًّا مجَّانيًّا (وهو ما عَجِزَتْ عنهُ بل حارَبَتْ ضدَّهُ أمريكا ”أمُّ الحرية“ إلى اليوم)! هل يعلمُ الفلسطينيونَ أن ألمانيا الرجعيَّةَ التي نراها اليوم تتخذُ موقِفًا وَقِحًا من قضيَّتنا ليسَ خجلًا من تاريخِها النَّازي — هيهات! — بل كراهيةً للاشتراكيينَ الشرقيينَ الذينَ دعموا قضيَّتنا في الماضي القريب، وتَبَعِيَّةً لربِّها الأمريكيّ؟

كيفَ نُثَقِّفُ كوادرَ الحراكِ الثوريِّ العربيِّ في فلسطين؟ أنا أقولُ بفائدةِ (السوشال ميديا) بشكلٍ محدود: لا ضيرَ في بعضِ تصاميم (جرافيك) هنا وهناك، ولكنَّ المبدأَ الثوريَّ لا يترسخُ إلا بالدراسةِ الجادَّة، مثلهُ كمثلِ أيِّ علمٍ أو فن، ولذا لزمَ معاملتُهُ بالطريقةِ الموضوعيَّةِ المدروسةِ التي يستحِقُّها.

أقترحُ على قيادة الجبهةِ الشعبيَّة — بِحُكْمِها رأسَ حربةِ اليسارِ العربيّ — تأسيسَ لجنةٍ هدفُها تطويرُ منهجٍ تعليميٍّ كمنهجِ المدرسة، مكوَّنٌ من عددٍ من الكتيباتِ متوسِّطةِ الطولِ لا يزيدُ عددها عن 15 كتيبا تتناولُ أساسياتِ النظريَّةِ الماركسيَّةِ، وتحليلًا سهلَ الفهمِ للماضي والحاضرِ الفلسطينيِّ والعربيِّ والعالميِّ الاشتراكيّ، ترجعِ إليها الكوادرُ في حالِ الالتباسِ الفكريّ. مثلا: كتيباتٌ بعناوينَ مثل: "اليهود"، "الثورةُ الفلسطينيَّة"، "تاريخُ الجبهة"، "أساسيّاتُ الماركسيَّة"، "الدُّولُ الاشتراكيَّةُ السَّابقة"، "الواقعُ العربيّ"، وهلمَّ جرًّا. توزَّعُ هذهِ الكتيباتُ طباعةً إلى الكوادر، وإلكترونيًّا بصيغةِ PDF  بالعربيَّةِ والإنجليزيَّةِ إلى جماهيرِ الشَّعبِ الفلسطينيّ خاصَّةً، وعُمَّالِ العالمِ عامَّةً، وتوزَّعُ كلُّ الموادِّ التعليميَّةُ هذهِ تحتَ رخصةِ المشاعِ الإبداعيِّ CC-BY-SA لكي لا تُعيقَ انتشارها حقوقُ الطبعِ والنَّشر. يُدَرَّسُ ويُناقَشُ المَنْهجُ في الاجتماعاتِ الحزبيَّةِ لتعمَّ الفائدة.

جديرٌ بالذِّكرِ أنَّ منشور "على طريقِ الثورةِ الفلسطينيَّة" الذي أصدرتهُ الجبهةُ عامَ 1970 ما زالَ قيدَ الطباعةِ باللغةِ الإنجليزيَّةِ تحتَ عنوان ”Strategy for the Liberation of Palestine ، ويُعَدُّ مرجعًا ومادَّةً إلزاميَّةً إلى جانبِ كتبُ ماركس ولينين في بعضِ الأحزابِ الشيوعيَّةِ في الغرب. هنا أرى النُّواةَ التي تحدَّثَ عنها كيم إيل سونغ، ولكنَّ النُّواةَ في هذه الحالةِ ليستْ شخصًا، بل حِراكًا بأسره، يكون هو كلُّهُ تأثيرًا إيجابيًا على المجتمعِ الفلسطينيِّ بلْ والعربيِّ بل والعالميِّ، يبعثُ الروحَ في الفكرِ الاشتراكيِّ وفي الأحزابِ الشيوعيَّةِ من مدغشقر إلى كندا إلى تشيلي، ولْتَقُلِ الأجيالُ القادمةُ أنَّ أولَ من كسرَ ركودَ ما بعدِ انهيارِ السوفييت وتغلَّبَ عليهِ همُ الاشتراكيونَ الفلسطينيون.