Menu

تقدير موقف: واشنطن تعيد إحياء "قوس الأزمات": ألغام جاهزة للاشتعال!

حسين عبد الغني

في العقود الثلاثة الأخيرة تغيّر مشهد النظام العالمي ثلاث مرات؛ الأول كان بسقوط الاتحاد السوفييتي ١٩٩٢ وسقوط نظام القطبية الثنائية معه والتحوّل إلى نظام القطب الواحد الأمريكي المهيمن؛ الثاني بدأ عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ والتي تبعها ما يمكن وصفه بأكثر مراحل الانخراط الدموي المباشر للولايات المتحدة في الحروب والغزو العسكري لتأكيد هيمنتها المطلقة على العالم.

أما التغيّر الثالث الحالي فهو اندلاع الحرب الأوكرانية كحرب وكالة بامتياز بين واشنطن التي تريد تحقيق أهم أهداف استراتيجيتها للأمن القومي وهو إبقاء هيمنتها المطلقة على العالم، وبين بكين ووراءها موسكو اللتين تريدان إزاحتها من عرشها وخلق نظام دولي متعدّد الأقطاب.
كان الثابت في كلّ هذه المتغيّرات كل مرّة هو تأكيد القناعة الأمريكية الاستراتيجية في أنّ ضمان الهيمنة الأمريكية العالمية يمرّ بالضرورة عبر السيطرة أو التلاعب بمصائر منطقة ما يسمى بهلال أو قوس الأزمات (The Arc of Crisis). هذا المفهوم كان من أهمّ من طوّروه كمفهوم جغرافي ومحتوى سياسي وعقائدي هو زبيغنيو بريجنسكي.
الولايات المتحدة تشنّ حاليًا على الشرق الأوسط أقوى هجمة إستراتيجية مرتدّة لتعويض هزائمها
على النطاق الجغرافي حدّد بريجنسكي، وأيّده في ذلك منظّر أمريكي آخر هو هنري كيسنجر، قوس الأزمات بأنه (تلك المنطقة الشاسعة التي يوجد بقلبها العالم العربي وتمتد من أفغانستان وباكستان وإيران في آسيا وتشمل دول شمال أفريقيا العربية و مصر والجزيرة العربية خاصة السعودية حتى تصل إلي إثيوبيا). وفي بعض مراحل إدارة بوش الابن تمت الإشارة إلى مفهوم  قوس الأزمات باسم آخر هو "الشرق الأوسط الكبير" دون تغييرات جوهرية في السياق الجيو -سياسي.
يتّفق كثير من المحللين على أنّ الولايات المتحدة تشنّ حاليًا على الشرق الأوسط ما يمكن وصفه بأقوى هجمة إستراتيجية مرتدة لتعويض هزائمها المريرة أمام ما تسمّيه واشنطن محور (موسكو -بكين –طهران) الاستراتيجي المعادي لها. ويلحظون في الوقت الراهن مشهد الانقلاب الأمريكي والتدريجي ولكن الحازم عن استراتيجياتها الانسحابية السابقة فيما عُرف بـ"القيادة من الخلف وتقليص الوجود المباشر في المنطقة"، والتي أتبعتها بصور مختلفة في عهدَي أوباما وترامب ومرحلة أولى في عهد بايدن. 
وهي الاستراتيجية السابقة التي كانت عبّرت عن نفسها في الانسحاب العسكري من العراق ومن أفغانستان وتقليل الوجود العسكري الأمريكي المباشر في الأفراد والأسلحة في السنوات السابقة والتي تبعها حاليًا ندم مرير وصحوة في دولة الأمن القومي الأمريكية تمثّلت بوضوح في دعوة بايدن الشهيرة في زيارته للمنطقة العام الماضي "لن نغادر الشرق الأوسط ونترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا".
لكن ما هو الجديد في إحياء واشنطن الفعلي الآن لمفهوم قوس الأزمات، وما هي التبعات الخطيرة التي قد تعاني منها المنطقة في حال رأت واشنطن أنّ من مصلحتها إعادة تسخين بؤرة ملتهبة من عشرات البؤر الملتهبة في هذه المنطقة؟
دوافع العودة الأمريكية لمفهوم قوس الأزمات
في التفكير الأمريكي فإنّ هذه المنطقة الهشة المليئة بالصراعات العرقية والدينية والحدودية، وهي بشكل عام دول غير ديمقراطية وبنى الدولة فيها بنى تقليدية وغير حداثية، ولكن بسبب ثرواتها الهائلة خاصة النفط وموقعها الجيوسياسي المهيمن على أهم  طرق التجارة والملاحة والذي يجعلها  بحسب تعبيرات "ماكيندر" الشهيرة في قلب العالم، لا بدّ لأيّ قوة عظمى تريد الهيمنة على النظام الدولي السيطرة عليها.

""تمنّى مسؤولون أمريكيون أن تستمرّ الحرب العراقية الإيرانية لمائة عام" 
————————

وبنت الاستراتيجية الأمريكية مفهومها عن التعامل مع  القوس الواسع بمنطق "إدارة" الصراعات  فيها، فإذا كان في مصلحتها تسهيل اندلاع صراع عرقي/ ديني/ طائفي أو حدودي، عملت ما بوسعها لحدوث ذلك مهما كانت خسائره البشرية والمادية على الدول المنخرطة فيه أو لدول الإقليم المجاورة، المهم هو أن لا تفلت هذه النزاعات عن السيطرة وتصبح مدخلًا لهيمنة قوة دولية منافسة على قوس الأزمات بدلًا من واشنطن.
دافع كل الواقعيين في واشنطن عن حقّ المخطّط الأمريكي في التلاعب بهشاشة المنطقة والمساعدة في إخراج وتفجير أي لغم راقد فيها فرحبت أشدّ الترحيب بالحرب العراقية/ الإيرانية التي تمنّى مسؤولون أمريكيون علنًا أن تستمرّ لمائة عام، وبنوا فى إثرها خطة استراتيجية وهي تحويل مسار الصراع في المنطقة إلى صراع (سني/ شيعي) (فارسي/عربي) تنقل فيه واشنطن  العرب - بعد توقيع اتفاقيات سلام وتطبيع مع دولة الاحتلال - إلى تحالف عربي إسرائيلي في مواجهة إيران بقيادة واشنطن الاستراتيجية.
في هذه المرحلة غرقت منطقة القوس في عشرات الحروب التي غيّرت فيها أمريكا تحالفاتها كما تغيّر جواربها غير النظيفة، وتحالفت مع الجماعات الجهادية ضد السوفييت في أفغانستان وأطلقت عليهم "المقاتلون من أجل الحرية" وعندما انقلب السحر على الساحر وشنّوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر أصبحوا إرهابيين فشنّت ما يُسمى بالحرب الدولية على الإرهاب.
سيطرت هذه السردية الوهمية على المنطقة العقدين الأخيرين، ومعها تشظى العرب بين دول معتدلة ودول ممانعة، وأتت أكلها في تسييد هيمنة أمريكية/اسرائيلية إذ كانت وراء كل حروب الوكالة الإقليمية من سوريا إلى اليمن مرورًا بلبنان والعراق، إلى أن حدثت لحظة توافق استراتيجي بين دول المنطقة خاصة السعودية وإيران، وهنا نجح الصينيون هذا العام في عقد اتفاق تطبيع سعودي / إيراني لتهدئة المنطقة، بدا أنه سيقود إلى تبريد الصراعات المشتعلة وربما حلّها سلميًا.
تأكدت واشنطن من أنّ مشروع الحزام والطريق العملاق الذي يكاد يتطابق مع النطاق الجيوسياسي لقوس الأزمات ليس مجرد طريق تجارة واستثمار بل هو مشروع استراتيجي تهدف منه الصين لإزاحة أمريكا من عرشها الشرق أوسطي المستمر منذ ٨٠ سنة تقريبًا.
تأمل واشنطن عبر ثلاث استراتيجيات أن تنجح في هزيمة  الصين وتحطيم طموحها في تقاسم قيادة العالم
لكن أكثر ما دفع واشنطن لإحياء مفهوم قوس الأزمات وتحريك ما فيه من ألغام مدفونة ليس فقط انتقال المنطقة نحو التهدئة وتوجيه التطبيع السعودي الإيراني- إذا استمر- ضربة غير هينة لمنظمة النقب الإقليمية العربية / الإسرائيلية التي بنتها أمريكا كحجر أساس لتحالف عسكري  إقليمي موجّه ضد  طهران، ولكن، وهذا هو الأخطر، لأن استراتيجية الصين تتحدّى الاستراتيجية الأمريكية فتعمل وفق استراتيجية مضادة تمامًا، ألا وهي تهدئة التوترات الإقليمية والنزاعات العرقية والطائفية والحدودية التي من شأن إندلاع واحدة منها التأثير السلبي على مشروع الحزام والطريق  وعلي استثمارات الصين الخرافية فيه.
الحرب الأوكرانية كانت سببًا أساسيًا أيضًا في إزاحة الغلالة الأخلاقية الرقيقة التي استهلت إدارة بايدن عهدها بها، ألا وهي جعل الديمقراطية وحقوق الإنسان عنصرًا رئيسيًا في علاقاتها الدولية. عادت واشنطن بسرعة مخيفة إلى الدوافع الجيوسياسية أي إلى مصالحها المادية المباشرة في التعامل مع دول قوس الأزمات.
 الحرب الأوكرانية تحوّلت منذ اللحظة الأولى إلى معركة صفرية يصبح معها أيّ فوز لروسيا هو فوز لها وللصين وضربة للهيمنة الأمريكية، والعكس صحيح.
وكما كسبت واشنطن الحرب الباردة مع الغريم القديم الاتحاد السوفييتي بحرب أفغانستان على مشارف هذا القوس وأكملت ذلك لاحقًا بالقضاء على حصنين من حلفاء موسكو هما نظام صدام في العراق ونظام القذافي في ليبيا ، فإنها تأمل عبر ثلاث استراتيجيات أن تنجح في هزيمة  الصين الغريم العالمي الجديد وتحطيم طموحها في تقاسم قيادة العالم.