Menu

في مفهوم البيئة الحاضنة للمقاومة

وسام رفيدي

خبر صادم بلا شك انتحار الشاب محمد النجار من خانيونس، فيما الانتحار، وكل انتحار، يحفز العقل للتفكير في الظروف المؤدية لهكذا سلوك. ورغم أن الانتحار، قدر ما أعلم، ما زال ظاهرة فردية لا عامة، بالمفهوم السوسيولوجي للظاهرة، إلا أن تزامن ذلك السلوك مع ظواهر أخرى اجتماعية وسياسية، من نوع تزايد معدلات الفقر، وقمع الحريات، وتفشي الفساد الإداري في أجهزة الحكم، والإقصاء والتفرد، كلها وغيرها تجعل من السلوك الفردي نتاج لما هو أعم، وهذا (الأعم) إن جاز التعبير هو البنية الاجتماعية والسياسية الأشمل، عملاً بالمقولة الفلسفية في علاقة الجزء بالكل.

لست من المتحمسين لتلك الدراسات والبرامج والنتائج التي تعلنها وتشرف عليها منظمات غير حكومية أو حتى جهات رسمية معلنة عن أرقام حالات المرض والإشكاليات النفسية في الضفة الغربية وقطاع غزة من نوع أن 50% مصابون بمرض الإكتئاب بواقع 71% في القطاع و40% في الضفة!!! (حسب جهاز الإحصاء المركزي في مسح الظروف النفسية للعام 2023 والممول من البنك الدولي) فهي بالإجمال، لاعتبارات التمويل الغربي، تتبنى معايير في التصنيف والتحديد ليست بالضرورة صالحة للبيئة المحلية، خاصة أن تلك المعايير ترتبط بمحددات وعلاقات وأبعاد اجتماعية تفرض نفسها وتعطيها خصوصيتها المحلية، فما يخلق حالات التوتر مثلاً لدى مراهق وفق معايير أوروبية وأمريكية ليست بالضرورة ذاتها في الحالة الفلسطينية، وقس على ذلك. وبالعموم فظاهرة استجلاب التمويل لبرامج لا تتناسب والاحتياجات الوطنية، تحت مسميات ترضي الممول، ظاهرة معروفة.

وطالما أن الحديث عن البنية الاجتماعية والسياسية التي تؤثر في السلوك الفردي وتتأثر به عبر تفاعل جدلي، يغدو نقاش طبيعة البنية الحاضنة للمقاومة نقاشاً ليس مشروعاً فحسب، بل وواجباً بهدف تدعيم تلك الحاضنة لدعم المقاومة.

بداية ينبغي تثبيت أن المقاومة ليست حصراً تلك المقاومة السياسية سواء أكانت عنفية كالمقاومة المسلحة أو جماهيرية كالمسيرات والتحشدات والاعتصام، أو كل أشكال الاحتجاج وتكتيل القوى ضد العدو. إن المقاومة أيضاً وبمفهومها الشمولي تعني إعادة بناء كل البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كبنية مقاومة، لا كبنية تابعة، كما الحال الآن، ففي الاقتصاد، والتعليم والزراعة والصناعات الحرفية والترويج للسياحة والثقافة ومجموع المفاهيم والقيم، كلها تغدو جزءاً من مشروع المقاومة إذا اِنبت وتحددت معالمها وأهدافها على هذا الأساس.

عندما تنطرح في قطاع غزة مشكلات معيشية غاية في الحدة، ومستويات عالية من الفقر، ومحدودية في الدخل، وقمع للحريات، وخلق أجواء من الإقصائية والتفرد واحتكار القرار في الحقل السياسي المهيمن، وترويج لثقافة غيبية مغرقة في الرجعية، والتعويل على حقيبة العمادي بديلاً لتطوير قدرات ذاتية في الإنتاج، وتعطيل الانتخابات البلدية والطلابية في الجامعات، فكل ذلك وغيره يتحدد كمظاهر معيقة، وبالتالي لن يخلق بيئة حاضنة للمقاومة.

المقاومة يجب أن تستند لظهر قوي يحميها ويرفدها ويحتضنها، وعند خلق تلك الحاضنة عبر إنهاء كل المظاهر المعيقة في البنية الاجتماعية والسياسية، يمكن دونما تردد مطالبة الجماهير بتقديم التضحيات والصمود ورفد المقاومة بكل ما يحتاجه فعلها، أما عدم إنهاء تلك المظاهر المعيقة واختلاق المبررات لذلك عبر تعليق كل شيء على شماعة الاحتلال والحصار، علماً أن ليس كل شيء يتحمله الاحتلال، فذلك يعني شيء واحد لا غير: لا نية، مقصودة أم لا فرق، بخلق حاضنة حقيقية للمقاومة، إما لأن هذا الخلق سيعني بالضرورة قصقصة أجنحة ومراكز نفوذ وثقل وسحب امتيازات، وإما لأن الانحياز للمقاومة كبرنامج يجب أن يوضع موضع التساؤل، وفي الحالتين نحن أمام كارثة وطنية.

وبالملموس فحماس كسلطة مهيمنة في القطاع عليها تقع مسؤولية خلق تلك البيئة الحاضنة، أما إن جرى تحميل المسؤولية للجميع، وهي صيغة مشهورة في العلاقات السياسية والوطنية، وعادة ما تعني هروب المسؤول من مسؤوليته، فلا بأس، ولكن المطالبة بمسؤولية الجميع يعني إشراك الجميع في القرار، ومنح الجميع الصلاحيات المناسبة لاتخاذ القرار، إذ لا مسؤولية دون صلاحيات، ولكن طالما القرار حمساوي بامتياز، فالمسؤولية عن الإخفاق في إيجاد بيئة حاضنة، مسؤولية حمساوية بامتياز أيضاً.

ويجب هنا الاستدراك أن كل ما قيل أعلاه لا يعني عدم توفر الحاضنة، وهذا تأكد في أكثر من معركة صمود وتحدي عاشها القطاع، فالجماهير تعض على نواجذها وهي تعاني، ولكنها لا تتخلى عن المقاومة وتلك عظمة شعبنا؛ تجوع وتُقمع أحياناً، وترى الفساد بأم عينيها، وتفترش الأرض وتلتحف السماء بانتظار الإعمار، وتشقى لتجد ما يسد رمقها، ومع كل ذلك تحتضمن المقاومة، ومع ذلك فلا يراهن أحد على ذلك نهائياً، فاستمرار المظاهر المعيقة سيؤدي في لحظة ما لضعف تلك الحاضنة، وخاصة حينما تبدأ الجماهير بطرح الأسئلة الحارقة.