في الوقت الذي تعرفُ حركة التضامن مع فلسطين في الساحة الأوروبيّة صعودًا وحضورًا متزايدًا يقلقُ أوساط اللوبي الصهيوني، وتجسّد هذا الصعود في الوصول لنتائجَ إيجابيّةٍ في تصويت العديد من المدن الأوروبيّة، مثل برشلونة في أسبانيا، وأوسلو في النروبج، ووارسو في بولندا، ولياج وفيرفيه في بلجيكا، على قراراتٍ تمنع التعامل مع سلطة الاحتلال، طالما هي تتبنى سياسات تمييزٍ وفصلٍ عنصري؛ أي تطبيقها لنظام أبارتهايد بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني، نجدُ في المقابل حراكًا متزايدًا؛ يهدف لتجريم حركة التضامن، وإلصاق التهم للنشاط بغير السامية والتهديد لاحقًا بملاحقتهم أمام المحاكم.
تعملُ أوساط اللوبي الصهيونيّ باستخدام سلاح الترهيب والتخويف بحقّ النشطاء، وبحقّ جمعيّات والتهديد بملاحقتهم أمام المحاكم، وهذا ما حصل في العديد من دول أوروبا، مثل فرنسا وألمانيا مع معرفتهم المسبقة أنّهم أمام معركةٍ خاسرة، وهذا ما جرى لمن تمّت ملاحقتهم، سواءً أفراد، وأحيانًا كانوا نشطاء يهود متضامنين مع الحقّ الفلسطينيّ في النضال.
تعملُ أوساط اللوبي الصهيوني الداعم لكيان الاحتلال على مستويات عدّة، ويمكن تلخيصها بالآتي:
المستوى الأوّل يكمنُ بتوسيع تعريف مصطلح "اللاسامية" ليشمل المبادرات المندّدة بالاحتلال وممارساته الاحتلاليّة اليوميّة من اعتقالاتٍ وتوسيعٍ متدرّجٍ للاستيطان، وتبنّي قوانينَ تمييزيّةٍ وعنصريّةٍ بحقّ الفلسطينيين، وتدمير البيوت وممارسات الاغتيالات اليوميّة بحقّ جيل الشباب الفلسطيني؛ يعتمدُ اللوبي الصهيوني، وكلّ الأوساط المتواطئة معه على تبنّي تعريفٍ جديدٍ برز في الولايات المتّحدة، ويقف خلفه مؤسّسة صهيونيّة بارزة هناك اسمها IHRA أي التحالف العالمي لذاكرة الهولوكوست، الذي تتبنّى تعريفًا واسعًا لغير الساميّة، وهو تعريفٌ يضيفُ للتعريف التقليدي والتاريخي؛ أي إنّ غير السامية هي الممارسات المعادية والمناهضة لليهود؛ التعريف الجديد يعدّ انتقاد إسرائيل ومقاطعتها والتشكيك بوجودها هي مواقف غير سامية يجب ملاحقة القائمين عليها وإدانتهم أمام الجهات المختصة.
كذلك تم اعتماد وسائل التخويف وترهيب النشطاء وتخويف الجمعيات المساندة والناشطة، واستخدام تهمة "اللاسامية" وإلصاقها بهم، حتى إنّ حالات قضايا رفعتها أوساطٌ صهيونيّةٌ في فرنسا كان ضدّ نشطاء يهود معادين للصهيونيّة، هناك جهدٌ كبيرٌ يبذل للخلط ما بين غير السامية ومعاداة الصهيونية، وهذا نراه عند الكثير من الأوساط السياسية الرسمية.
بعد خروج هذا التعريف الجديد لمفهوم "اللاسامية" مورست الكثير من الضغوط هنا وهناك، وأسفرت على تبنيه عبر البرلمان الأوروبي في تصويتٍ قرارًا غير ملزم، ووافقت عليه أيضًا 20 دولة، منها 16 دولة أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
سأتطرّق لثلاثة حالاتٍ ترتبطُ بما يجري في كلٍّ من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وهي الدول الأكثر سكانًا في أوروبا كما هو معروف.
في ألمانيا، وهي صاحبة الماضي النازي الأليم، ومنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وهزيمتها فيها تجرّ ألمانيا ماضيها النازي، وتدفع ثمن ذلك لصالح إسرائيل، فقد دفعت ألمانيا منذ عام 1945 حتى عام 1981 ما قيمته 86،8 مليار دولار تعويضاتٍ لما لحق باليهود خلال فترة الحكم النازي في ألمانيا، كذلك وقفت إلى جانب إسرائيل ماليًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، وصوّتت دائمًا لصالحها في مختلف المحافل والمؤسّسات الدوليّة.
بتاريخ 17/5/2019 تم تبني قرار فدرالي ألماني غير ملزم يدين حركة المقاطعة لإسرائيل، وفي القرار نفسه تمّت المقارنة بين ما تقوم به حركة المقاطعة (بي. د. س) تجاه إسرائيل، وما كان يقوم به النظام النازي تجاه اليهود، وفي القرار نفسه تمَّ التأكيد على إدانة كلّ المواقف التي تشكّك بوجود إسرائيل، وكذلك حقّها في الدفاع عن نفسها، وقد صوت لصالح هذا القرار الفدرالي كلٌّ من الأحزاب الرئيسيّة الثلاثة.
بعد تبنّي هذا القرار الفدرالي بوقتٍ قصيرٍ قدّم مدير المتحف اليهودي في برلين استقالته نتيجةَ الضغوط التي مورست عليه من قيادات الجالية اليهوديّة الألمانيّة؛ والسبب أنّه نشر على موقع المتحف نصّ العريضة التي وقّعها 240 مثقّفًا وباحثًا وأكاديميًّا وفنانًا يهوديًّا من ألمانيا ومن إسرائيل اعترضوا فيها اعتبار ألمانيا حركة المقاطعة (بي. د. س) حركة غير سامية ومعادية لليهود.
يضاف لذلك أنه في تاريخ 20/5/2023 وافقت محكمة برلين الإدارية على قرار البوليس الألماني بمنع مظاهرةٍ أُعلن عنها بمناسبة ذكرى النكبة الفلسطينيّة، وهنا لا بدَّ من الإشارة بوجود جاليةٍ فلسطينيّةٍ مهمّةٍ تعيش في العاصمة الألمانيّة برلين، وقد اعتادت هذه الجالية على تنظيم المسيرات والوقفات بمختلف المناسبات الوطنيّة الفلسطينيّة، وهناك محاولاتٌ مستمرّةٌ من جهاتٍ رسميّةٍ ألمانيّة تسعى لوضع العراقيل أمام أي طلباتٍ تقدّم لها، كما جرى أيضًا منع العديد من الندوات والمحاضرات التي دعا لها مثقّفون داعمون لحركة المقاطعة ومنهم شخصيّات يهوديّة.
الحالة البريطانيّة، لقد تم منذ فترة قصيرة تبني قرار حكومي بريطاني ضد حركة المقاطعة لإسرائيل، وقد صدر هذا القرار الرسمي والحكومي على لسان السيد ميشيل قوف، وهو وزير دولةٍ في حكومة المحافظين التي يترأّسها ريشي سوناك، وفي تصريحٍ للوزير المعني قال فيه ما يلي: حركة المقاطعة (بي. د. س) هي حركةٌ ضدّ إسرائيل، ولها هدفٌ واحدٌ وهو المس بشرعية إسرائيل باعتبارها دولة، وخاصة دولةً يهوديّة.
صدر هذا القرار المعادي، الذي يجرم حركة المقاطعة بتاريخ 3/7/2023 وقد صوّت عليه 268 نائبًا وعارضه 70 نائبًا وامتنع عن التصويت نواب حزب العمال ومعهم 82 من النواب المحافظين.
أخيرًا الحالة الفرنسيّة، عرفت فرنسا قبل غيرها من البلدان الأوروبيّة تشريعاتٍ تجرّم حركة المقاطعة لإسرائيل، فقد صدر مرسوم بتاريخ 12/2/2010 من وزيرة العدل آنذاك أليدة آليو ماري، الذي يطالب من الجهات القانونية؛ أي من المدعين العامين للجمهوريّة في مختلف المحافظات الفرنسيّة بملاحقة القائمين على مبادراتٍ تدعو وتطالب بمقاطعة البضائع الإسرائيليّة، وفعلًا قام بعض المدعين العامين برفع دعاوي بحقّ نشطاء في حركة (بي. د. س) حتى إنّ أحد الضحايا من نشطاء المقاطعة تقدّم بدعوى ضدّ فرنسا أمام المحكمة العليا لحقوق الإنسان الأوروبيّة، التي مقرّها لكسمبورغ، وكان قرار هذه المحكمة إدانة الحكومة الفرنسيّة على مرسومها الصادر في 2010.
ولمواجهة قرار المحكمة الأوربيّة، أصدر وزير العدل الجديد في فرنسا السيد إريك دوبوة موريتي مرسومًا جديدًا يجرّم أي دعوةٍ لمقاطعة البضائع الإسرائيليّة، وهذا المرسوم يشرعن الحقّ بملاحقة نشطاء حركة المقاطعة (بي. د. س) في الساحة الفرنسيّة. وقد تمَّ التصويت في البرلمان الفرنسي على مشروعٍ يضيف تعريف التحالف العالمي لذاكرة الهولوكوست للتعريف المتداول لمعاداة السامية أي تعريف غير السامية، وحاز هذا التصويت على 154 مع و72 ضد و43 ممتنع.
ونتيجةً لعمل أوساط اللوبي الصهيوني في فرنسا وهي ناشطةٌ ومؤثّرةٌ في الأوساط السياسيّة والحزبيّة، صرّح ماكرون بتاريخ 24/2/2022 أنّه يدعم أن تكون القدس عاصمة الشعب اليهودي الأبديّة.
بعد صدور آخر مرسوم في فرنسا، الذي يندد بحركة المقاطعة، بدأنا نلحظ اتخاذ قراراتٍ إداريّةٍ في مدنٍ فرنسيّةٍ مختلفةٍ تمنع تنظيم ندواتٍ ومحاضراتٍ يشارك فيها محاضرون معادون للصهيونيّة، وهذا ما جرى مع المعتقل المبعد لفرنسا صلاح حموري، الذي ألغيت بعض الفعاليات التي كان من المقرّر مشاركته بها، حتى إنّ القائمين على إحدى هذه المحاضرات، وكانت بمدينة ليون الفرنسيّة، لجأ للمحكمة الإدارية بمدينة ليون لإلغاء قرار رئيس البلدية منع المحاضرة واستطاعوا الحصول على حكمٍ قضائيٍّ منها يسمح بتنظيم هذه المحاضرة.
ما من شكٍّ أنّنا أمامَ معركةٍ مركّبة، وفيها تباينٌ بين مختلف الدول في الساحة الأوروبيّة وهي معركةٌ فيها الجانب السياسي والقانوني، وكذلك الجانب التشريعي أي العمل والنضال البرلماني. إنّ حركة التضامن الأوروبيّة تمتلك الكثير من أوراق القوّة وعليها تفعيلها للوقوف أمام هجمة تجريمها، وآخر هذه الأوراق المهمّة أنّ عدوّنا يتخبّطُ ويعيشُ مأزقًا وجوديًّا على صعيده الداخلي في وقتٍ لا تلعبُ التحوّلات الدوليّة لصالح القوى العالميّة التي مثّلت حاضنته الأساسيّة.