Menu

حوارد. رباب عبد الهادي "للهدف": تجارب التحرر الوطني حول العالم تشير إلى أنّ الشعوب المحتلة لا تنتصر وحدها بل تحتاج إلى دعم شعوب العالم الحرّة جميعها

حاورها: د. وسام الفقعاوي

د. رباب عبد الهادي، هي مُؤسسة ومديرة البرنامج الأكاديمي لدراسات الجاليات العربيّة والمسلمة في المهجر وأستاذة الدراسات الإثنية في جامعة سان فرانسيسكو والمشروع الأممي لأبحاث التأريخ الشفوي والفكري "تدريس فلسطين: الممارسة التربوية وشمولية العدالة".

* في ضوء حالة التشابه القائمة بين الولايات المتّحدة التي قامت استعمارًا استيطانيًّا إحلاليًّا عنصريًّا ضدَّ أهل البلاد الأصلانيين ودولة العدوّ الصهيوني التي قامت على الطريقة ذاتها، والهدف والتحالف العضوي القائم بينهما، وبحكم اهتمامك في دراسة الاستعمار: هل تعتقدين أن النضال ضد الاستعمار الأمريكي الإمبريالي إجمالًا يجب أن يقوم على رؤيةٍ واحدةٍ لكليهما؟

** باعتقادي الإجابة تحمل النعم واللّا، لماذا نعم؛ لأنّ الولايات المتحدة "لإسرائيل" والمشروع الصهيوني في فلسطين قامتا على أسس الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الإبادي العنصري، وهناك من يدعي أنّ الحركة الصهيونيّة لم تكن تنوي إبادة الشعب الفلسطيني برمّته، لكنّ مجموعةً كبيرةً من الدراسات تؤكّد عكس ذلك.

كثيرٌ من قبائل أهل البلاد الأصلانيين أبيدت بشكلٍ كامل، ومسحت من الوجود كما في فلسطين، هناك أكثر من 530 قريةً لم تعد موجودة؛ لأنّ الاستعمار يقوم على المسح، وإلغاء وجود اهل البلاد الأصلانيين، ومثلما تدعي الصهيونيّة أنّ إسرائيل هي "أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض" طبعًا السؤال النظري والسياسي "هل يشكل اليهود قوميّة أم لا؟" ما زال يخضع لنقاشٍ وجدلٍ مستمرّين.

هناك سماتُ تشابهٍ كثيرة تبرّر تصنيفنا للولايات المتّحدة باعتبارها دولةً استيطانيّةً عنصريّةً و"إسرائيل"، فهناك مجموعة من المفكرين الليبراليين الأمريكان الذين يؤمنون أنه بالإمكان تصحيح مسار أمريكا، وأن المشكلة هي قضية انحرافٍ عن المسار، وهذا أيضًا ما تستند له ما يسمى بالمعارضة الإسرائيليّة بأن هناك إمكانية لاستعادة الأسس "المثالية" ومبادئ المساواة التي قامت عليها "إسرائيل"، وهنا يطرح نفسه السؤال "ماذا كنتم سابقًا ومن بداية تأسيس الدولة الصهيونية والاستعمارية الأمريكية؟" وأيضًا عندما نقارن وثيقتي "الاستقلال" ، فإنّهما تقومان نظريًّا وأيديولوجيًّا وسياسيًّا على منظور أنّه لا وجود لأي شعوب قبلهم لتبرير ما يطلقون عليه حقّهم في البلاد على أسس "حضاريّة "أو دينية وكأنهم يوزعون الأخلاق على البشر، ولكن كلها تنطلق من اعتبار شعب أفضل من غيره، وهذا أساسٌ بنيويٌّ للعنصرية البنيوية في البلدين

في اعتقادي أنّ التشابه بين الشقّين كبير على الرغم من اختلاف تواريخ مجيء الطرفين، والوسائل التي تمّ استخدامها، كذلك الطرفين استخدما القضية الدينية، وكثير من الناس الذين أسسوا أمريكا كانوا هاربين من الظلم الديني في أوروبا، وبالنسبة للمشروع الصهيوني قام من قبل يهود هاربين من العداء للسامية واليهود في أوروبا، وكلاهما يدعيان أن الشعبين الفلسطيني والأصلاني لا يستحقّان الأرض التي تمَّ استعمارها والاستيطان بها.

* بخصوص نشأة الولايات المتّحدة الأمريكيّة على حساب السكان الأصلانيين، عملت "الذاكرة الاستعماريّة" الأمريكيّة على الاحتفاظ بأجزاء من قتلاهم وممارسة الإبادة الجماعيّة وتعزيز ثقافة القتل بين "مجتمع" المستعمِرين، على المقلب الآخر، كيف ترين ترسخ هذه "الذاكرة" في الفكر والممارسة الصهيونيّة؟

** كلا المنظومتين الاستعماريّة تمارس مخطّطًا ممنهجًا يستند إلى فرض النسيان الجماعي عن سابق الإصرار، ومن أسسها إجبار السكان الأصلانيين على نسيان تاريخهم، وأغلبيه الدراسات والمناهج الأكاديمية تدعي أن تاريخ الشعوب المستعمَرة لم يكن موجودًا، ومن جانب آخر، فإنّنا نعلم عبر الدراسات المقارنة للاستعمار في مناطق مختلفة بأنّ المستعمَر يوثّق المذابح والقتل الجماعي الإبادي، فإنّ تاريخ المعارك يوثّق أن الجنود والمستوطنين الأمريكيين كانوا يخلعون جلدة رأس المناضلين ويحتفظون بجماجمهم وهذا أيضًا ما مارسه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وتجدر الإشارة أن فرنسا قامت في شهر نوفمبر 2022 بتسليم 24 جمجمة فقط من جماجم المجاهدين في حرب التحرير الشعبيّة في الستينيات من القرن الماضي، التي كانت فرنسا تعرضها في "متحف الإنسان" في باريس، وكذلك الحال في جنوب إفريقيا، فإن ما حصل مع سارا بارتون التي عرضت أعضائها التناسلية في المتاحف الأوروبية مثال صارخ على غياب كل ممارسة إنسانية، والدونية تجاه أهل البلاد الأصلانيين.

الصهاينة أيضًا يقومون بهذه الممارسات الممنهجة، حيث يحتجزون جثث الشهداء ورفاتهم في مقابر جماعيّة، بعضها يطلقون عليه "مقابر الأرقام" والبعض الآخر في ثلاجات مستشفيات التشريح، مثل مستشفى أبو كبير وغيره، وهذا كله يتم بإشراف الحكومة والمؤسسة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، ويعود احتجاز رفات بعض الشهداء مثلًا منذ ما يزيد عن 40 عامًا كدلال المغربي، حيث يرفضون تسليم عظامها لأهلها حتى توفت أمها من القهر، وتم دفنها في القبر الذي حفر لها في مقبرة شهداء المقاومة في شاتيلا في بيروت. ومن الضروري التنبيه بأن هذه الممارسات ليست عفويةً ولا استثنائيةً، وإنّما هي جزءٌ لا يتجزّأ من الاستراتيجيّة الصهيونيّة الاستعماريّة الممنهجة، التي تهدفُ إرهاب الشعب الفلسطيني وفرض العقوبات الجماعيّة عليه لثنيه عن المقاومة، فلا يكتفون بالقتل والاعتقال وهدم البيوت، وإنّما أيضًا يعتقلون جثامين الشهداء حتى بعد إعدامهم.

* نضالك في الولايات المتحدة لم يقتصر على القضية الفلسطينية التي تنحدرين منها، بل تناضلين إلى جانب السكان الأصلانيين والأفارقة والآسيويين واللاتينيين وغيرهم... هل تبحثين هنا عن العدالة الشاملة المفقودة في مجتمع البيض؟ أم إن النضال على هذه الجبهة جزءٌ من المعركة التحرّريّة الفلسطينية؟ أم الاثنان معًا؟

** الاثنان معًا بالتأكيد، لأنّني استلهم أفكار المقاومة الفلسطينية التي تعمقت في الستينات من القرن الماضي، وعززت مفهوم الأممية والنضال المشترك، وهذا من أهمّ العوامل التي جذبتني لفكر المقاومة الفلسطينيّة الذي يركز على تضامن الشعوب وتكاملها مع بعضها البعض كما يتضح من أدبيّات المقاومة التي عرفتنا بالنضال الفيتنامي والكوبي والجزائري، وهذا ما أسميه "بشمولية العدالة"، فكيف نجزّئ العدالة ونطالب بالعدالة فقط لفلسطين عزله عن الشعوب الأخرى.

وعبر انخراطي بالعمل الوطني الفلسطيني وحركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في الولايات المتّحدة تعمّق وعيي عن نضالات الشعوب الأخرى ضدّ الاستعمار الاستيطاني العنصري الإحلالي الأمريكي، الذي لم يقم على إبادة أهل البلاد الأصلانيين فحسب، بل قام على خطف واستعباد الأفارقة من بلادهم واستعمار بورتوريكو ومنع العمال الصينيين الذين بنوا سكك الحديد من استحضار عائلاتهم، ومارس الاضطهاد وعقاب كل من يعترض ويقاوم السياسة الأمريكية، كإبعاد مجموعةٍ كبيرةٍ من الشيوعيين والفوضويين في العشرينات والثلاثينات وبناء معسكرات الاعتقال اليابانيين خلال الحرب العالميّة الثانية، واتّهامهم بالعداء كونهم يابانيين فقط، وفي الخمسينات تصاعدت الهجمات المكارثيّة (نسبة إلى السيناتور جون مكارثي اليميني العنصري) لملاحقة آلاف الأمريكيين واضطهدتهم بسبب أفكارهم، وفي الستينات أنشأ مركز التحقيقات الفيدرالي FBI برنامجًا استخباريًّا سريًّا لقمع الحركات التحرّريّة كحزب الفهود السود، وأهل البلاد الأصلانيين وحركات التحرر البورتريكية والمكسيكية والآسيوية وقد اغتال عملاء الـ FBI عشرات المناضلين تمامًا كما اغتالت الاستخبارات الإسرائيليّة (الموساد) القيادات الفلسطينية ومن بينهم الشهداء غسان كنفاني وماجد أبو شرار وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار ووائل زعيتر، وذلك للقضاء على الكفاءات الفكرية والكوادر المتقدمة التي يتطلب إنتاجها جهودًا وإمكانات هائلة، وبهذا فهذه الاستراتيجية الاستعمارية الأمريكية التي لا تختلف عن الاستراتيجية الصهيونية تهدف إلى سلب الشعب من قياداته لعرقلة نضاله.

إضافة إلى هذا التاريخ الأمريكي والقمعين، فهناك عاملٌ آخر مهمّ للغاية وهو دور الأيديولوجية العنصرية التي تدعي التفوق العنصري لأصحاب ذوي البشرة البيضاء على البشر الآخرين كافة، وتستخدم هذه الإيديولوجية التي يجب أخذها محمل الجد – رغم ظهورها غوغائيةً أحيانًا – لتعبئة صفوف البيض وتنظيمهم، والتطبيق الفعلي لسيادة البيضاوية على أرض الواقع واضطهاد غالبية البشر في العالم. والبيضاويّة أيديولوجيّة تتشابه في مضمونها مع أيديولوجية الفصل العنصري أو الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وكذلك النازية القديمة والجديدة في ألمانيا وأوروبا والولايات المتحدة التي ادّعت تفوّق ما أسمته بالجنس الآري والصهيونية (العنصرية اليهودية) التي تعتقد أن اليهود يتفوّقون على الفلسطينيين، ما يبرّر قتلهم وإبادتهم لا تختلف في مضمونها عن هذه الأيديولوجيات والتيارات العنصرية والفاشية.

وبناءً على هذه العوامل وغيرها فلا يمكن عزل النضال الفلسطيني عن نضالات الشعوب الأخرى بل علينا التحالف والتضامن معها أينما كانت تقاوم وتقارع الاستعمار والإمبريالية في عقرها وفي مناطق نفوذها. إنّ استعراضًا سريعًا للوثائق التاريخيّة في الأرشيف الرسمي الأمريكي وعبر شهادات التاريخ الشفوي أو ما نسميه بالأرشيف الحي نجد أنّ حزب الفهود السود في الستينات كان يتواصل مع حركة المقاومة الفلسطينيّة كونه جزءًا لا يتجزّأ من حركات التحرّر الوطنيّة ضدّ الاستعمار، فغالبيّة الفئات والتيّارات الأيديولوجيّة والسياسيّة ما بين السود في الولايات المتّحدة تؤيّد نضال الشعب الفلسطيني، وتقف بجانبه ضد الصهيونية وعنصريتها وتدل الوثائق غير المعروفة والتاريخ الشفوي الذي نكتشفه يومًا بعد يومٍ أنّ الآباء الروحيين لـحزب الفهود السود والحركات الراديكاليّة السوداء لم يساوموا مع الحركة الصهيونيّة منذ أربعينات القرن الماضي رغم ضغوطات المؤسّسات الصهيونيّة، وكانوا على اتّصالٍ مع المقاومة الفلسطينيّة التي تشهد عليها زيارة الشهيد مالكوم إكس إلى غزة، والحلقات الدراسيّة التي كان يقودها فلسطينيون ناشطون بناء على طلبٍ من القوى السوداء منذ 1948، والعلاقات الرفاقيّة التي ربطت الفهود السود مع المقاومة الفلسطينيّة في معسكرات التدريب في الجزائر.

وأودّ هنا أن ألفت نظر قرّاء الهدف إلى أهمّ الوثائق التي قمنا بتسليط الضوء عليها خلال ثلاث أعوام (من 2019 وحتى 2021) عبر 5 حلقات نقاش دراسية تثقيفية وتوعوية بعنوان "سلسلة تدريس فلسطين" في صفوفنا الرقمية المفتوحة التي نظمناها لمواجهة جائحة الكورونا، وركزنا فيها على إحياء الذكرى الخمسين لنشر البيان المهمّ الذي صاغه وحرّره ونشره ووقّع عليه مجموعة من الشخصيّات السوداء المعروفة بمصداقيتها وتمثيلها لمواقع حيويّة في الحركة الثقافيّة والنقابيّة والأكاديميّة ومنظّمات الحركات الشعبيّة. وأهميّة هذا البيان لا تقتصر على نجاحِ هذه المجموعة في نشره في صحيفة النيويورك تايمز المعروفة بـانحيازها لإسرائيل والصهيونية، بل ربّما الأهم من ذلك توقيت البيان ووضوح البيان السياسي والأيديولوجي ودقة المعلومات والعمق الفكري أبحاث التي تضمنها. فقد صدر في الأول من نوفمبر عام 1970 ردًّا على مجازر أيلول الأسود وتحديًا لمحاولة التيار الليبرالي في أوساط حركة الحقوق المدنية السوداء الادعاء بوجود إجماعٍ موالٍ لإسرائيل بين غالبية السود الأمريكان، عدا عن وضوح البيان السياسي والأيديولوجي ودقة المعلومات وعمق الأبحاث. فالبيان المتضامن مع الشعب الفلسطيني وبشاعة مجازر أيلول يؤكّد أيضًا التضامن مع نضالات الشعوب في فيتنام وكوبا وأنجولا وجنوب إفريقيا، ويعرض تحليلًا متكاملًا للصهيونيّة، ويوضّح الفرق ما بين الصهيونية والعنصرية ضدّ اليهود، ويؤكّد على مجابهة الإمبرياليّة.

* بكونك باحثة متخصّصة في دراسات القوميّة والشتات العربيّة والإسلاميّة، وفي ظلّ انتشار "الإسلاموفوبيّا" في أوساط واسعة من الأمريكيين، هل تعتقدين أن الأمر يحمل مخاطر جدية على المجتمع الأمريكي؟ أم المسألة جزء من استمرار وصم العربي والإسلامي "بالإرهاب" ومن ثَمَّ صناعة الخوف الدائم؟

** باعتقادي أنّ الإسلاموفوبيا هي قضيّةٌ عقائديّةٌ وبنيويّةٌ في المجتمع الأمريكي الذي يعكس الفكر السائد والمهيمن ويتضمن ذلك ما يسمى بالتقليد اليهودي المسيحيJudeo Christian tradition الذي حل مكان التقليد المسيحي التاريخي الذي اعتنقه مؤسسي أميركا. ورغم عداء الفكر الأمريكي السائد التاريخي لليهود فلا شك إن تعاظم قوة الحركة الصهيونية منذ تأسيس "إسرائيل" عام 1948 أثر بشكل عضوي على تغيير الفكر الأمريكي المهيمن بسبب تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وشراكتها ومركزيتها في ضرب حركات التحرر الوطني في الوطن العربي وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينيّة وتدريب وتسليح الأنظمة القمعية الفاشية، أحدث مثال على ذلك فضيحة التجسس على هواتف نشطاء حقوق الإنسان في المكسيك وبقية أنحاء العالم.

هناك اعتقادٌ شائعٌ حتّى في الأوساط الجاليوية الأكاديمية العربية والمسلمة بأن الإسلاموفوبيا ظهرت بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وحتى الدراسات التي راجعت هذه المقولة ما زالت تربط الإسلاموفوبيا بـ 2001. باعتقادي أن هذا لا يتعارض مع التاريخ فحسب، إنما يحمل المسلمين مسؤولية العداء ضدهم ومسؤولية هجمات 2001 أيضًا.

كل مظاهر العنصريّة، ومن ضمنها الإسلاموفوبيا ليست ظاهرةً عرضيّةً، إنّما هي جزأ لا يتجزأ من بنية الولايات المتحدة ونشأتها وتركيبها كيانًا استيطانيًّا استعماريًّا عنصريًّا البنية الاستعمارية في الأمريكيتين منذ عام 1492، حينما قام الملوك الكاثوليك الإسبان فرديناند وإيزابيلا باضطهاد المسلمين تمامًا كما اضطهدوا اليهود والملاحقات الممنهجة والتعذيب والمجازر الجماعية وطرد وإبعاد المواطنين من أراضيهم، وللأسف إنّ جزءًا من هذه الرواية المرتبط باضطهاد المسلمين كالحروب الصليبية التي استهدفت إنشاء استعمار استيطاني عنصري في فلسطين و القدس كان مفقودًا، حيث اقتصرت روايات التاريخ الشائع التقليدي على الفظائع التي عانى منها اليهود بينما لم يتم التطرق للعداء للمسلمين علمًا أنّها مرتبطةٌ بجذور الإسلاموفوبيا. فقد كان الحكم الكاستيلي مثلًا يختبر مدى اعتناق المسلمين واليهود بإجبارهم على تناول الخنزير أو الخمر. ويهمني هنا أن أشير إلى أن تعذيب المسلمين واليهود وملاحقتهما تتناقض تمامًا والروحَ والتسامح التي دعا لها المسيح، لكنّها خدمت مصالح العرش الإسباني في تنافسها مع إنجلترا في تراكم ثرواته عبر الاستعمار ونهب ثروات العالم. وقد بدأت مؤخّرًا مجموعاتٍ أكاديميّةً على جانبي المحيط الأطلسي بمراجعة التاريخ ورفض ممارسة النسيان الجماعي للتاريخ الاستعماري الإسباني واضطهاده للمسلمين واليهود وحرب الإبادة التي شنّها ضدّ أهل البلاد الأصلانيين في الأمريكيتين.

إضافةً إلى هذه الجذور التاريخيّة، فإنّ الإسلاموفوبيا في الولايات المتّحدة تخدمُ المصالح الإمبرياليّة الأمريكيّة المعاصرة. فقد ارتبط تصعيدها بحاجة صناع السياسة استبدال الشيوعيّة بعد سقوط المنظومة الاشتراكيّة بالإسلام، وخصوصًا بعد الإطاحة بنظام الشاه عام 1979، وخسارة الإمبريالية لقاعدةٍ استراتيجيّةٍ متقدّمةٍ أدّت بالتعاون مع إسرائيل دورًا مركزيًّا في ضرب الثورات وحركات التحرّر في المنطقة في عمان وظفار و البحرين .

لقد كانت المنظومة العسكرية السياسية دومًا بحاجةٍ لأعداءٍ لتبرير استمرار إنتاجها لأسلحة الدمار، وخصوصًا بعد زوال "الخطر الشيوعي" واتّساع مطالبة قطاعاتٍ أمريكيّةٍ واسعةٍ بالاقتصاد السلمي peace dividend. إنّ أي مراجعةٍ للدراسات الاستراتيجيّة العسكريّة الأمريكيّة تؤكّدُ ضرورة تغذية الإسلاموفوبيا وتصعيده، وتؤدي المؤسسات الفكريّة الصهيونيّة دورًا رئيسيًّا في تغذية هذه الآلية، فإنّ اقتصاد "إسرائيل" يستند بالأساس على الصناعات الحربية وصناعة الإبادة والقتل. فحتى البرتقال الفلسطيني المسلوب لم يتصدر أبدًا المكانة الأولى في صادراتها، فالدعاية والإعلام الصهيوني يهدفان إلى تجميل صورة إسرائيل وحرف الأنظار عن جرائمها، يفسّر هذا الاعتقاد الشائع والخاطئ، فدبابات الميركافا والصناعات الاستخبارية والتجسسية الإلكترونية في مقدمة الصادرات العسكرية الإسرائيلية. وكما تؤكد المؤسسة الإسرائيلية البحثية "من يربح؟" فإن "إسرائيل" تحتاج أن تشنّ حربًا كل خمس سنوات تقريبًا حتى تسوّق صناعاتها الحربيّة تحت شعار أنّها جُربت في المعارك، وهذا يفسّر لماذا تحتاج المؤسسات الفكرية الصهيونية تغذية الإسلاموفوبيا لا سيّما وأن العداء للإسلام ينسجم عضويًّا في نسيج الفكر الأمريكي المهيمن يتناغم مع البيضاوية العنصرية والشوفينية ضد "الغرباء".

وكون الإسلاموفوبيا شكلًا من أشكال العنصريّة لا بدّ أن يخضع لتحليلٍ بنيوي لا ينحصر في إطار المشاعر الشخصية والحالة النفسية الفردية. فمن السهل إنتاج الخوف الدائم وتأجيج العداء للمسلمين والعرب. ولكن هل كانت تفجيرات 2001 كافيةً لتفسير هذه الظاهرة؟ إذا كان الأمر كذلك، فماذا يفسّر أن مشاعر الأمريكيين ضد البيض لم تتأجّج بالرغم من كون تيموثي ماكفي مفجر البناية الحكومية في ولاية أوكلاهوما أبيضَ ومسيحيًّا متشدّدًا؟ وماذا عن القوى اليمينيّة المنظّمة التي حاولت الاستيلاء على السلطة واقتحام الكونغرس الأمريكي دعما ترامب في 6 يناير 2021؟

* في ضوء تعرّضك للملاحقة المستمرّة من قبل اللوبي الصهيوني، التي وصلت حدّ التهديد بالقتل، كان لك قول مهمّ: إنه لا يكفي أن يكون الإنسان حامل فكر، بل عليه أن يمارس هذا الفكر، وهذا يعيدنا مجدّدًا لمسألةِ جدليّة الفكر والممارسة بالمعنى الأشمل: أين هو موقع الأكاديميين الفلسطينيين سواء في أمريكا وغيرها أو فلسطين من هذه المسألة؟

** لا شكّ بأن الأكاديميين والأكاديميات الفلسطينيين يؤدّون دورًا مهمًّا في التأثير على الرأي العام، وفي بناء المعرفة من أجل العدالة وتشريع المعرفة النضاليّة جزءًا لا يتجزأ من المعرفة الأكاديمية، وهذا ما يميّز المثقفين المشتبكيّن عن غيرهم، كونهم ملتزمين بدفع ضريبةٍ أخلاقيةٍ ووطنية على اعتباره تعويضًا بسيطًا عن استقاء تجارب وخبرات هذا الشعب لصالح أبحاثهم ودراساتهم والتقدم في مواقعهم الأكاديمية.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ الأكاديميين والأكاديميات يدرسون في الجامعات ومعاهد الدراسات العليا، التي تشكّل مصانعَ لإنتاج المعرفة، وتوفّر فضاءً يختلط فيه الطلاب لتطوير فكرهم النقدي الجماعي مما يسهم في رفع وعيهم وانخراطهم في الاتّحادات ومنظّمات قامت تاريخيًّا وما زالت تقوم بدورٍ أساسي في مكافحة الظلم والمشاركة في حركات العدالة الاجتماعية والأممية كالحركة المناهضة للتدخّل الأمريكي في فيتنام سابقًا و العراق لاحقًا والحركات المطالبة باستبدال المناهج الدراسيّة الاستعماريّة والعنصريّة بمناهج تعرف الطلاب بنضالات الشعوب العادلة ومن بينها الشعب الفلسطيني، وهذا ما يفسر الهجمة الشرسة لمؤسسات اللوبي الإسرائيلي ضد المثقفين والمثقفات المتشابكين من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين والضغط على المؤسسات الأكاديمية بغرض فرض الرواية الصهيونية ومحو المناهج كافةً التي تدرس التاريخ الفلسطيني والثقافة والحركات الاجتماعية والوطنية الفلسطينية.

فخذ على سبيل المثال تجربتنا في جامعة ولاية سان فرانسيسكو، فقد استهدفت مؤسسات اللوبي الإسرائيلي البرنامج الأكاديمي لدراسات الجاليات العربية والمسلمة في المهجر AMED بهدف هدمه ومحو مناهجنا التي تلتزم بإنتاج المعرفة من أجل العدالة رغم أنّ الجامعة قد استقطبتني عام 2005 من عملي مديرةَ مركز الدراسات العربيّة الأمريكية في جامعة ميتشيغان في ديربورن بتأسيس البرنامج عام 2007.

ورغم تبني المنهاج رسميًّا جزءًا لا يتجزأ من البرامج الأكاديميّة في الجامعة، فقد صعدت الجامعة من التضييق علينا منذ 15 عامًا، والسبب في ذلك يعود إلى ازدياد تواطئها مع المؤسّسات الصهيونيّة من ناحية، وتحوّلها من جامعةٍ عامة إلى ما يشبه الشركة التجاريّة الخاصّة التي تقبل التبرّعات الصهيونيّة واليمينيّة المشروطة، وتنفّذ مقابل ذلك وظيفتها في خدمة اللوبي الصهيوني.

ويتضح مدى تصاعد تواطؤ الجامعة مع اللوبي الصهيوني عبر مراجعةٍ سريعةٍ لتاريخ البرنامج، فرغم إقرار منهجنا الأكاديمي ومن ضمنه مساق فلسطين من قبل كلّ محطّةٍ أكاديميّةٍ وإداريّة، فمنذ اشتداد الهجمة الصهيونيّة ورغم انتصارنا الحاسم في قضيّةٍ رفعتها ضدّ إحدى مؤسّسات اللوبي الصهيوني ضدّنا في محكمة الدولة (الفيدرالية، أي على صعيد الولايات المتحدة) عام 2017 فقد قامت إدارة الجامعة المتصهينة في كلّ فصلٍ دراسي بإلغاء مجموعة من المساقات وتقليصها أو تغيير مواعيدها لبلبة الطلبة وطرد عدد من المحاضرين المؤهلين ورفض إدراج المساقات المتعلقة بفلسطين مرات عدّة. وفي هذا الفصل (خريف 2023) رفضت الجامعة إدراج مساقي عن فلسطين رغم إصرار الطلاب وتوقيع ما يزيد عن 2000 شخص عريضة مطالبة بإدراج المساق بما فيهم عددٌ كبيرٌ من الطلاب والأساتذة.

كذلك، ورغم فشل حملة صهيونية كبرى عام 2016، بالضغط على الجامعة لإلغاء اتفاقيّة تعاون بادرنا بها في AMED مع جامعة النجاح الوطنية في فلسطين خضعت إدارة الجامعة للضغوط الصهيونية، وألغت في آخر لحظة المدرسة الصيفيّة في فلسطين عام 2019، بعد أن سجّل بها الطلاب، وأعدّوا أنفسهم للسفر والدراسة في جامعة النجاح.

وأعاد هذا العداء نفسه بالنسبة لبعثة البروفيسور إدوارد سعيد، التي حاول الصهاينة في البداية إفشالها كليًّا، لكن بعد نجاحنا في تبنّيها وقدمنا الجوائز للطلاب المتفوّقين عام 2015، قامت إدارة الجامعة كل سنةٍ بعد ذلك بوضع مجموعةٍ من العراقيل أمام فتح المجال أمام الطلاب لتقديم طلباتهم والفوز بها.

قامت رئيسة الجامعة العام الماضي بالضرب بعرض الحائط بقراراتٍ حاسمةٍ أصدرتها ثلاث لجان تحكيم، تمّ اختيارها عشوائيًّا من أعضاء الهيئة التدريسيّة لحماية الحريّات الأكاديميّة والتراجع عن خرق عقدي قانوني، الذي وظفتني الجامعة حسبه، الذي يقضي بتوظيف ثلاث أساتذة دائمين في برنامج AMED. كذلك ترفض الجامعة توفير الحماية والدفاع عني وعن زملائي وطلابي الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمعرضين للخطر من قبل المنظمات الصهيونية.

ويطرح السؤال نفسه لماذا تمارس جامعة ولاية سان فرانسيسكو التمييز والعنصرية ضد فلسطين وتنحاز لإسرائيل ومطالب اللوبي الصهيوني رغم تاريخها المشرف؟ فقد خاض طلابها عام 1968 أطول إضراب طلابي في تاريخ الولايات المتحدة ونجحوا في الحصول على معظم مطالبهم بتغيير المناهج العنصرية والاستعمار، وهنا أعود للتذكير بمسألتين، أولاهما: تحول الجامعة من مؤسّسةٍ أكاديميّةٍ إلى ما يشبه الشركة التجارية، وثانيًا تواطؤها مع مؤسّسات اللوبي الصهيوني، وتلقي التبرعات المشروطة منها ومن جهاتٍ يمينيّة، وهذا بالطبع جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيّة الصهيونية ليس ضدي فقط، بل ضد الجميع، وكل الأكاديميين والمثقفين الذين ينتجون المعرفة؛ بهدف تجريم تدريس فلسطين، ومعاقبة كل من يتجرّأ على انتقاد إسرائيل والرواية الصهيونيّة، التي تتناغم مع الرواية العنصرية الأمريكيّة.

* يعمل العدو الصهيوني والقوى الاستعماريّة الإمبرياليّة بالأغلب على تعميم فكرة الهزيمة بين الشعوب بالإجمال، وخاصّةً المستعمَرة منها، من خلال ما يمكن تسميته "باحتلال الإرادة" من بوابة "احتلال العقل"، والأخطر في تمرير ذلك هو وجود الوسطاء المحليين أو العملاء بمعنى أدق: فهل تجذير فكر المقاومة كافٍ لوحده للرفض والمواجهة؟

** لا شكّ أن تجذير فكر المقاومة عامل أساسي لصمود الشعوب وانتصاراتها، وهذا ما تؤكده تجارب الشعوب، وكذلك دراسات المقاومة والحركات الاجتماعية، فكما يقول المثل الشعبي "لا يضيع حق وراءه مطالب". فتجربة الشعب الفلسطيني، كغيره من الشعوب المناضلة، كالشعبين الفيتنامي والجزائري، مثلًا، واجهت ما يعرف بالدارجة (أو شعبيًّا) "عقدة الخواجا" وهي الظاهرة التي تترافق مع أي حركةٍ نضاليّةٍ كون العملاء والمتسلقين والانتهازيين والنفعيين موجودين في كل شعبٍ، التي عدّها فرانس فانون وأميلكار كابرال ومجموعة كبرى من المفكّرين في حركات التحرّر. والشعب الفلسطيني ليس استثناءً على ذلك، وإلا فكيف نفسّر ظاهرة العملاء ممّن يشون على المناضلين، ومن باعوا أنفسهم مقابل مصالحَ ماديّة أم أولئك الذين "ينظّرون" للهزيمة والاستسلام؟

كذلك حيث تسعى المؤسّسة الصهيونيّة للتغطية والتعتيم عليه، وتتعاون معهم بالطبع الأنظمة العربيّة المنبطحة؛ بسبب ارتباطهم بمصالحهم، ولكن الشعوب خيارها واضح، فمن كأس كرة العالم في دولة قطر ، كانت الجماهير تهتف لفلسطين، وردة الفعل الشعبيّة الليبيّة القوية ضد لقاء وزيرة الخارجية الليبية مع وزير خارجية "إسرائيل" والتظاهرات التي خرجت في دولٍ عربيّةٍ عديدة، دعمًا لفلسطين، يتبيّن أنّ هناك فرقًا شاسعًا بين الأنظمة والشعوب، ويجب التمييز بينهما، وحينما نسمع أنّ العرب باعوا القضيّة الفلسطينيّة، علينا التوضيح أنّنا نميّز ما بين الأنظمة الديكتاتوريّة والفاشيّة والمستبدّة والقمعيّة، التي تسعى للربح وتحقيق مصالحها فقط، ولا تقلق بمصالح الشعوب مطلقًا، والشعوب الرافضة لكل ذلك الأمر الذي لا يتم بعفويةٍ أو سذاجة، بل عن قناعة؛ لأنّنا جميعًا نعلم جيّدًا مخاطر القمع الذي ينتظر من يقرر الخروج من بيته للمشاركة في تظاهرة أو حركة احتجاجية، ومع ذلك يتأكد لنا كل يوم مدى تضامن الشعوب العربية وشعوب العالم مع فلسطين، لأنّ قضية فلسطين هي قضية حية، الشعب الفلسطيني يرفض أن يموت ويصر على المقاومة والوجود، ولذلك كل الشعوب تصطف معه؛ لأنّ قضيته عادلة.

* أطروحة الدكتوراه الخاصة بك، حول الهوية الوطنية الفلسطينية خلال مرحلة التحرر الوطني والمرحلة الانتقالية ما بعد أوسلو: ما قراءتك للوضع الفلسطيني بعد مرور ثلاثين عامًا على اتفاقية أوسلو؟

** شخصيًّا عارضت كل شيء في اتفاقية أوسلو منذ أن تسربت أخبارها، وقد رفضت قبول الدعوة وحضور توقيع الاتفاقية في البيت الأبيض بواشنطن بتاريخ 13/9/1993، وأذكر حينها أنّ وسائل الإعلام التي كانت دومًا تتواصل معنا - كوننا نشطاء في حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني - لم تعجبها تصريحاتي بأن هذا اليوم يوم حداد. وفعلًا تم التعتيم الاعلامي على كل الأصوات الفلسطينية المعارضة لأوسلو لخلق الانطباع أنّها مشروع سلام حقيقي. وللأسف فإنّ القيادة الفلسطينية لم تتعلّم من دروس التجربة الفيتنامية حيث رفض الثوار كافة شروط المفاوضات المهينة لدرجة إصرارها على شكل الطاولة البيضاوي. فلم تكن مجرّد تسوية، بل توقيع جزء من القيادة الفلسطينية على تشريع الاحتلال من خلال إنشاء هذه السلطة وكيلًا للاحتلال وأداة لتشريعه.

لقد انتقدت في أطروحتي دعاة نظرية المجتمع المدني التي كانت رائجة آنذاك، التي نظرت بأن رقعة الحريات العامة تتسع في مرحلة "ما بعد النزاع" وحاججت بأن مرحلة التحرر الوطني ورغم ظلم الاستعمار وقسوته إلّا أنّها فتحت مجالًا واسعًا لمشروعيّة حركة تحرر المرأة والحقوق النقابيّة، وفتحت مساحةً أوسع للمجتمع الفلسطيني، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإنّ القيادة الموحدة للانتفاضة أقرت بالاحتفال بيوم المرأة العالمي ويوم العمال العالمي ولكن السلطة الفلسطينية حاولت إلغاء هذه الاحتفالات واضطرت للتراجع بسبب المقاومة الشعبيّة الواسعة.

كذلك دعونا لا ننسى أن 17 فلسطينيًّا استشهد على يد السلطة في أول سنة تولت فيها الحكم وقد ازداد الوضع سوءًا بعد 30 عامًا من قمع للمقاومة، وكل صوت حر، كاغتيال الشهيد نزار بنات. وتذكرنا حملات الاعتقالات ضد أيّ معارض لسياساتها بتعامل الأنظمة العربية مع شعوبها: تقمع المعارضة، تصادر الديمقراطية، بالإضافة إلى تعاونها مع الاحتلال الصهيوني فيما يسمى "المجالات الأمنية" وهذا في الحقيقة خدمة استخباراتية للاحتلال تساعده في ملاحقة المقاومين؛ أيّ إن السلطة لا ترفض المقاومة، فحسب بل تسلّم المناضلين للاحتلال، فلا تريد أو تسمح لأحد أن يقاوم.

وهنا ما زلت أطالب جميع العاملين في السلطة الفلسطينية بالاستقالة من مؤسساتها بشكلٍ جماعي، دعونا نذكر من يبرر العمل في مؤسسات السلطة بأنّه من أجل لقمة العيش بأنّ الناس كانت تحصل على لقمة العيش قبل قدوم السلطة عام 1993، وكان التضامن الاجتماعي بين الناس أكبر، ولكن السلطة عبر تبنيها لليبرالية الجديدة غذت الروح الأنانية عند الأفراد، وفتحت الباب على مصراعيه لموظفيها للاقتراض من البنوك، مما أسهم أيضًا في تحطيم روح التعاون والتعاضد في المجتمع.

* الانتصار الكبير الذي يطمح له العدو الصهيوني هو تعميم روايته التاريخية اليهودية المختلقة حول أحقيته في أرض فلسطين، باعتباره انتصارًا تاريخيًّا، يفوق الاعتراف السياسي بحقّه في الوجود الذي ناله من القيادة الرسميّة في المنظّمة، لكن في المقابل: أليس من مخاطر جديّة تتهدّد الرواية التاريخيّة العربيّة الفلسطينيّة في ظلّ مشهد الانهزام والتطبيع الرسمي العربي؟

** أنا أعتقد أنّ كون الحقّ معنا لا يعني أنّ نستريح ونستند، إلى أنّ كلّ العالم يعلم ذلك، وهذا يخصّنا نحن الذين نعملُ في حقل الإنتاج المعرفي. وفي السياق هذا، فإنّ المعركة محتدمةٌ مع القوى الصهيونيّة وهي قوى متكاملة، ذات بنية تترابط مع "إسرائيل"، خاصة وزارة الاستراتيجية "الإسرائيلية" التي قامت لقمع كل الحركات التي تتضامن مع فلسطين وتعمل لأجلها بما فيها حركة المقاطعة.

لطرح أي رواية وتوسيع قاعدة التضامن معها، يجب ألا نتنازل عنها بل نعمل على تعميمها وتوثيقها ودعمها بوثائق وجزء منها الأرشيف الحي، خاصّةً الناس الذين شهدوا تاريخ الصراع، وهذا لا يقتصر على الأرشفة التقليدية، كما علينا أنّ نطالب الاحتلال وبريطانيا لفتح الأرشيف الخاص بالشعب الفلسطيني، حتى وإن لم نكن قادرين على الاطلاع على هذه الأرشيفات بأنفسنا، ولكن يمكننا الاطلاع عليها عبر آخرين، كمن سموا أنفسهم المؤرخين "الإسرائيليين" الجدد، كونهم يستطيعون أكثر منا الاطلاع على هذا الأرشيف في "إسرائيل" لأنهم يحملون جنسيتها. ومن ثَمَّ أنّ نقول: إنّنا كوننا أصحاب حقّ يتطلب أن نعمل يوميًّا على دحض الرواية الصهيونيّة، التي تهدف إلى تثبيت الاستسلام والخنوع والهزيمة بشعبنا؛ لأنّهم يحاولون أنّ يقنعونا بأنّنا شعب مهزوم، فالخطاب الصهيوني يقصد أن يسمى احتلال الـ 67 "حرب الأيام السّت" ليستنتج المستمع بأنهم استطاعوا هزيمة كل العرب في 6 أيام فقط، وعليه يجب علينا توضيح روايتنا للعالم والدفاع عن كل الشعوب العربية.

* كان غسان كنفاني يحمل قناعة راسخة أن الفلسطينيين وحدهم غير قادرين على تحرير فلسطين، مؤكّدًا على ضرورة التكامل مع الأمة العربيّة في حرب تحرير شعبية طويلة الأمد، من أجل إنجاز هذه المهمة الوطنية والقومية، وهذا بدوره يطرح مسألة أولوية العلاقة مع الشعوب لا الأنظمة: ما قولك في هذا؟

** أنا أعتقد اليوم أنّ فلسطين بوصلة العدالة في العالم، وكل أصحاب الضمائر الحيّة، وأضحى التضامن مع فلسطين، ليس لأنّنا قضيّةٌ محقّةٌ وعادلةٌ فحسب، بل لأنّ فلسطين ما زالت تقاوم ومعها كل شعوب العالم كلّه، وتجارب التحرر الوطني حول العالم تشير إلى أنّ الشعوب المحتلة لا تنتصر وحدها، رغم أهمية مقاومة الشعب المحتل والتضامن معه، وتحتاج إلى دعم شعوب العالم الحرّة جميعها، وتجربة فيتنام خير شاهد على هذه الحقيقة.

تعلمت من خلال دراستي وتدريسي لتجارب التحرر التي انتزعتها الشعوب بعد عملية مقاومة مستمرة وطويلة، وهنا أيضًا نستحضر تجربة فيتنام، حيث إنّ مقاومة الشعب الفيتنامي بشكلٍ يومي، اتّسعت ودُعمت حركة التحرر الوطني في فيتنام، وبناء على ذلك، اتّسعت دائرة رفض الخدمة العسكرية الأمريكيّة في فيتنام، وتعمقت مبادئ هذه الحركة وتجذرت، هذا الكلام نفسه يجب أن ينسحب على الشعوب العربيّة، فمثلًا عندما اندلعت الثورات العربيّة عام 2011، لم تكن منقطعةً عن الحراك العربي التاريخي؛ لأنّ الناس حول العالم تثور كل يوم وتقاوم كل يوم من أجل واقع أفضل، والتخلص من الاضطهاد وتحقيق الحرية.

وهنا يطرح سؤال من جديد، هل يمر تحرير فلسطين عبر العواصم العربية؟

نعم يمر، أكيد تحرير فلسطين في حاجةٍ إلى دعمٍ عربي واسع؛ لأنّ الحاضنة العربيّة للشعب الفلسطيني تؤدي دورًا مهمًا في تثبيته في أرضه، وهذه الحاضنة لطالما احتضنت مقاومة الشعب الفلسطيني من الأردن إلى لبنان، وما زالت الشعوب العربية تحتضن الشعب الفلسطيني ويجب علينا يومًا بعد يوم توسيع رقعة هذا الاحتضان، وأرى أنّ الخطاب الذي يعدّ أن الشعب الفلسطيني قادر وحده على تحقيق حريته هو جزء من خطاب الهزيمة الذي حاول الاستعمار تمريرة، بما فيه ما تدعيه القيادة الرسمية في منظمة التحرير الفلسطينية عندما تقول "نحن وحدنا". لما نقول: نحن وحدنا ولا أحد يدافع ويتضامن معنا وماذا نهدف في ذلك؟

المقولات الانهزامية التي يتردد صداها هنا وهناك وتروجها بعض وسائل الإعلام تندرج ضمن استراتيجية إعلامية إمبريالية صهيونية مستمرة، وعليه اعتقد أن تكرار هذه المقولات يصب في الخطاب الاستعماري الصهيوني، والوقائع أثبتت أن الشعب الفلسطيني مصمم على الاستمرار في المقاومة، من جنين إلى غزة إلى نابلس وعكا واللد والنقب والشيخ جراح وسلوان وبيتا وحواره وترمسعيا، ولكلّ مكان طُرقه ونماذجه في المقاومة، في الداخل المحتل، مثلًا، تزايد لدى الدروز الفلسطينيين حمله رفض الخدمة في الجيش "الإسرائيلي"، حيث تنشط حملة "اُرفض وشعبك يحميك"، وفي النقب نجحت مقاومة مشروع "برافر" والعراقيب ما زالت صامده رغم ما يزيد عن 220 تدمير صهيوني، وهذه النماذج يستلهم بعضها بعضًا، حيث استلهم شبان مركز النقب الفلسطينيي في مخيم "برج البراجنة" من تجربة رفض مشروع "برافر" وأسمى المركز باسمه.

صحيح أنّ أبناء الشعب الفلسطيني مشتتون حول العالم، وطبعًا هذا أيضًا ليس نتيجة صدفة، وإنما هذه خطة استعمارية أمريكية-إسرائيلية، لكن وحدة الشعب الفلسطيني والقضية والأرض تتعزز تتعزز يومًا بعد يومٍ رغم كل محاولات الاحتلال عزل تجمعات الشعب الفلسطيني بعضها عن بعض.

نحن المثقفين لدينا دور مركزي في تصحيح الرواية الانهزامية ولزامًا علينا عدم تكرارها. واجبنا تقصي الحقائق والمزيد من الدراسة المرتبطة بالعمل، ونتعلم أكثر ونعلم أكثر ونناقش أكثر على قاعدة فهم أهمية الوعي في الصراع، فالوعي والمقاومة لا ينفكان أبدًا.