Menu

مزامير داوود عيد

هند شريدة

الأخبار اللبنانية

لمزامير داوود عيد،

توراة العهد الجديد، ما بعد الاعتقالات السياسية، والتنسيق الأمني، وبن غفير،

لمن اختار "قطع شَعرة معاوية، وقَصَّ جديلة أمها". له هو، تحية طيبة وبعد،

سنتان كاملتان مرّتا على اعتقالك في الوقفات التي تبعت مقتل نزار بنات. كان اعتقالا من قبل ابن جهاز ربما لم يسمع بك أبداً. لم يعتد ابن البارحة ذاك على مطالعة اسمك، ولعلّه لم يقرأ في حياته قط قصة (نمّولة)[i] ، ولم يسخر أبداً بكلّ مياصة الأطفال من وَقْع "ترتـّتان ترتـّتان نملة راحت عالدكان[ii]" على الأذن. كل ما في الأمر حينها، أن طُلِبَ من مجموعة تعمل وظيفيا في جهاز أمني ما، فارعة الطول والعرض، أن تأتي بكلّ نَفَسٍ معارض، فَقَمَعَت وسَحَلتَ وطالَت، وعلى إثر "القمعة" أوتي اعتقال الشاعر، والباحث، والكاتب، والأديب، والمحلل، والمنقّب، والمؤرخ، والراوي، والقاصّ، والمهتم بالميثولوجيا، والتاريخ، والحفريات، والنباتات، والأحافير: زكريا محمد.

شاركتُ داوود عيد[iii] ( أو هكذا كان اسمه في العهد القديم) رفقة مع فادي قرعان وخلدون بشارة بكتابة روايتنا بعنوان "أربع شهادات عن القمع على دوّار المنارة" في مجلة الدراسات الفلسطينية. فكتب زكريا نصّ "القطيعة" الشهير، والذي أعلن فيه جهارة قطيعته مع منظمة التحرير الفلسطينية.

وأقتبس كلماته هنا: "كانت هذه أول مرة أُعتقل فيها من طرف سلطة يُفترض أنها تمثلني، الأمر الذي أثّر فيّ نفسياً. فأنا ابن منظمة التحرير، وأفنيت حياتي كلها وأنا أجري وراءها، وها هي هذه المنظمة، عبر وليدتها، السلطة الفلسطينية، تعتقلني، وأنا واقف عند الرصيف، لأنني في اعتقادها (أنوي) أن أحتج. لقد اعتقلتني على نياتي لا على أفعالي".

..." وفي سيارة الاعتقال كان شريط حياتي في منظمة التحرير يمر في لقطات متتابعة سريعة في ذهني... وكان ألمي عظيماً، الألم في شفتَيّ وفي يدَيّ، وفي عظامي، وفي عينَيّ، وفي قلبي. وردّدت في نفسي مقطعاً شعرياً لا أذكر مَن صاحبه:

ثمة ضوء ضئيل

ثمة ألم عظيم

وأنا أحاول أن أمسك هذا الضوء بعيني. أحاول أن أقنعها بوجوده."

وبعد واسطات وتلفونات لم تنضب لتعريف جهاز الشرطة الفلسطينية العتيد من هو داوود عيد؛ خرج زكريا محمد وقتها، ولم يوقع على أي تعهد، سوى سطرٍ من إملائه، وضع توقيعه عليه لا غير، يقول فيه: "هذا اعتقال غير شرعي وخارج القانون وأنا لا أعترف به."

وبعد سنتين، "3اكتَنَفَتْكَ حِبال الموت، وأصابتك شدائد الهاوية. كابدَت ضيقاً وحزناً. 4 وباسم الرب دعوت: آه يارب، نَجِّ نفسي. 9 فَسَلَكْتَ قدّام الرب في أرض الأحياء". (مزمور 116) ومَضَيْت. شاء داوود التنيّح سريعاً، كمن يهرول على عجالة.

بوضوح أرعن فاضح، وقفَتْ ثُلّةٌ على رأسك يا زكريا لتنعاك وأنت مكسوّاً بالأبيض. ثرثروا كثيرا على قبرك، جعّر بعضهم ملء السماعة، ولكن جمعا مُحِبّاً لك لم يسمعهم البتّة، ولم يعرهم أذنا صاغية، كانت أعيننا تتجه صوبك في النعش، وصوب سلمى ورند وأحمد وهم يبكوك. كان حزننا أكبر من ترهاتهم. باسم هذا وذاك نعوك جميعا، تخيّل يا صديقي، لقد نعوك باسم "أبي خميس وحاشيته"! وجميع من كنت تشتمهم صباحا في مقهى "زمن"، وعلى المنصة الزرقاء!

جميع كتاباتنا لا تنصفك، كما نرفض تحول الحديث عنك لتعداد مناقب أو نعوات لا أكثر، وأنت البيدر والسنابل البيضاء، وشِعْرُكَ وشَعْرُكَ صوامع القمح الحقيقية وسط ما تبقى من هشاشة الواقع والحكومة وحاشية "أبي خميس"، الذي حفّزك على كتابة الشِّعر، هروباً من الحبس!!!

"سألني أحدهم: لماذا تكتب الشعر؟

رددت عليه: لأنه إذا ما كتبت شعر راح أبلش في أبو خميس. وإذا بلشت فيه راح يحبسوني.

يعني: الشعر في الأخير هروب من الحبس.

هاي القصة وحياتك."

إحسب لنا يا زكريا في عقر قلبك أنّا كنّا صادقين معك، بتنا وما زلنا نصدّقك ونصادقك، جميعنا أحبّك كثيرا، وتفاعل معك ومع مواقفك ومعرفتك ومكنوناتك ودعْمك للمواقف النبيلة وقضايا الأسرى والأسيرات، ودعواتك لنصرة المعتقلين المضربين عن الطعام، ووقفات عائلة خضر عدنان وأطفاله التسعة على دوّار المنارة. أكثرنا حظاً من كان يصادفك وأنت تجوب شوارع رام الله، ويطرح عليك السلام، ومن كان يقف برهة صمت لقراءة كتاباتك وتحليلاتك السياسية على أقل تقدير، ومن اتفق معك على أن بن غفير وغباءه الممتد بلا حدود مكسب لنا، وأن بيلا حديد، بوطنيتها الخالصة لا بجسمها الممشوق، تضاهي بمنشور لها ما فعلته وتفعله الدبلوماسية الفلسطينية على مدى سنين طويلة.

ليس بوسعنا أن نقدّم ما قدّمته لنا، لكن وعدا خجولاً منّا أنّا سنقف عند أنواع الأزهار كثيرا، وألوانها أكثر، وسنسرح في بقايا الآثار، والمِشاط القديمة الحجرية منها والشِّعرية، وسنأخذ وقتنا بتمحيص رسومات الأجران والسِّلال والأقحوان على الفخار العتيق، وسنتخيل شكل الأحافير وتحولها الرّث في القشرة الأرضية، وسنحسب في مخيلتنا عمر الصخر والأشجار، وأنماط وأشكال الحياة القديمة وبيئاتها المنقرضة.. كل هذا بكفّة.. وغصن التين، بثمره الأخضر، وعصارة جوفه الحمراء بكفة أخرى.

"لا تصلّي الوردة لربّها، ولا تصلّي لغيره.

أما أنا فسرّي في قبضتي، وأغنيتي في غصن التين. ولا أستطيع أن أخبركم بأكثر من هذا. أنا أعطيكم طرف الخيط، وأنتم تسحبونه. أعطيكم اسم النملة وأنتم تتبعون نسبها. وهناك كتب أنساب كثيرة مفيدة. أما بخصوص التين فلديكم كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية حيث يُهجّن التين بالحديد تحت النجمة. الغصن تين والبرعم حديد.

من الحديد جئنا، وإلى الحديد نعود.

من النشيد جئنا، وفي النشيد نموت."

رغم وحشة الحُفَرِ الصماء وتربتها التي تبتلع الأجساد في أحشائها؛ ترك أحباء داوود المتوثبين على كتفه يثرثرون، يحاولون التمركز وسط الشاشات المتلفزة التي تنقل الجنازة بِحُكْمِ الواجب، أخذوا يجاهرون باسمه عاليا في الرثاء، حتى أجابهم صوت شاب يافع استفزّته المسرحية: "شكلكم ناسيين يوم ما اعتقلتوه".. وعمّ صمت بعدها بين القبور.

سَمِعْتُكَ حينها يا زكريا، كُنْتَ تهلّلُ حينها في أرضِكَ المُنخفضة عنّا، وبالعلامةِ رَدَدْتَ مزامير النبي داوود: "يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ، وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ، وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي." (مزمور 131) فعلاً، كانت فوقك تدور العجائب، لكن الشاب إيّاه بشعره الأشعث المربوط، أخذ حقك وحقنا جميعا.

أراهن أنك تبسّمت في أرضك المنخفضة ذاتها، وكأنك وقّعت بانفراج شفتيك سطراً وحيداً من إملائك: "هذا رثاء غير شرعي، وخارج عن القلب، لا منه، وبالتالي أنا أرفضه، ولا أعترف به."

كنا أكيدين أنك لن تومئ برأسك لمن خذلوك باعتقالك، كيف يحدث هذا وأنت من ""قطعْتَ الشَّعْرَة، وقصَصْتَ جديلها أمها."

"15 عزيز في عينيّ الرّب موت أتقيائه"، وأنت التقيّ الورع للإنسان، والوفيّ للنواة، للبذور، سمعنا صراخك تقول: "16 آه يارب، لأني عبدك أنا عبدك ابن أمتك. حَلَلْت قُيودي"، 17 فَلَكَ أذبَحُ ذبيحة حمد، وباسم الرّب أدعو، 18 وأوفي نذوري للرّب مقابل شعبه".

هكذا أوفيت نذورك للرب، ورحلت عنا، وظلّت مزاميرك بيننا. لك السلام يا زكريا.. لقبضتك السلام والوئام.. سننشد من بعدك مزامير داوود، مزامير داوود عيد، مزامير الخلود.

[i] نمّولة: قصة أدب أطفال كتبها زكريا محمد، ونشرتها مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في عام 2012.

[ii] ترتتان ترتتان نملة راحت عالدكان: جملة موسيقية موجودة في قصة نمّولة.

[iii] داوود عيد: اسم زكريا محمد في بطاقته الشخصية.