مع كلّ مادةٍ تُكتب، أو مقولةٍ تُقال، تبدو الرؤى والآراء على المستوى العالمي أكثر اضطرابًا وأشدّ ارتباكًا وضبابيّة، وهو ما ينسحبُ مجرورًا بضرورة "عولمة المعرفة" على مفردات الحالة الثقافيّة العربيّة وكنهها من خلال حجَّة ضرورية الانفتاح على العالم والانسجام الثقافي المُتقارب تدريجيًّا بين الأمم!
ثمّة مثقفون وأنصاف لا يرون الحقيقة؛ ذلك بفعل التراكم والانصهار في ببغاوية المقولة لا تمحيص الفكرة، هنا يبدو الحرص على الحقيقة أقلَّ شأنًا من خلال مساوقة النغمة السائدة بفعل الضخّ الإعلامي المُوَجَّه والموَجِّه نحو تحفيز العقل الساكن على الخوض الجاهز المُراد ترويجه باعتباره لُبَّ البحث عن الحقيقة ومآله. تبدو تلك طامة بحد ذاتها، ويخسر مُعتمِدُها أهمَّ ركيزةٍ في التعريف الأكاديمي والعلمي المعرفي لمعنى الثقافة، ومن ثمَّ سمة حاملها ومعتنقها وتسميته.
لقد خسر العرب عمومًا فضيلة الريادة خلال نصف القرن الأخير، وها هم يلعقون نتاجات بثّ الدعاية الغربيّة والصهيونيّة من خلال الليبراليّة الجديدة، باعتبارها آخر صرعةٍ ثقافيّةٍ مشفوعةٍ ومحميّة بقوى عاتيّة مكتنزة بالمال والوسائلِ الإعلاميّة والقوّةِ التدميريّة التي تدعم فكرة الانتفاع من الرأي المُلقَّن لا رفده معرفيًّا، هكذا يتحوّل المثقّفُ تدريجيًّا إلى ببغاء مهما كان شأنه المعلوماتي المحفوظ، فالموقف الذاتي - الفرادة في التقييم - يغيب هنا لصالح السائد ليصبح مُردِّدًا لا مبتكرًا لرأي أو وجهةٍ، ومن ثَمَّ يخسر فَرادَته التي هي سمة المثقّف والمبدع، ومن ثَمَّ عند خسران الفرادة صفةً تنتفي سِمةُ المثقّف عن ذاتها.
في أهم تعريفٍ وأعمقه عالميًّا يمكن العود إلى المصدر اللغوي لمصطلح الثقافة ذاته، ليبدو التعريف اللغوي العربي في أدقّ تجليّات الفهم الكلّي الأساس وأعمقه للتوصيف بكل ما يكتنزه من دقة، فثقَّف الرمحَ تعني أنه شذَّبه وأزال شوائبه ليصبح حادًّا خاليًا من الزيادات والشوائب التي تُشوه صقله ونجاعة استخدامه، فالرمح أو السيف المثقّف هو النقي الخالص من شوائبه، هكذا تم خلق المصطلح بكل دقة وذكاء.
لا تحتوي الثقافة في مضمارها ما يشير أو يعبر عن ذاته بتقلقلٍ واضطراب، وهي ما لم تكن حاسمة التصويب والتوجُّه تغدو كونها شيئًا آخر لا يمتُّ للمعرفة والثقافة وما ينتج عنهما من مقولة وموقف بصلة، لهذا يبدو المثقف الحقيقي راديكاليًّا لا دبلوماسيّ الرأي والرؤية، ولذلك تحديدًا فإنّ الثقافة تفقد معناها حين تماري السائد أو تتمحك بسلطةٍ أو دولةٍ أو حزب أو قبيلة، أو هي تحسب حسابًا للجانب المعاشي الذي يربط الإنسان عمومًا بحبل الآخرين أو الجماعة، وتلك حالةٌ مضنيةٌ للفرد المثقّف طبعًا، لكنّها خلاف ذلك فهي تشبه خنجرًا يذبح البنية المعرفية والثقافية، فيضحي مطعونُها مُواربَ الرأي خاضعَ الفكر والمقولة مستلَبَ الخُصوصية، تلك هي الضربة القاضية التي تحول المثقف إلى أداةٍ بيد غير يده، ومن ثَمَّ رؤية تحيد عن رؤيته، وهكذا يفقد لذة الخصوصية، وسرعان ما ينضم بإرادته إلى القطيع، ليفقد النسق الفردي المبدع، وينخرط في الجمعي فيضحي رقمًا مكملًا له.
في سنوات العَجْف الماضية التي تمتدّ نحوَ نصفِ قرن سادتْ حال التقهقر، برأينا بدأ ذلك منذ لحظة هزيمة الثورة الفلسطينيّة وخروجِها المُذلِّ من بيروت، وتهافت الأنظمة العربيّة التي كشفت عن تركيبتها وارتباطها بعدو شعوبها مقابل كرسي الحكم الوهمي الذي يتطلّب النكوص عن الاستقلاليّة والكرامة والحريّة، وهو ما يتطلّب بثَّ منهجيّة تخريبيّة للوطنيّة والقوميّة وبالمقابل نبذ الفكر الثوري التحرري ومحاربته، فالتحرّرُ في جواهريته يُطيح أوَّلَ ما يطيح بعروش التبعية والذل، ولتحقيق كل ذلك يجب الهيمنة على المسار العام للثقافة برمجةً للخضوع؛ أي القفز على الوطني والقومي والإنساني، بحيث تغدو المعرفة منهجيّةً تابعةً للقوة، والثقافة ضربًا مما يُلقن لا مما يُستنتج، هكذا وصل الأمر إلى استلهام الأحزاب والقوى الثورية والتقدمية والمقاوِمة ذاتها لفكر لا يمتُّ للُبِّها بِصلةٍ واستخدام مقولات لا تقترب من مقولاتها، حتى فقدت مصطلحاتها الفكرية والسياسية والنضالية، فالعديد من القوى اليسارية والعلمانية، مثلًا، استلهمت نقيضها من فكر التيار الديني، والفرد المتنور ذهب نحو الفكر الظلامي ليضيئه من خلال امتداحه لجنباته بطريقة مواربة أو خطابية، هكذا انتصر الظلام على الضوء مرحليًّا، والتخلّف على التقدميّة.
ما سبق تمّ تزويده عالميًّا من خلال الإعلام العالمي وحوافزه وجوائزه، الذي وكما هو معلوم مهيمن عليه من قبل الصهيونية أو من قبل متعاطف معها، حتى بتنا نسمع ونقرأ لبعض الأسماء المروَّجة إعلاميًّا ما هو مضحك من مقولات تزييفيّة تطال التاريخ العربي ورموزَه، ومؤخّرًا باتت تلك سمة علنية تمس تاريخ فلسطين وشعبها وتروّج التلفيقيّة الصهيونيّة، تروج للعدو وتزجُّ بمعلوماتٍ ومقولات بعضُها تم التراجع عنه من قبل المفكرين الصهاينة ذواتهم بعد فقدان بريقه وانكشاف زيفه وسخفه.
من هؤلاء من يمتلك غباء ووقاحة نادرة، ومثال حي، يمكن الاستماع أو قراءةُ اسم مضطرب مريض مثل يوسف زيدان الذي ينكر وجود صلاح الدين الأيوبي مثلًا، وهو أمر بحثي وارد في التاريخ، ومع نفي وجود صلاح الدين يسوق في مكان آخر أن الرجل سفك الدماء وقتل أكثر من مئتي ألف عربي ومسلم، ثم يضيف في وقت آخر أنه قتل مليونًا ونصف المليون، فكيف قتل كل هؤلاء وهو شخصيّة وهميّة لم تكن موجودةً أصلًا، وفي مكان آخر يصفه بالعميل للصليبيين!
إلى جانب أن ذلك غريب ومرضي، فهو مضحك لا يليق بتلميذ في الابتدائية، ويعبر عن شخصية تحتاج إلى علاج عقلي ونفسي في آن معًا.
عقب كشف العلاقة التاريخيّة العضويّة بين نظام التابعين في الإمارات العربيّة المحتلّة، ظهرت شخصيات لا اسم سابق لها ولا هي ذات سوية معرفية، بل تبدو مضحكة السوية، باتت تشيد باليهود واليهودية وتنال من النبي محمد "الذي ظلم اليهود الأبرياء وقتلهم في يثرب" كما تحاول النيلَ بطريقة مضحكة من الفلسطينيين تاريخًا وحاضرًا، بل وتكيل الشتائم لهم، ذلك بالتزامن مع الاتفاقات الإبراهيميّة التي تحمل في جوفها تحويل الإسلام إلى طائفةٍ بروتستانتيّة من خلال اختراقه وتزويره وحرفه تجاه المصالح والولاءات للصهيونيّة، ذلك بدوره بدا مضحكًا، والآن هم يقومون بطباعة نسخة من القرآن الكريم محذوف منها كل ما يصف اليهود أو ينال من أفعالهم بتواطؤ شيوخ النفاق التابعين لأنظمة العبودية والخنوع الإبراهيمي.
يتطلب هذا البرنامج المتسم بالسطحية أفرادًا عربًا ومسلمين، فقد فشل الكيان بترويج مُراداته، لهذا اعتمد هذه الشخصيات المضطربة للتعبير عما يريد، إلا أنه فشل مجدّدًا بسبب عدم انسياق أي من المثقفين الحقيقيين المرموقين في هذا البرنامج، فبات كل من يروج للصهاينة ومرادهم هم ممن لا يمتلكون شخصية ثقافة حقيقية، ولا سوية معرفية أو تجربة أدبية أو فنية، وهنا انطلقت فكرة رئيس الموساد التي لقنها لحكام الإمارات بترويج جزرة منح الإقامة الذهبية!
الإقامة الذهبية هي عبارة عن إقامة مدتها عشر سنوات، مركزها الأساسي في دبي ويرعاها الدكتاتور محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي الصُّوري، وهي تستهدف المثقفين والفنانين العرب مستغلة الأوضاع المزرية في أقطار الوطن العربي، كلبنان وسوريا وتونس و ليبيا ومصر، بحيث يتم تدريجيًّا استقطاب ما أمكن من هؤلاء للعمل لصالح الكيان الصهيوني وترويج مقولاته، أو الكف عن المواقف التي تفضح إرهاب الكيان النازي وجرائمه، وقد تم منح الإقامة الذهبية للعشرات من الفنانين والكتاب والمثقفين لهذه الغاية لتقييد الفكر الحر وقلب الحقائق، وبالفعل استجاب العديد من الحاصلين على الإقامة لذلك الأمر، كما تم توظيف أفواه البعض عبر الترغيب والترهيب كما أراد الموساد الصهيوني الذي هدد بفضح الحكام في حال لم ينجح ذلك، هذا الفضح يشمل فيديوهات ممارسات جنسية مشينة، والكشف عن سرقات من الشعب وصفقات مخدرات وغير ذلك مما هو مشين، لهذا نرى أن الفاسدين من حكام وأمراء العرب واللصوص هم الأقرب للكيان الصهيوني.
يمكن استنتاج حقيقة قائمة اليوم، مفادها أنه ليس من قبيل مصادفة ما أن حارق القرآن الكريم والهاجمين على الإسلام ومادحي الصهاينة وإرهابهم" الديمقراطي" ومن يبثون مقولات تتوهم القدرة على تزوير أو نفي التاريخ سواء الفلسطيني أو العربي والإسلامي والمسيحي العروبي كلهم كتلة واحدة، فحارق القرآن في السويد يزعم أن "جبل الهيكل" في الأقصى الذي يجب هدمه، وأن فلسطين لا تاريخ لها، وهو يتطابق بذلك مع ما يقول العميل الذي يسميه إعلامُ التطبيع مفكرًا المدعو يوسف زيدان، هذا يثبت بأن هؤلاء يخضعون للأوامر ذاتها ويستلمون سياقها ونصّها مكتوبًا حرفيًّا مقابل المال أو التهديد بكشف فسادهم تمامًا، كحكام الإمارات العربية المحتلة وأعوانهم، لكن ما يجمع هؤلاء جميعًا ذلك الاضطراب النفسي والعصبي والشح الثقافي، وهو نتاج طبيعي لاضطراب البنية الثقافية.
لا يمكن خلق الثقافة بتعليمات، كما يستحيل خلق مثقّفٍ بقرار، هذا مُشابِهٌ من جانبٍ ما للخطأ الذي ارتكبته الأنظمة الوطنية والقومية، بل وحتى الأحزاب الثورية التي ظنت وبعضها مازال يعتقد على الرغم من الفشل المتكرر بأن المثقف قد يصنع صناعة أو يتكون بقرار سلطوي أو حزبي، فالثقافةُ في جوهرها جهد فردي أوّلًا تنجم عن معركة مع الذات، وتتطور بالاطلاع والبحث والقراءة والتفكُّر، فهي تتفاعل بديناميكيّة جُوانيّة يختلط فيها العقلي بالروحي بحيث يمتزجان معًا لتكوين رؤيةٍ متماسكةٍ تُضحي أصيلةَ الفَحوى مع تنامي المعرفية والمعلوماتية، هكذا يتمُّ صَقل رُمح الثقافة وتكوُّن شخصية المثقف التي يعجز المال عن تحويرها أو حرف مسارها؛ ذلك أن المال حاجة حياتية ضرورية لتسيير المعاشي اليومي، أما الثقافة فهي سبك للمعنى وحفر عميق في الذات لا يمكن تغييره وتحويله إلا بقناعة متجددة تقفز على المصلحية، هذا يفسر الحالة المَرضيَّة لمن يدَّعون الأستذة والثقافة ممن يمكن شراؤهم، كما يفسر اضطراب مقولاتهم الصادرة عنهم كحال مُدَّعي الفكر يوسف زيدان مثلًا، وهو الأمر الذي يؤكد في الوقت ذاته تراجع تنظيم ميليشيا الثقافة التطبيعية الصهيونية، بل ويؤكد ولادتها الميّتة في جنينيتها، فالثقافة صقل وتشذيب للذات لا استلهام أو بناء مقولة ببغاويّة عليلة، وسوف نشهد لهذه الأسباب قريبًا تلاشيًّا كاملًا لميليشيا الثقافة الصهيونيّة هذه، ذلك لا يدخل في نسق التوقُّع، بل في إطار نظريّة الحتميّة.