منذ حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة المستمرة منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي 2023، يعاني القطاع من تدهورٍ بيئيٍ وصحي خطير بسبب تراكم النفايات الصلبة في الشوارع.
أدّى العدوان الصهيوني إلى تدمير البنية التحتية في القطاع، بما في ذلك شبكات جمع النفايات، مما ساهم في تكدس كميات ضخمة من النفايات في الشوارع، حيث خلّف انتشار النفايات آثارًا مدمرة على صحة وحياة السكان، أدّى ذلك إلى تفشي الحشرات والقوارض، مما زاد من مخاطر انتشار الأمراض، فتحلل النفايات يطلق غازات ضارة مثل الميثان وثاني أكسيد الكربون، التي تلوث الهواء وتسبب روائح كريهة وانتشار الأمراض المعدية بين آلاف المواطنين، لاسيما الكبد الوبائي والأمراض الجلدية، إضافة إلى ما يسببه من تلوث للأراضي الزراعية وطبقة المياه الجوفية، حيث تتسرب الملوثات إلى التربة، كما أنّ عبث الأطفال بالنفايات المتراكمة ينقل عدة أمراض خطِرة إليهم.
أصبح تراكم النفايات في شوارع القطاع مأساة حقيقية، ولم يعد هناك خيار سوى اللجوء إلى حرقها للتخفيف من الأضرار الناتجة عنها، لكن هذا الحل نفسه يُعدّ مأساة أخرى؛ فعملية الحرق، بما تحتويه من مكونات ملوثة مثل البلاستيك والمواد الكيميائية البترولية والصناعية، تُنتج كميات هائلة من السموم المسرطنة والغازات السامة التي تضر بصحة الناس وتقتلهم بصمت دون أن يشعروا.
ومع دخول فصل الشتاء، تتفاقم الأزمات البيئية في قطاع غزة، حيث يزيد تكدس النفايات في الشوارع من تعقيد الوضع البيئي والصحي، كما أنّ الأمطار الشتوية قد تؤدي إلى تجمع المياه في الأماكن الملوثة بالنفايات، مما يعزز من خطر انتشار الأمراض.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء وسلطة جودة البيئة، فإنّه ومنذ بدء العدوان الصهيوني وكميات النفايات الصلبة تتراكم يوماً بعد يوم بسبب نفاد الوقود ومنع الاحتلال طواقم البلدية من الوصول للمكبات الرئيسة في القطاع بالإضافة إلى تعرُّض سيارات جمع النفايات وحاوياتها للتلف والضرر، وتدمير الشوارع الذي أوقف حركة النقل، وهو ما جعل التعامل مع هذه الكميات الهائلة صعباً، فضلاً عن غياب إمكانات التخلص منها، حيث تم تدمير حوالي 100 مركبة وآلية لجمع ودفن النفايات.
كما تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن ما لا يقل عن 270,000 طن من النفايات (بواقع 170,000 طن في الجنوب، و100,000 طن في الشمال) قد تراكمت في مواقع المكبات المؤقتة التي أنشأتها البلديات مؤخراً على مقربة من المناطق السكنية بسبب عدم وجود خيارات قابلة للتنفيذ، حيث لا تجد هذه النفايات طريقاً الى مكبات النفايات الصحية.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة بتاريخ 29 يونيو/حزيران 2024، أن المستشفيات تعاملت مع أكثر من 100,000 حالة إصابة بالتهاب الكبد الوبائي “أ”، و880.000 حالة من أمراض الجهاز التنفسي، إضافة إلى تفشي الإسهال والتهابات الجلد.
المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه قال إنّ كمية النفايات المتراكمة في مدينة غزة تجاوزت 160 ألف طن، مشيرًا إلى أنّ هذه الأزمة نتجت منذ بداية العدوان بعد منع الاحتلال طواقم البلدية من الوصول إلى المكب الرئيسي للنفايات في منطقة جحر الديك شرق المدينة، مما اضطر البلدية إلى جمع النفايات في مكبات عشوائية مثل سوق فراس ومنطقة اليرموك.
وأوضح النبيه خلال حديثه لـ"الهدف الإخبارية"، أنّ جيش الاحتلال دمّر أكثر من 80% من الآليات الثقيلة والمتوسطة التابعة للبلدية، وهي الآليات التي كانت تقوم بمهام جمع وترحيل النفايات من الأحياء والشوارع المختلفة، كما أشار إلى أنّ هناك شحاً في الوقود اللازم لتشغيل ما تبقى من الآليات، مما جعل عملية تنظيف المدينة صعبة ومعقدة، وأدى ذلك إلى تفاقم الأزمة في ظل ضعف الإمكانيات المتاحة.
وأضاف: "نتيجةً لهذه الأزمة، هناك انتشار للأوبئة والأمراض، خاصةً الجلدية والمعوية، بالإضافة إلى تفشي القوارض والحشرات بشكل ملحوظ، لافتًا إلى أنّ هذه الحشرات والقوارض تحمل العديد من الأمراض التي تهدد صحة المواطنين.
وأشار النبيه إلى أنّ البلدية تعتمد في الوقت الحالي على حلول مؤقتة غير جذرية وغير مستدامة لمواجهة الأزمة، مثل جمع بعض المكبات العشوائية من داخل الأحياء ونقلها إلى مكب آخر غير مجهز في منطقة سوق فراس، الذي يوشك على الامتلاء، كما تعمل البلدية بالتعاون مع لجان الأحياء والمجموعات الشبابية على تنظيف بعض الشوارع الرئيسية وبعض المكبات الكبيرة في وسط الأحياء، لكن هذه الجهود تبقى محدودة في ظل الحاجة الكبيرة إلى الإمكانيات والموارد.
وفي ختام حديثه مع "الهدف"، طالب النبيه المنظمات الدولية والأممية بالتدخل العاجل لتخفيف حدة أزمة النفايات التي يعاني منها المواطنون في قطاع غزة، مؤكداً أنّ الوضع بات يتطلب استجابة فورية لمواجهة هذه التحديات الصحية والبيئية الكبيرة.
من جهته، قال الخبير البيئي سعيد العكلوك، إنّ النفايات بأنواعها المختلفة تُشكل تهديدًا كبيرًا على الصحة العامة والبيئة في قطاع غزة، وتنقسم النفايات إلى ثلاثة أنواع: النفايات المنزلية، النفايات الصناعية، والنفايات الطبية، مشيرًا إلى أنّ كل نوع منها يسبب تأثيرات صحية وبيئية تختلف عن الأخرى.
وأوضح العكلوك في حديث لـ"الهدف الإخبارية" أنّ تكدس النفايات في الشوارع يتسبب في تكوّن مادة تسمى "العصارة"، وهي سائل ملوث يتسرب من النفايات، هذه العصارة تحتوي على مجموعة من السموم التي تتسرب إلى التربة، مما يؤدي إلى تلوثها، خاصة في المناطق ذات التربة شديدة النفاذية مثل مناطق النزوح في المواصي، ومع هطول الأمطار يتسرب هذا السائل إلى الخزان الجوفي الذي هو مصدر المياه الوحيد لدينا.
وأضاف أنّ كمية البلاستيك الموجودة في النفايات تؤدي إلى تدهور التربة، نظرًا لعدم قدرة البلاستيك على التحلل بشكل سريع، وبالتالي، يصبح المكان الذي يحتوي على البلاستيك أو النفايات الصلبة غير صالح للزراعة والاستخدام بعد ذلك.
ولفت العكلوك في ختام حديثه إلى أنّ حرق النفايات يؤدي إلى تلوث الهواء بشكل خطير، خاصة عند احتراق البلاستيك والمواد العضوية، تنتج عن هذه العمليات جزيئات دقيقة جدًا، تنتشر عبر الرياح من المكان الذي تم فيه الحرق إلى أماكن بعيدة، مما يشكل تهديدًا للصحة العامة، لاسيما للأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الجهاز التنفسي.
كل ما سبق ليس إلا نتيجة طبيعية لسياسة ممنهجة يتبعها الاحتلال في عدوانه على قطاع غزة، فمن تدمير البنى التحتية، لهدم المنازل بل ومدن بشكل كامل، لاستهداف الطواقم العاملة في المجالس المحلية والبلديات، وصولاً إلى تراكم النفايات الأمر الذي قصده الاحتلال من سياساته، وكلها جرائم لجعل غزة غير قابلة للحياة.