في زحمة هذا العالم المتأرجح بين الأمل واليأس، ينبثق صوتٌ لا يُشبه سواهُ، صوتٌ كُتب له أن يكون جزءاً من وجدان أمّة. يحمِل صداهُ ذاكرةَ الأرض، وجعَ الإنسان، وأحلاماً لا تموت. فيروز، ليست مجرّدَ صوتٍ أو أغنيةٍ، بل هي حالةٌ تجعلنا نُدرك أن الفنّ قادرٌ على ترميم الشّروخ التي تتركها الأيام، وأنّ الحلم يمكن أن يُعاد تشكيلُه، حتّى في حضرة الخراب.
ذلك الصوت الذي يتسلّل إلى صباحاتنا كما تتسلّل أشعّة الشمس إلى قلب الظلام، لم يكن مجرّدَ موسيقى تُعزَف على وتر الشجن، بل بوابةٌ نحو الماضي، نحو الحكايات التي تركناها خلفنا. صوتٌ يختزل رائحةَ صباح المدرسة، وتوهّجَ الجامعة، ورهبةَ العمل الأوّل، وارتباك الحب الأوّل. كان وما زال وطناً بحدّ ذاته، وطناً نحلم فيه بالإستقرار، وبالبيوت الآمنة، وبالشوارع الخالية من الخوف.
حين نسمع صوت فيروز، يبدو الزمن وكأنّه يتوقف، ليُعيدنا إلى وطنٍ لا يُشبه ما أصبحنا عليه. في صوتها يسكن لبنان الأخضر، لبنان الذي كان يوماً جنّةً صغيرة، وموئلاً للجمال والإنسانيّة. ولكن، على أطراف هذا الحُلم، يقف واقعنا العربي كجرحٍ مفتوحٍ، محاصراً بالحروب والانقسامات، في تناقضٍ صارخ، يمنحنا صوتُها السكينةَ وسط صخب واقعٍ ينزف ألماً؛ كان صوتها أشبه بقنديلٍ في ليلٍ طويل.
في عالم صوت فيروز، حيث تسكن السكينة وتتراقص الأرواح على أنغام "الست الختيارة"، نعيش لحظاتٍ من الطّمأنينة التي تُنسي هموم الحياة. لكن سرعان ما ينهار هذا الهدوء ليواجهنا صخبُ الواقع المأساويّ بكلّ مرارته، حيث تظل الأسئلة معلقةً في الفضاء: "بحرب الكبار، ما ذنبُ الطفولة؟ وما ذنبُ الضحكات الخجولة التي تغني بها الأرواح البريئة؟"
هنا، يُبرز التناقض الحادّ بين الطّمأنينة التي تُهدّئ قلوبَنا مع كلّ لحنٍ فيروزي، وبين قسوة عالمٍ لا يرحم، حيث تتعرض الطفولة، التي لم تعرف بعد طعمَ الصراع، لتداعيات الحروب التي يشنّها الكبار. فتظل الطفولة، بكلّ عفويتها وبراءتها، ضحيةً للأحلام المدمّرة التي لا يملك أبناؤها إلا أن يشهدوا على خرابٍ لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
في صوتها وعدٌ بوطنٍ يُبعث من الرماد. حين غنّت " قلتلن بلدنا عم يخلق جديد "، لم تكن تصف واقعاً، بل كانت تصنع صورةً لوطنٍ نتوق إليه، وطنٍ لا يعرف الحربَ ولا يعرف الخوف؛ وعندما اجتاحت إسرائيل الجنوب لجأ كثيرون إلى أغانيها " خلصوا الأغاني هني ويغنوا عالجنوب "؛ كلماتها كانت درعاً معنويّاً تحمي الحُلم من الإنهيار.
وعندما طاول القصف بعلبك وهدّد قلعتها، غنى كثيرون " بتروح كثير وبتغيب كثير وبترجع عا دراج بعلبك " صرخةَ تحدٍّ، تعيد بنا الارادة في قلوب سامعيها.
في مواجهة الحرب غنّت فيروز لبناناً مختيّلاً، يطغى فيه سحرُ الوطنية على قذارة الاحتلال والتقسيم. بصوتها، كانت تمحو كلّ عائقٍ أمام يوتوبيا منشودة، ترسمها بجملةٍ واحدة: " قلتلن بلدنا عم يخلق جديد، لبنان الكرامة والشعب العنيد ".
صوتها كان الملاذَ الوحيدَ من زمن الحروب، الجسرَ الذي عبرنا من خلاله الى قلب الذكرى. أغانيها لم تكن مجرد قصائدَ مغناة، بل مرآةً تعكس ملامح الوطن الجريح. كانت صمتاً مليئاً بالكلمات، وهدوءاً يحمل في طيّاته صرخةً وجوديّة.
ورغم أن صوتها انطلق من لبنان، إلا أنّه تجاوز الحدود ليصبح مرآةً تُعكس فيها ملامحُ الأمة. من القدس إلى بغداد، ومن دمشق إلى القاهرة، كان صوتُها يوقظ الذّاكرة المشتركة للعرب، ويعيد تشكيل هويتهم في زمنٍ كادت فيه الهوية أن تتلاشى.
عندما غنّت " زهرة المدائن "، كان صوتها صلاةً للقدس، مدينةً تئنّ تحت وطأة الاحتلال، لكنّها تقف شامخةً كأمٍّ لا ينال منها الزمن. لم تغنِّ للقدس كعابرةِ سبيلٍ، بل كمن يعرف حكايتها، مآذنها وأبوابها العتيقة، أحجارها التي تحفظ ذاكرةَ الأنبياء والجرح الذي لا يندمل.
لم تكن فيروز مجرّد مغنية، بل واحةً في صحراء الألم. أعطت للوجع صوتاً، وللحلم أجنحة، وللصمود روحاً؛ في عيدها التسعين، لا نحتفل بسنوات عمرها فقط، بل بخلودها في القلوب. فيروز ليست زمناً مضى، بل لحظةً دائمة، ترافقنا في افراحنا واحزاننا، في انكساراتنا وأحلامنا.
صوتها كان ولا يزال صوت الكرامة الإنسانية. حين غنّت للبيوت الصغيرة والشبابيك التي تفتح على الحلم، صاغت معادلة البقاء. كان صوتها هدوءاً يحمل في داخله صرخةً وجوديّة: لن يموت الإنسان ما دامت روحه تؤمن بالحبّ والسلام.
في عيدها التسعين، نقف أمام صوتها كما يقف العطشى أمام النبع. نشكرها لأنها أعطت للوجع صوته، وللحلم ملامحه، وللصمود روحه. كانت أمّاً للوطن الجريح، ورفيقةً للحالمين، وصديقةً للذين يؤمنون بأن الحلم العربي لم يمت.
فيروز، صوتكِ ليس فقط أغنية، بل عهدٌ بأننا، مهما سقطنا، سننهض. سنعود، كما قلتِ، "من شوارع، من حرايق، وهزيمة هالمدافع"، سنبني، كما وعدتِ، "من حجاره يعلي بيوت". لأن صوتكِ، يا صوت السماء، سيبقى يُنير الطريق، ويعلّمنا أن الحب، مهما انهزم، أقوى من الخوف.