تتبنى المقاومة الفلسطينية في شمال قطاع غزة أنماطاً قتالية نوعية تعود إلى عهدِ البدايات، إذّ اعتمدت في الأيام القليلة الماضية تكتيكاً عسكرياً فعالاً ومتجدداً أرعب منظومة العدو العسكرية من خلال تنفيذ عمليات "الاشتباك المباشر" من المسافة صفر من خلال الطعن بواسطة السلاح الأبيض بالسكاكين والعمليات الاستشهادية الفردية باستخدام "الأحزمة الناسفة" وتفجيرها من المسافة صفر، الأمر الذي أرهق جيشه وجعله مستنزفاً ويتكبد خسائر بشرية كبيرة.
وفي عملية تُعد الأولى من نوعها منذ بدء عدوان الاحتلال على القطاع في السابع تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، تمكن أحد المقاومين من كتائب القسام يوم الجمعة الماضي، من الإجهاز على جندي صهيوني قناص ومساعده من مسافة صفر طعناً بالسكين، مشيرةً إلى أنّ المقاوم ذاته تمكّن من التنكر بزي أحد الجنود والتسلّل إلى وسط ستة منهم، مفجّراً حزاماً ناسفاً كان يرتديه وسطهم، ما تسبّب بمقتل وإصابة الجنود الستة.
وتوالت العمليات تباعاً التي لم يعهدها ضباط وجنود الاحتلال الصهيوني في ساحة المواجهة، إذّ أعلنت "الكتائب" ذاتها يوم السبت الماضي، من قتل ضابط وجرح ثلاثة جنود طعناً بالسكين قبل أن يغنم أسلحتهم في وسط مخيم جباليا، أما يوم أمس الإثنين أعلنت "القسام"، أنّ مقاوميها تمكنوا من طعن وقتل 3 جنود من مسافة صفر واغتنموا أسلحتهم، لافتةً إلى أنّ المقاومين تمكنوا من إخراج عدداً من المواطنين الذين احتجزهم الاحتلال داخل المنزل في مشروع بيت لاهيا.
قتالاً وجهاً لوجه وإمداداً بديلاً للمقاومين
وهذا التحوّل اللافت في المعركة، يعبر عنه الكاتب والباحث في الشأن السياسي، مدير مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي أحمد الطناني، بأنّه تكتيكات وأدوات قتالية فعالة استخدمتها المقاومة وفقًا للإمكانيات المتاحة، كما تضمنت أيضاً العمليات الاستيلاء على سلاح الجنود، لتحويله إلى شكل من أشكال الإمداد البديل للمقاومين.
ويؤكّد الطناني في حديثٍ مع "بوابة الهدف"، أنّ "هذه العمليات تبين مستوى الاشتباك وضراوة القتال بين قوات الاحتلال والمقاومين الذي قد وصل في العديد من المناطق إلى القتال وجهًا لوجه دون أي مسافات فاصلة، وهو ما أكده أحد ضباط جيش الاحتلال في مقابلة مع صحيفة "يديعوت" حول كون المواجهة عبر الأزقة هي مواجهة وجهًا لوجه مع مقاتلين لا يعرفون الخوف ولا المهابة ولا يخشون الموت ويرفضون أن يتعرضوا للاعتقال".
عمليات فدائية ترفع كلفة بقاء الاحتلال
ويقول الطناني: "العمليات الأخيرة أظهرت نموذجاً عن أدوات الالتحام الشعبي في حالة بقاء الاحتلال على الأرض، حيث تُعطي المقاومة نموذجًا مصغرًا حول طبيعة الوضع في حال قررت قيادة الاحتلال فرض الحكم العسكري على القطاع"، مضيفاً أنّها "رسالة من الميدان أن الحصار المُطبق على المناطق ونزول الجيش على الأرض والتعامل بشكل مباشر مع السكان وقيامه بأنشطة ذات طبيعة مدنية، بما يشمل ما تضغط حكومة الاحتلال على الجيش لتنفيذه مثل توزيع المساعدات، سيعني أن عمليات الطعن القاتلة للجنود، والعمليات الفدائية والاستشهادية، والأحزمة الناسفة ستكون في انتظار حركة الجنود في كل شارع وزقاق، وأن نماذج وأدوات القتال الشعبي الواسع جاهزة، والمقاتلون مستعدون للانتقال لأنماط عمل جديدة تلائم كل مرحلة".
ويبين مدير مركز عروبة، أنّ المقاومين يعملون بكل الوسائل لرفع كلفة بقاء جيش الاحتلال على الأرض في مخيم جباليا، وعبره كنموذج عن باقي أراضي قطاع غزة، إذ أن مصير استمرار هذا البقاء سيكون المزيد من الجنود القتلى العائدين في أكفان إلى عائلاتهم من المستوطنين، لتُعطي إشارات واضحة حول كلفة كل خطوة "إسرائيلية" مستقبلية، مشيراً إلى أنّ الضغط العسكري الأقصى لن يفلح في دفع المقاومين إلى الاستسلام أو محاولة الانسحاب أو تسليم أنفسهم، بل أن استمرار وزيادة الضغط العسكري سيُجابه باستحداث أدوات مواجهة جديدة والمزيد من العمليات التي تستهدف جنود الاحتلال.
ويلفت الطناني، إلى أنّ إعلانات المقاومة عن العمليات المذكورة وكل العمليات بشكل تفصيلي بالمكان والزمان، وبسرعة قياسية، تُشكل دليلًا على أن هذه العمليات ليست اجتهادًا ميدانيًا بمعزل عن القيادة، ولا خيارات يائسة من المقاومين، بل هي ضمن قرارات صادرة عن منظومة القيادة، وتؤكد على سلامة خطوط الاتصال وشبكة المقاومة الداخلية التي عمل الاحتلال جاهدًا لقطعها وتفكيكها على مدار أيام الحرب العدوانية على القطاع.
المقاومة من الميدان توجه دفة المفاوضات الجارية
وبشأن تأثير تلك العمليات على سير المفاوضات الحالية، يؤكد الكاتب السياسي لـ "الهدف"، أنّ عمليات المقاومة تعكس بوضوح إصرارها على التأكيد بأن الضغط العسكري الكبير على قطاع غزة وإطالة أمد العمليات لن تفلح في إيصالها إلى نقطة الانهيار أو إيقاف زخم مواجهتها لجيش الاحتلال على الأرض، مبيناً أنّ الضغوط السياسية داخل حكومة الاحتلال لإفشال مساعي التهدئة الحالية، والضغط نحو استمرار التواجد العسكري في القطاع وفرض حكم عسكري عليه، وحتى إعادة الاستيطان، لن يكون بثمن مجاني، بل بثمن مضاعف وكبير جدًا من دماء الجنود والمستوطنين، وهو ما دفع الاحتلال للانسحاب من غزة عام 2005، وسيكون أضعافه مع تطور قدرة المقاومة العملياتية والتكتيكية، والعدد الكبير للمقاتلين في القطاع.
ويشير الطناني، إلى أنّ الاحتلال الذي أراد تحويل شمال القطاع إلى المحطة الأولى التي ينجح فيها بـ"تطهيرها" والقضاء على المقاومة، سيواجه معطيات معاكسة تمامًا لما أراده، إذ تشير المعطيات الميدانية بوضوح إلى أن كل أشكال القتل والتدمير والإبادة، وحتى القضاء على مظاهر الحياة، لن تنجح في دفع المقاومة إلى التراجع، أو القضاء على ممكنات المواجهة، ولن تمنح الاحتلال نموذجه الذي يريد، موضحاً أنّ المقاومة من الميدان توجه دفة المفاوضات بحسم العديد من الرهانات على الأرض، وبالتالي، فإنها تفشل خطط الاحتلال بكل قتيل وعملية واستهداف، وتؤكد أن جيش الاحتلال سيبقى يدور في دوائر مفرغة عنوانها الاستنزاف الأقصى، دون أن يحصد نتائج تمنحه "النصر المطلق" والاحتلال المجاني لقطاع غزة.
ويعتبر الطناني، أنّ هذه المعطيات تعزز بوضوح الاتجاه داخل حكومة الاحتلال الذي بات أكثر مرونة من ذي قبل للوصول إلى تهدئة، وحتى الانسحاب من داخل قطاع غزة، وهو ما كان يرفضه رئيس حكومة الاحتلال "بنيامين نتنياهو" حتى شهر مضى، لكنه الآن يعمل على تسويقه وتجهيز الأغلبية اللازمة لتمريره ضمن اتفاق تهدئة مع المقاومة وتبادل للأسرى.
تكييف وسائل قتالية حسب الميدان
بدوره، يقول المحلل السياسي نهاد أبو غوش، إنّ عمليات المقاومة المتصاعدة فاجأت جيش الاحتلال الذي اعتاد على خوض حروب في وقت قصير وحسمها سريعاً، لكنّ المقاومة في غزة صمدت لقرابة 15 شهراً، إذ أبدعت بطريقة فاقت جيوشاً ودولاً إمكانياتها تفوق ما لدى المقاومة بآلاف الأضعاف.
ويضيف أبو غوش في مقابلة مع "بوابة الهدف"، أنّ المقاومة الفلسطينية في غزة استطاعت تكييف استخدام وسائل قتالية حسب الوضع الميداني خلال مواجهة جيش الاحتلال، بدءاً من السلاح الناري والعبوات الناسفة وقذائف الياسين (105) وصولاً إلى السلاح الأبيض كالسكاكين والأحزمة الناسفة التي كانت تستخدم في العمليات الاستشهادية منذ عقدين وتستنزف الاحتلال.
التقنيات الحديثة لم تضمن للاحتلال السيطرة على الأرض
ويشير المحلل السياسي، إلى أنّه رغم الدمار الهائل الذي خلفه الاحتلال، وامتلاكه لأحدث التقنيات الجديدة، واستخدام الطيران والمسيرات والدخول برياً لعمق غزة، لم تكن عائقاً أمام المقاومين في تنفيذ عمليات ضد ضباط وجنود جيش الاحتلال من مسافة صفر، وتمكنهم من تحرير أسرى فلسطينيين كانوا بحوزته في مشروع بيت لاهيا، مبيناً أنّ كل التكنولوجيا الحديثة التي أدخلها في المواجهة، لم تمكنه من السيطرة على الأرض وتحقيق أهدافه الرامية لتهجير الفلسطينيين من أرضهم وتصفية القضية الفلسطينية، وهذا ما يدفعه لارتكاب جرائم إبادة جماعية والانتقام من المدنيين الأبرياء، وتدمير معظم مناحي الحياة".
ويرى أبو غوش، أنّ مجرد قدرة المقاومة على مواصلة عملياتها العسكرية وصمودها لأكثر من عام على الرغم من الحصار والخنق والتجويع والحرمان من جميع الموارد، تثبت حقيقة بديهية يعرفها المقاومون ويتجاهلها المحتلون وداعموهم، وهي أن المقاومة هي نتيجة إرادة الحياة والحرية والكرامة، وليست نتيجة التقنيات والإمكانيات المادية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ عمليات المقاومة البطولية في شمال غزة منذ 80 يومًا أسفرت عن مقتل 40 جندياً وضباطاً وإصابة العشرات منهم، وشملت عمليات المقاومة تدمير أكثر من 100 آلية عسكرية، وتنفيذ 17 عملية قنص، و26 اشتباك مباشر مع قوة راجلة.