يقتصر المسيحيون في قطاع غزة للمرة الثانية على التوالي، عيد الميلاد المجيد على بعض الطقوس والشعائر الدينية، تخللها أداء صلوات داخل كنيسة العائلة المقدسة للاتين ليل الثلاثاء الماضي، تدعو بإنهاء عدوان الاحتلال الصهيوني المستمر لقرابة 15 شهراً، إذّ لن تضاء شجرة "الكريسماس" كالمعتاد، حيث بهتت ألوانها وظهر حزنها على القلوب الغائرة بالموت والدمار وشتى أصناف المعاناة، الأمر الذي جعل الكنائس تعلن عن بدء رأس السنة بثوب الحداد ودون مظاهر الفرح والبهجة.
ومنذ بدء عدوان الاحتلال في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023م، تعرضت الأماكن المقدسة الدينية وتحديداً الكنائس للقصف والدمار إلى جانب استهداف وقتل المسيحيين، فضلاً أنّ بعضها أصبحت مراكز إيواء تضم النازحين من المسلمين والمسيحيين، إلى جانب تحول جزء منها لاستقبال المرضى والجرحى.
وتختفي أصوات الترانيم وزينة الميلاد بسبب تواصل عدوان الاحتلال، حيث استبدلت بأجواء الحزن وأصوات القنابل والقصف الذي طال الساعات الأخيرة كافة محافظات القطاع، والظروف القاسية ومشاهد الدمار والنزوح والدماء والإبادة الجماعية التي تمحو أي مظاهر للسعادة والاحتفال برأس السنة الميلادية، بالإضافة إلى أنّ الاحتلال يحرم مئات المسيحيين داخل غزة من المشاركة في عيد الميلاد الذي ينظم سنوياً في مدينة بيت لحم لعام ثانٍ آخر.
اختفاء مظاهر الاحتفال
ويمر عيد الميلاد على الفلسطيني المسيحي جرجس عياد وعائلته، دون احتفالات أو زينة وورود، يقول لـ "بوابة الهدف"، إنّه "في مثل هذه الأيام من كل عام، كنا نزين الكنائس وبيوتنا بالإضاءة وشجرة الميلاد ونملؤها بالورود والزينة، ونتبادل الهدايا ونزور بعضنا البعض".
ويضيف عياد، لـ "بوابة الهدف"، أنّ "جيش الاحتلال حرمنا للعام الثاني من أداء طقوسنا في الوقت الراهن بالكنائس حيث كنت أرتاد يوميًّا الكنيسة للصلاة، وخصوصاً في أيام الآحاد والأعياد الدينية"، مشيراً إلى أنّ "الاحتلال استهدف دور العبادة كالمساجد والكنائس بالقصف لأنّه لا يفرق بيننا ويعتبر كل فلسطيني عدواً له، ومعظم الطائفة المسيحية في القطاع محرمون من العيد، ويشاركون رفقاءهم المسلمين بطش الاحتلال الهمجي ومعاناة خيام النزوح والجوع والخوف والقتل".
ويؤكد جرجس أنّه "لا توجد مراسم وأجواء احتفال بالعيد ولن تضاء شجرة الميلاد، ولن يغني بابا نويل للأطفال ويلعب معهم ويشاركهم في حمل الشموع ودق الطبول"، مبيناً أنّ "مئات المسيحيين في كل عام كانوا يزورون مدينة بيت لحم جنوب الضفة المحتلة للاحتفال بالعيد المجيد في كنيسة المهد، لكن منذ عامين لم يتمكنوا من ذلك بسبب العدوان ومنع الاحتلال"
ويلفت عياد، إلى أنّ "المسيحيين جزءٌ من هذا المجتمع، ولا يمكنهم الاحتفال بينما الغزيون يُقتلون ومعظمهم ينعون أحباءهم من حولهم"، مؤكداً أنّه "حزين جداً بسبب الكارثة التي حلت بالقطاع".
ويشير عياد، إلى أنّ "الأمل من وسط الألم موجودٌ في قلوب المسيحيين، لا سيما وأن عيد الميلاد لهذا العام اقتصر على أداء صلاة من أجل السلام وإنهاء الحرب المستمرة لأكثر من 450 يوماً واحترامًا للأرواح التي تزهق كل يوم في غزة"، متمنياً وقف المعاناة وأنّ يعم السلام والأمان على القطاع وانتهاء الحرب في أسرع وقت ممكن.
وعلى مدى عقود تناقصت أعداد المسيحيين في غزة بفعل الهجرة، وقبل العدوان الجاري كان عددهم لا يزيد عن 2000 شخص، أما حالياً يقدرون أقل من 1000 مسيحي، وهم يشكلون نسبة صغيرة من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 2,4 مليون نسمة، وهم يتوزعون على كنيستين، إذ تضم كنيسة الروم الأرثوذكس نحو 250 منهم، فيما تضم كنيسة دير اللاتين نحو 400 آخرين.
استهداف الكنائس ودور العبادة
ومنذ بدء العدوان لم تسلم المؤسسات المسيحية في القطاع من التدمير والاستهداف، ففي أكتوبر 2023م، قصفت طائرات الاحتلال مبنى المستشفى الأهلي المعمداني، ومجمع كنيسة "القديس بيرفيريوس" اللتان كانتا تعدان ملاذاً لكل من المسيحيين والمسلمين خلال الحروب المتلاحقة ضد غزة، والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية الأقدم في مدينة غزة الواقعة في حي الزيتون، والمركز
الثقافي والاجتماعي العربي الأرثوذكسي، ومدرسة الراهبات الوردية، وكنيسة العائلة المقدسة، ودير راهبات المحبة، وجمعية الشبان المسيحية، وغيرها.
بيت لحم و القدس يتضامنان مع غزة
وتحوّلت أجواء عيد الميلاد في القدس وبيت لحم إلى لحظات من الحزن والتضامن، ففي مثل هذه الأوقات كانت شوارع وأزقة وكنائس المدينتين تتزين بحلّة الميلاد، وتُنصب في ساحة "كنيسة المهد" الشهيرة إحدى أجمل أشجار الميلاد في العالم، وسط حركة سياحية نشطة، لكنها غابت للعام الثاني، واستبدلت بالصلوات والتضرعات من أجل ضحايا الحرب.
وفي الإطار، زار بطريرك القدس للاتين بيير باتيستا بيتسبالا غزة يوم الإثنين الماضي، وترأس الكاردينال احتفال عيد الميلاد وحث الحضور على "الصمود"، وأجرى جولة تفقدية استعرض خلالها عمليات توزيع المساعدات وقيّم الاحتياجات الملحة.
وقال البطريرك، في كلمةٍ له أمام حشد من المسيحيين: "أود أن أوصل لكم سلام غزة وتهانيها بالعيد، وصلت منها ورأيت حجم الدمار الشامل في كل مكان، لقد حلت بها كارثة الكوارث"، مضيفاً "لاحظت أنه لا أحد في غزة استسلم، وأنتم ونحن علينا ألا نستسلم أبداً".
وأكّد البطريرك، أنّ "مدينة بيت لحم تحتفل هذا العام بـميلاد حزين بسبب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال بقطاع غزة الذي يعيش كارثة الكوارث"، مبيناً أنّه عندما دخل المدينة لاحظ دكاكين مغلقة، وهذا دلالة على عمق الحزن الذي أصاب المسيحيون، كما أعرب عن أمله في أن تنتهي المأساة المستمرة في غزة والمنطقة بأسرها، لتكون بداية لمستقبل أكثر إشراقًا وسلامًا للجميع
رفض التهجير وقرار البقاء رغم العدوان .
أما عضو مجلس وكلاء الكنيسة العربية الأرثوذكسية في قطاع غزة إلياس الجلدة، قال إنّ "مسيحيي غزة تمسكوا بالبقاء في شمال القطاع، أسوة بأبناء شعبهم"، مشيراً إلى أنّ "المسيحيين احتموا في الكنيسة وقرروا لاحقاً الدفاع عنها خشية هجوم الاحتلال عليها، كما فعل بالمساجد".
وأكد الجلدة في تصريحات صحفية، أنّ "قرارنا واضح لن نغادر المكان لأننا تاريخيًا نعيش فيه، ورفضنا أن نهاجره"، مبيناً استشهاد 23 شخصاً وإصابة آخرين من المسيحين في غزة نتيجة القصف والاستهداف، وحوالي 7 شهداء بفعل نقص الأدوية والغذاء، وهم يشكلون 3% من إجمالي عدد المواطنين المسيحيين بغزة.
وأشار الجلدة، إلى أنّ سلطات الاحتلال هاجمت الكنائس مرات عدة، وكذلك المراكز التابعة لها، في محاولة للضغط على السكان للرحيل نحو الجنوب، لكن السكان تمسكوا بأرضهم وصمدوا في وجه العدوان، لافتاً إلى أنّه "لا توجد مؤسسة مسيحية لم تتعرض للاستهداف، فقد دُمّر المركز الثقافي الأرثوذكسي بالكامل، وهو أكبر مركز ثقافي في المدينة، كما تم استهداف مدرسة العائلة المقدسة، واستشهد العشرات فيها، وقُصفت كنيستا المعمداني وبرفيريوس".
وأوضح الجلدة، أنّ "الحي المسيحي الذي يسكنه غالبية المسيحيين في منطقة الرمال، تعرض للتدمير بشكل شبه كامل، إلى جانب تدمير مقر جمعية الشبان المسيحية، والعديد من المدارس التابعة للكنائس مثل مدرسة الراهبات الوردية، كما انتشر القناصة حول كنيسة دير اللاتين التي تعرضت لإطلاق نار متكرر"، مؤكداً أنّ الاحتلال دمّر منازل المسيحيين المحيطة بالكنائس، بالإضافة إلى استهداف المرافق الأخرى التابعة لهم.
وبين الجلدة، أنّ "المسيحيين في غزة مثلهم مثل أبناء شعبهم دفعوا الثمن وعاشوا كل الظروف الصعبة، وقرارهم حاسم إمّا العيش في مناطقهم شمال القطاع أو أن يُدفنوا فيها"، مشيراً إلى أنّ
الاحتلال دمّر البلدة القديمة في غزة، التي يعود تاريخها لأكثر من ألفي عام، وتعمّد تدمير المناطق الأثرية مثل المسجد العمري وحمام السمرة وغيرهما من المعالم التاريخية التي طالتها حرب الإبادة.
3% من المسيحيين قتلهم الاحتلال
من جانبه، قال مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، إنّه استشهد أكثر من 20 فلسطينيًا من المسيحيين، بينهم نساء وأطفال وكبار السن، أي يعادل 3% من إجمالي عدد المسيحيين في القطاع، بجريمة إبادة جماعية تضاف إلى سلسلة الانتهاكات المستمرة ضد الإنسانية، مبيناً أنّ "هذه الأرقام تكشف حجم المعاناة التي يعيشها المجتمع المسيحي الفلسطيني جراء العدوان الصهيوني المستمر".
وأشار الثوابتة، في بيان، إلى أنّ الاحتلال لا يحترم الأديان السماوية، حيث يعتمد في عدوانه على استهدافات مباشرة وقصف ممنهج طال المنشآت الدينية للمسيحيين في غزة، حيث دمر ثلاث كنائس رئيسية بواسطة القصف الجوي المدمر، وهي الكنيسة المعمدانية وهي الوحيدة للبروستانت، والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وكنيسة القديس برفيريوس، وكنيسة العائلة المقدسة للاتين، في انتهاك صارخ للمواثيق الدولية التي تضمن حماية دور العبادة.
وأكد مدير الإعلامي الحكومي، أنّ استمرار استهداف المسيحيين في غزة ليس مجرد أرقام، بل هو مساس بالوجود الفلسطيني بكامله، مشدداً أنّ غزة بمسلميها ومسيحيها، ستظل قلعة صمود وتحدٍ في وجه محاولات الاحتلال للإبادة.
وطالب الثوابتة، المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية بالتدخل الفوري لوقف جرائم الاحتلال المتكررة ضد الفلسطينيين بمختلف أطيافهم، وضمان حماية دور العبادة من الاستهداف المستمر، التي تمثل تطهيرًا عرقيًا وجرائم حرب.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كنيسة القديس بوفيريوس وكنيسة العائلة المقدسة في مدينة غزة تحولتا إلى مأوى للمسيحيين الباحثين عن ملجأ خلال عدوان الاحتلال على القطاع، كما تم إعادة استخدام الكنيسة المعمدانية، كغرفة طوارئ للمستشفى المعمداني على نفس الأساس.