لم توجد دولة على وجه الأرض تهدس بزوالها وتخاف سقوطها وتتنبأ بتوقيته من قبل أن يحدث كما هو حال (دولة ) الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية منذ عام ١٩٤٨.
يعود هذا الهوس إلى الوسواس التاريخي الذي يشير ( حسب مزاعمهم) إلى أن أي الكيان ( اليهودي) لن يدوم أكثر من ثمانية عقود وهو ما يسميه المؤرخون الإسرائيليون ( لعنة العقد الثامن ) وخاصة أولئك الذين أعادوا صياغة التاريخ الصهيوني بلغة الحق ونكهة الحقيقة بعد أن اطلعوا على الأرشيف السري لأحداث النكبة في أروقة المؤسسات البريطانية منذ ثمانينيات القرن الماضي وصاغوا الحقيقة كما هي من دون تزوير أو تحريف من تهجير ومجازر وقتل وتعذيب وصولاً إلى ما يسمى التطهير العرقي الذي وصفه أفضل وصف المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه والذي قال في كتابه ( التطهير العرقي في فلسطين) إن اطلاق اسم النكبة على ما جرى عام ١٩٤٨ لهو ظلم للفلسطينيين إن ما حدث هو إبادة جماعية وتطهير عرقي ممنهج قامت به الصهيونية الإسرائيلية.
بالعودة إلى لعنة العقد الثامن تلك الفوبيا الأزلية (الديستوبيا) التي راحت تظهر جلياً وواضحاً في تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر مقالات كتبها قياديون سياسيون في دولة الاحتلال أو أدلوا بها عبر لقاءات تلفزيونية في الإشارة إلى النهاية المأساوية التي تتنظر الاحتلال .
يقول إيهود باراك في إحدى مقالاته عبر جريدة يديعوت أحرونوت يشير إلى أنه في تاريخ الشعب ( اليهودي ) لم يدم كيان أكثر من ثمانين عاماً.
وقبله كان نتنياهو عام ٢٠١٧ قد أشار إلى نفس المخاوف من عدم استمرار الكيان لأكثر من ثمانية عقود.
وغيرهم الكثير من رؤساء ووزراء ومؤرخين وصحفيين كلهم تنبؤوا بسقوط الدولة عن قريب ….
هذا الخوف من السقوط والزوال أرجعه كثير من المحللين الإسرائيليين إلى نشوب خلافات سياسية حادة في دولة الاحتلال وسيطرة حكومة يمينية متطرفة على سدة الحكم وقمع الحريات إضافة إلى تغلغل النيوليبرالية المتوحشة على الدولة وقضمها لكل شيء الأمر الذي سيؤدي إلى اندلاع مظاهرات واحتجاجات ستتطور إلى حرب داخلية إسرائيلية بين اليمين المتطرف وبين اليسار.
وهذا ما أورده أحد أقطاب المؤرخين الجدد آفي شلايم رفيق ايلان بابيه الذين كتبوا أن المشروع الصهيوني يأكل نفسه بسبب الانغلاق والتطرف… وسيؤدي إلى هلاكه.
لكن بعيداً عن تصريحات الساسة والقياديين والمؤرخين فهذه تبقى تحليلات سياسية ربما لا تدغدغ قلب القارئ أو تحاكي روحه بإيجابية لذلك دائماً إذا أردنا البحث عن جوهر المجتمع وخصوصية الفرد فيه ومظاهره ينبغي علينا التوجه نحو دراسة الأدب الخاص بهذا المجتمع.
لماذا الأدب؟
لأنه مرآة المجتمع وصورته في كل مرحلة وهو المعبر الأفضل عن حاله واستقراره وازدهاره وفساده وانكساره أو ربما قد يتحدث عن الخوف من سقوطه وزواله.
هذا الخوف الذي تجسد واضحاً وبدأ يتغلغل إلى أقلام وكراسات الكتاب والأدباء والشعراء الإسرائيليين .
فراح الأدب الصهيوني يتحدث عن أسباب السقوط فيما إذا كانت داخلية أو خارجية بفعل تنامي المقاومة الفلسطينية وازدياد قوتها واشتداد وتيرتها وهذا بالضبط ما أوردته رواية (القرش) التي كتبها عام ٢٠١٧ عميل الموساد السابق ميشكا بن دافيد والتي تنبأ فيها بنمو سطوة المقاومة الفلسطينية واحتمال شنها هجوماً مفاجئاً من غزة على الكيبوتسات في الغلاف واشتعال جبهة الشمال إضافة إلى تخلخل وانقسام الشارع الإسرائيلي الأمر الذي سيقود إلى الفوضى والخراب.. وأخيراً الزوال.
هذا الأدب الذي وسم حبر الأدباء والكتاب الصهاينة والذي راح يعرف باسم (أدب النهايات) فمتى بدأ ومن هم أهم كتابه؟ وماهي أهم الروايات؟
يشير الكاتب والناقد الفلسطيني والمترجم انطوان شلحت إلى تاريخ أدب النهايات الإسرائيلي أنه بدأ في ثمانينيات القرن الماضي وجاء على خلفيات متعددة أهمها أن الكتابة ينبغي عليها أن تتحرر وأن الكتابة تتطلع إلى الحقيقة أو تسمو إلى الأنقى.
وهنا يشير انطوان شلحت إلى أن هذا الأدب الذي سماه هو باسم (أدب الرؤيا القيامية) وكلمة قيامة هنا ستنقلنا فوراً لا إرادياً إلى التصريح الأخير الذي أدلى به رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو عن تسميته لهذه الحرب على غزة ولبنان باسم (حرب القيامة) وربما ذلك يحمل بعداً أو رمزاً من رموز الديستوبيا الإسرائيلية الواقعة لا محال.
وهنا وردت أسماء كثيرة لكتاب تناولوا هذا النوع من الأدب:
ففي رواية الطريق إلى عين حارود للأديب الإسرائيلي عاموس كينان التي كتبها عام ١٩٨٤ وترجمها للعربية انطوان شلحت يشير الكاتب إلى نشوب حرب أهلية داخلية إسرائيلية بسبب وقوع البلاد بأكملها تحت حكم شمولي قمعي متطرف ويضطر فيها بطل الرواية إلى البحث عن شخص عربي فلسطيني طلباً للمساعدة للخروج من تل أبيب والوصول إلى عين حارود تلك البقعة التي لم يستطع جنرالات العسكر السيطرة عليها وهي إشارة واضحة إلى الانقسام والخراب الذي سيحل بالدولة وأن السلام والنجاة لن يتحققا إلا بالتوافق مع الفلسطينيين لأنهم أهل الأرض والأعلم بشعابها.
وكثير من الروايات التي تناولت الأدب القيامي أو أدب النهايات ومنها (فندق يرمياهو) لبنيامين تموز ورواية (الملائكة قادمون) ليتسحاق بن نير ورواية (من أجل الرب) لهادي بن عامير ورواية (الثالث) ليشاي سريد أو كما في رواية (هوس الماء) لآساف بن جفرون وربما الرواية الأكثر سرداً للديستوبيا والخراب المؤسساتي وانهيار الدولة هي التي تجسدت في (٢٠٣٠) للروائي يغال سرنا تلك التي تتحدث عن أزمة اقتصادية واجتماعية بسبب النيوليبرالية المتوحشة التي سوف تنتج انقساماً وانهياراً مجتمعياً على صعيد البنية الداخلية لدولة الاحتلال هذه الرواية التي كانت فحوى دراسة قام بها الدكتور المصري إبراهيم نصر الدين دبيكي في كلية الآداب – جامعة طنطا والتي ألقى فيها الضوء بداية على أدب النهايات وخصص باقي الصفحات لدراسة هذه الرواية وأبعادها ومآلاتها وأحداثها.
لكن الأغرب هو أحداث رواية (حق العودة) لليو دي وينتر التي كتبها عام ٢٠٠٨والتي من قبيل المصادقة تدور أحداثها عام ٢٠٢٤ وتتحدث عن تحول الدولة إلى غيتو يهودي بفعل خسارة كثير من المدن تحت وطأة المقاومة والقصف الصاروخي .وغيرها الكثير من الروايات .
ويشير الناقد الإسرائيلي إريك جلاسنر أنه في الأعوام بين ( ٢٠٠٥-٢٠١٥) أصبح هذا الأدب سمة واضحة في أروقة الحبر الإسرائيلي وفحواه أن هناك امراً ما في الواقع الإسرائيلي الآني وربما المستقبلي ما يثير الرعب والخوف والرؤية المروعة عن الزوال.
فهل يكون أدبهم تنبأ بزوالهم وتحدث عن سقوطهم قبل السقوط.
لا نبوءة في ذلك.. ولكنها مسألة جذر وانتماء وهذا ما يؤكده الزمن في كل مراحله .